مجلة الرسالة/العدد 201/القصص

مجلة الرسالة/العدد 201/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 05 - 1937


َصُ

من القصص العربي

ثقيل ما أظرفه

للأديب محمد فهمي عبد اللطيف

قال الفتى لصاحبه وهو يقص عليه تاريخه ويروي له من حوادثه: لقد نشأت يا صاحبي في البصرة، وقد كان والدي من أمجاد البادية، وأجواد العرب، قضت عليه شؤون الدنيا بالنزوح إلى ذلك المصر، يوم أن شب على جدرانه النعيم، وأشرقت في محلاته أنوار الحضارة، فنسلت إليه صنوف الناس من كل حدب، وفيهم طالب الكسب بالتجارة، والراغب في العلم بالتعلم، والطامع في الصلة بالشعر، والحريص على متاع الحضارة بالبذل، ولست أدري لأي أمر من هذه الأمور نزح والدي عن موطنه، ولكني أدري أنه ما كان في حاجة إلى مال، ولا هو من أهل الرغبة في العلم، فلعله كان لا يطمع إلا في نعيم الحضارة الوارف، يروي به جسمه ويمتع به نفسه. على أني سمعت بأنه كان مطلوباً بدم في إحدى القبائل فربما كانت هجرته فراراً من العدو وخوفاً من الانتقام

وليس تحقيق هذا مما يعنيني، وإنما أريد أن أقول لك: إن والدي لم يعرف للحضارة أساليبها، فعاش في حياته الجديدة على أوضاع الحياة القديمة، فالامتهان في نظره مهانة، والعمل في تقديره ذلة، والمال في يده شيء حقير تافه يبذره باسم الجود، ويسرف فيه بلفظ الإنفاق، ففي كل عشية له مجلس عامر بالغناء والشراب، وفي كل ضحوة سامر حافل بالإخوان والأصحاب، وبين هذه وتلك موائد ممدودة، وولائم قائمة، كأن أيام عندنا عرس دائم، فكان أن درجت في أعطاف هذا البذخ، ومررت على هذه الحياة اللاهية المسرفة حتى كنت فتى يافعاً ولم تعرف الأيام مني غير اللهو المسرف، والتبذل المفرط، والبطالة المستهترة. ليس في تفكيري أن أعمل، بل ليس من همي إلا أن أشبع الجسد من لذائذ الحضارة ومتاعها الموفور

ومضت السنون بعضها في أعقاب بعض، ونحن على هذه الحال من السرف والبطالة، وكان لابد للمعين أن ينضب، فقل المال كثير، وتضاءلت الثروة الضخمة، ولم يلبث والدي أن مات بعمره، وإذا كان لي أن أنسى فلن أنسى ما حييت يوم أن عدت من قبره أتكسر على نفسي كما يعود القائد المخذول من ساحة الحرب، أحصي المال المتروك فلا أقع على شيء، وأتلمس الأصحاب فلا أقف لهم على ظل، وأنظر إلى نفسي فأجدني كالآلة المعطلة لا أصلح لشأن من شؤون الحياة، حتى ليرهقني سد الرمق في مجتمع صاخب عجاج يتدافع أهله بالمناكب في طلب الرزق، ويقتتلون على الفوز باللقمة الحقيرة، وأن من الصعب على نفسي أطلب العيش من مروءات الناس، وأن أقيم الأود من فضلهم ومعروفهم. لأن ذل السؤال صعب على نفس يجري في عنصرها إباء البادية، وتكنفها كرم النشأة، وقد قيل: إن من طبع الكريم أن يخفى عسرته ويكتم شدته:

يحني الضلوع على مثل اللظى حرقا ... والوجه غمر بماء البشر ملآن

ويعلم الله لقد كتمت ما استطعت، وصبرت حتى أرهقني الصبر وكنت كل يوم أؤمل في غد فلا يكون الغد إلا أشد. آه يا صاحبي لشد ما ضمني الدهر ضماً لا رحمة ولا شفقة! ولشد ما عركتني الأيام عرك الرحى بثفالها كما يقولون! ولا أكتمك أني فكرت في الخلاص من ذلك بالموت، ولكني خفت أن يقول الناس في شأني: جبان فر من معركة الحياة، ومارق تمرد على حكم القدر؛ وعملت على أن أصل نفسي بموطن العشيرة في البادية، ولكني تذكرت الدم الذي كان مطلوباً به والدي فخشيت الهلاك من تلك الناحية، لأن البدوي حريص على ثأره مهما طال به الزمن، حتى ليطلبه في الأجيال المتعاقبة

