مجلة الرسالة/العدد 200/قرائي الذين يحبونني

مجلة الرسالة/العدد 200/قرائي الذين يحبونني

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 05 - 1937



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

لكل كاتب قراؤه. وما من كاتباً يعدم قارئاً من كل طبقة، ولكن المعول على الأوفياء الثابتين على الولاء، فإن هؤلاء طريق الرزق، ووسيلة الاطمئنان والدعة، ولولاهم لما عرف المرء متى يمكن أن يتاح له أن يأكل، وإن كان لا يجهل كيف يجوع. ولست اعرف ماذا يصنع غيري ليهتدي إلى طبقات قرائه، ولكني اعرف إن مصلحة البريد أغنتني عن عناء السعي ومشقة التفكير في الوسائل المعينة على الاهتداء، فإن رسائل كثيرة تأتيني منها فأستخلص منها العلم الذي اطلبه والمعرفة التي اشتهيها. وما اكثر ما قلت لنفسي أن الجاحظ وأبن المقفع وعبد الحميد الكاتب ومن إليهم من هؤلاء الزملاء والرصفاء، كانوا مساكين. أوه جداً - فما عرفت الدنيا في أيامهم مصلحة البريد. وقد كان من الصعب ولاشك أن يعرفوا مبلغ حب الجمهور لهم وإعجابه بهم وماذا كان يمكن أن يبلغ من رواج كتبهم لو أنها كانت تطبع وتباع في المكاتب، وقد حرمهم هذا الحال الاستقلال عن الأمراء ومن إليهم. ومن الصعب أن يعمل المرء في الظلام. نعم كان الواحد منهم لا يعدم تشجيعاً من الشعب، ولكن هذا كان فلتة لا تحسب ولا يعول عليها. ومن السهل أن يتصور المرء إن الجاحظ مثلاً كان يلقى في الطريق واحداً يتقدم إليه ويقول له: (اسمح لي. . هل أنت الذي يسمى الجاحظ؟.)

فيهز رأسه أن (نعم) وهو راجف القلب لأنه يخشى الاعتراف الصريح المقيد، لئلا يكون هذا السائل من الشرطة

فيقول الرجل: (لقد صدقوا. . اعني أن أسمه في محله. . على كل حال. . ثابر يا بني!. . فأني أتنبأ لك بمستقبل باهر. .)

ويربت له على كنفه ويمضي عنه مبتسماً، وعينه إلى الملك الذي ينبغي أن يكون محتفظاً بمكانة على يمينه، مرهف الأذن مقيماً سن القلم على الدفتر المفتوح ليقيد له هذه الحسنة - حسنة التبرع الكريم بالتشجيع

وإذا كانت الرسائل التي ترد إلي دليلاً على شيء، فأني أكون أحب الناس - أعني الكتاب - إلى ثلاث طبقات: - المرضى، واللصوص، وقد نسيت الطبقة الثالثة. . لا بأس من يدري؟. . ربما تذكرتها أثناء الكلام. وقد عرفت هذا من الرسائل التي يحملها إلي البريد، كما قلت. وهذا نموذج منها: (. . . . وبعد فإني لم اسمع باسمك من قبل، ولكني مرضت ودخلت المستشفى، وجاءني زائر فترك لي كتاباً أتسلى به، غير إني لم استطع أن أتصفحه في أول الأمر لشدة وطأة المرض، فلما خف قليلاً مددت يدي إليه وبدأت أطالع. وأؤكد إنه سرني جداً. وأنا صحيح الجسم في العادة، ولكن الأمراض لا أمان لها، كما تعرف، فأرجو أن تبعث إلي بمجموعة من كتبك كلها - ومعها جملة ثمنها - استعداداً للطوارئ فإن الحيطة واجبة وإن كان الأمر كله بيد الله

وتقبل سلام المعجب بك المعتمد بعد الله عليك)

وفي وسع القارئ أن يدرك مبلغ حيرتي، فإنه لا يسعني إلا أن أتمنى لمثل هذا الرجل الصحة والسلامة، ولكن المصيبة والبلاء العظيم إنه إذا صح وسلم كان خليقاً أن لا يعود إلى كتبي ليقرأها، فما العمل؟. . هذه هي المسألة - كما يقول هملت - وليس ذنبي إن الأمراض تحبب الناس في كتبي، فإذا كنت أسر حين أقرأ في الصحف إن الملاريا انتشرت فإن لي العذر، فما كان هذا ظني، ولا خطر لي قط على بال، ولكن مشيئة الله جعلتني مثل (الحانوتي) الذي يسره ويفرحه ما يحزن الخلق ويبكي المفجوعين. ولهذا ترونني إذا سمعت بفشو مرض أدخل مسروراً على أهل بيتي وأقول لزوجتي: (خذي يا امرأة. . (وألقي إليها بكل ما يكون معي، قل أو كثر) خذي وانفقي بلا حساب، فإن ما عند الله أكثر)

فتعجب وتسألني: (ماذا جرى؟. . . هل ربحت ورقة يانصيب؟.)

فأقول منكراً عليها هذا الخاطر: (وهل مثلي يعنى بورق اليانصيب؟ سبحان الله يا امرأة في طبعك!)