فلما اضطرب بي الفكر، وتبلبل مني الخاطر، سألت صاحباً من أهل الرأي لعله يشير بما ينفع، فقال لي: لو ذهبت فتسببت. فقلت: ما لي صناعة، ولا عندي بضاعة! فقال: على كل حال: انك امرؤ فيك ظرف، ولك لطف، وانك لو انحدرت إلى بغداد لا تعدم لك في مجالسها السامرة، وأنديتها الساهرة. فرأيتها نصيحة نافعة من الرجل، وقلت لعل الأخذ بها يجدي، فأني أحفظ عن والدي شيئاً من طرائف الأعراب وقصص البادية. ولقد أكسبتني الحياة السالفة دراية بأداء الحديث، اختار له موضعه، وأخرجه مخرجه، وأعرف كيف أصل به إلى نفس السامع، وأستطيع أن أجري النادرة الطيبة فأهز القلوب وأحرك المشاعر. على أني قدرت في ذلك السفر منأى يسترني عن أخوان أكتم عنهم حالي، ويخجلني أن يروني أتدنى في طلب الرزق، فعزمت على تحقيق الفكرة، ولم يبخل على الرجل بزاد السفر، وسرعان ما كنت في الركب السائر والقافلة الراحلة.

هبطت بغداد يا أخي أجهل ما أكون بمسالكها ومحلاتها، فأخذت في السير على هدى السابلة، وإرشاد المارة، حتى انتهيت إلى دارة الخلافة، ونزلت بدار الضيافة، وكأن نحس الطالع قد سبقني إلى ذلك البلد الأمين، إذ علمت أن الخليفة المأمون قد حرم الفناء وشدد فيه، وأمسك على الناس أبواب اللهو والاستهتار، فانفضت الملاعب والمشاهد، وأعتمت الأندية والسوامر، وصار ليل المدينة ليلاً محلولكاً مملولا، لا يرن به طاس ولا يحن فيه مزهر، فأيقنت بنحس السفرة وحبوط المسعى، وتمثلت لي الدنيا في مثل كفة الحابل، وهانت علي النفس العزيزة، إذ لم أجد أمامي طريقاً للعيش غير التساقط على بيوت أهل الفضل والخير، أتدسس إلى موائدهم، واتقحم على ولائمهم، وأنف في طريقهم، وأجري في ركبهم، فلم تمض أيام حتى كنت قد وقفت على جميع أعيان المدينة ووجوه القوم، وعرفت مراتبهم في الجود والخير، وتبينت أساليبهم في الحياة ونظام العيش، وعرفوني هم كذلك متطفلا بغيضاً وفضوليا ثقيلا!

فأني لفي يوم خرجت فيه إلى الجسر، علني أجد أميراً أتبعه، أو كبيراً أمتاح من فضله، فلم أذهب غير بعيد حتى رأيت إسحاق الموصلي يتحدث إلى علي بن هشام بكلام يخفيه، فأرهفت أذني أتسمع فسمعته يقول: لقد زارتني اليوم فلانة يا علي، وهي كما تعلم من أحسن الناس غناء، وأطيبهم محضراً، فبحياتي إلا كنت اليوم عندي، فنجلو السمع ونمتع القلب، وننتهزها فترة من فترات العمر التي حرمناها، ونعيدها ذكرى من ذكريات الأيام الماضية، فوعده بالحضور ومضى كل لسبيله. فقلت في نفسي: يا لها من فرصة سانحة لابد أن أحتال في اغتنامها! وأخذت أفكر وأقدر، وأسعفتني الفكرة بالحيلة النافذة، فملت إلى من أعارني الزي النبيل والمركب الفاره، ومضيت إلى منزل علي بن هشام فقلت لحاجبه: عرف الأمير أن رسول صاحبه إسحاق الموصلي بالباب، فدخل الحاجب وخرج مسرعا يحمل الأذن بالدخول، فدخلت على علي فرحب بي أجمل ترحيب، فقلت له: صاحبك إسحاق يقول لك إنك تعلم ما اتفقنا عليه فلم تأخرت عني؟ فقال: الساعة وحياتك نزلت من الركوب، والساعة أغير ثيابي وأوافيه، فأمهله قليلاً وإني على أثرك.