فتقول ضاحكة: (ولكن ألا تخبرني؟. . إنني أكاد أموت شوقاً إلى المعرفة)

فأقول وأنا أرمي إليها بالصحيفة التي قرأت فيها خبر المرض المتفشي، وعجز وزارة الصحة عن مكافحته: (خذي واقرأي، وأشكري الله، وقبلي يدك بطناً وظهراً، فلن نجوع أو نفتقر، مادام في الدنيا شيء اسمه مرض وشيء آخر اسمه وزارة الصحة. لقد جعلوها وزارة. . . رفعوها ورقوها ووسعوها. . أليس هذا باعثاً قوياً على الاطمئنان والثقة بالله؟)

وقد بالغت حين قلت إني محبوب من اللصوص وما أردت إلا أن لصاً واحداً - على ما يظهر لي الآن - هو الذي يحبني، فلقد تلقيت مرة كتاباً يذكر لي فيه إنه سمع باسمي وشهرتي، فعرف إني كاتب عظيم جداً، فهو يكتب إلي مستنجداً فقد اتهموه بسرقة كلب. والقضية معروضة على القضاء، وكان محبوساً رهن التحقيق، ثم أفرجوا عنه بالكفالة الشخصية، وهو يحتاج إلى محام يدافع عنه ولكنه لا مال معه فهل أستطيع أن أدله على محام كريم، أو أعينه بطريقة أخرى. .؟ وهو يترك الأمر بين يدي واثقاً من مروءتي وكرمي فإن مثلي لا يخيب من يقصده

هذا هو الزبون الجديد، وقد قلت لنفسي لما تلقيت هذا الكتاب العجيب: (والله نجحت يا مازني!. . بلغت شهرتك أخفى الزوايا وتغلغلت إلى لصوص الكلاب. . ما شاء الله!. أحسب أن اللص حين يخرج إلى السرقة بعد اليوم، ستقول له زوجته أو أمه أو لا أدري من غيرهما:

(هل أنت متأكد إن معك كل ما تحتاج إليه؟)

فيقول: (أيوه. . أيوه)

فتقول: (أحذر أن تكون نسيت الطفاشة!. . العدة كلها معك؟. .)

فيقول: (قلت لك أيوه. . ألا تسمعين؟)

فتقول: (والمازني؟. . هل أخذته معك؟. .)

فيقول: (أوه. . طول الليل وأنا أقرأ كتابه. . وهل أستطيع أن أعمل شيئاً دون أن اقرأه؟. . أتظنينني مغفلاً؟ أم تحسبين أني حديث عهد بالفن؟)

فتقول: (لا. . إنما أردت أن أطمئن. . وأسمع. . أمش بحساب. . والبس القفاز قبل أن تلمس أي باب أو مفتاح أو حائط. . حاذر!)

فيقول: (اطمئني. . كل شيء على ما يرام. . ومعي المازني فلا تخافي ولا تقلقي)

ويلمس صدره حيث وضع الكتاب تحت ثوبه

ولكل قاعدة شذوذ واستثناء. وقد حدث منذ بضعة أيام ما كاد يغريني بتغيير رأيي في طبقات القراء الذين يحبونني ويؤثرونني على من عداي من كتاب هذا الزمان. ذلك أني كنت مدعواً إلى مأدبة عشاء فأتفق أن أجلسوني إلى جانب سيدة عجوز شمطاء، ودار الكلام على الأكل وكان بعض الذين يخاطبونني يدعوني: (الأستاذ) والبعض يؤثر أن يرفعني درجة فيقول لي: (يا بك) ولكنه لم يعنى باسمي أحد كأنه عيب لا يليق أن يذكر ولاسيما على مسمع من السيدات

ثم التفت إلى العجوز وقالت: (إني سعيدة)

فقلت باختصار: (أهنئك)

فألحت في صرفي عن جارتي الأخرى، وكانت فتاة هيفاء نظيرة الحسن وصوتها كالتغريد

(صحيح. . سعيدة جداً. . كل كتبك قرأناها)

فتركت الفتاة وأدرت وجهي إلى هذه العجوز وسألت باهتمام: (صحيح؟)

فقالت باضطراب رابني: (كلها كلنا)

فقال مردداً قولها: (كلكم؟. . كلها. .؟ شيء جميل؟)

فقالت: (ابني على الخصوص. . إعجابه بك لا حد له)

فأردت أن استوثق وسألتها: (هل هو مريض؟)

قالت: (أعوذ بالله. . إن صحته جيدة جداً)

فقلت لنفسي إن هذا جديد، فيحسن أن أتقصى الأمر وسألتها: (ألم يصبه مرض قط؟)

قالت: (أبداً. . أبدا. . قوي جداً. . كسيد نصير)

قلت: (عجيب هذا. .)

فقالت: (كتبك كلها عندنا تراها في كل غرفة. .)

فسألتها: (أهي حسنة التجليد؟)

قالت: (لا. . كما اشتريناها. . كل بناتي وأحفادي يقرءونها ويحملونها معهم حيثما يكونون)

قلت: (شيء جميل)

فقالت: (أوه. . لشد ما يفرحون الليلة حين أقول لهم إني كنت جالسة إلى جانب تيمور بك)

إبراهيم عبد القادر المازني