فاستويت على دابتي، ووافيت منزل إسحاق، فقلت للحاجب عرف الأمير أني رسول علي بن هشام، فدخل الحاجب وخرج مسرعاً يقول: ادخل يا سيدي جعلت فداك، فدخلت فسلمت، فنهض إلي إسحاق في بشاشة، فقلت: أخوك علي يقرئك السلام، ويقول لك الساعة نزلت من الركوب، وقد غيرت ثيابي وتأهبت للمسير تحقيقاً لوعدك فما ترى؟ فقال: قل له يا سيدي قتلتنا جوعاً، ونحن من انتظارك على أحر من الجمر، فبحياتي إلا ما أسرعت

فعدت إلى منزل علي، وقلت للحاجب عرف الأمير أن صاحبه أمرني أن لا أبرح أو يجيء، فقد طال عليه الانتظار، وأضر به الجوع. فأسرع علي فغير ثيابه، وركب دابته، وسار وسرت من خلفه، حتى نزل بباب إسحاق فنزلت معه، وبعد السلام أخذنا مكاننا على المائدة. وإسحاق لا يشك أني أخص الناس بعلي، وعلي لا يشك أني أخص الناس بإسحاق، فبالغ كل في إكرامي وإيثاري باللقمة الشهية، والهبرة الوثيرة. ولما قضينا حق الخوان أو حق البطن انصرفنا إلى الشراب، وخرجت إلينا جارية كأن بشاراً كان ينظر إليها من وراء الغيب إذ يقول:

تلقى بتسبيحة من حسن ما خلقت ... وتستفز حشا الرائي بأرعاد

كأنما صورت من ماء لؤلؤة ... فكل جارحة وجه بمرصاد

ولم تلبث أن حملت عودها وغنت صوتاً فعلت فيه ما أحل الله وحرم، ودارت الأقداح، فشعشعت القلوب، وأيقظت العواطف وأفعمت النفس بالصفو والأنس، وبقينا في هذا حتى هم النهار بالتصرم، وألح علي البول فنهضت إلى الخلاء، فسمعت علياً يقول لإسحاق: ألا ما أخف روح هذا الفتى يا سيدي وما أطيب نوادره! فمن أي وقت كان لك؟ فقال إسحاق: أو ليس هو بصاحبك؟! قال: لا وحياتك ولا أعرف أني رأيته قبل اليوم، وأنه جاءني برسالتك يستعجلني للحضور وقص قصته في ذلك، وقص إسحاق مثلها، وداخله من الغيظ ما لم يملك معه نفسه، فقال: أنها لكبيرة يا صديقي على النفس، طفيلي يستجرئ على فيستبيح النظر إلى حرمي والدخول إلى داري! أبلغنا من الهوان إلى هذا الحد، وبلغت الصفاقة بهذا وأمثاله إلى هذا القدر؟ والله لا بد أن أنتقم. وسأعرف كيف أصون بيتي من كل رذل ثقيل. يا غلمان! السياط والمقارع. أعدوا عدتكم، واحشدوا جمعكم. وقامت في الدار جلبة ارتجت لها الجدران، وارتاعت لهولها الجيران، وكل هذا وأنا في الخلاء أفكر وأقدر؛ وكانت عزيمة صارمة، إذ خرجت على القوم في ثبات واطمئنان، كأني لا أعبأ بأمرهم، ولا أحفل بشأنهم، وأقبلت على إسحاق فقلت: وماذا بقي من جهدك بعد ذلك؟ ألا ويل لك يا رجل ثم ويل! لقد كان أولى بك أن تعرفني قبل هذا كله، فكنت هونت على نفسك هذا كله؟! قال: ومن تكون؟ قلت أنا - كما تقول - الثقيل البغيض المتطفل الذي اجترأ على بيتك واستباح النظر إلى حرمك. لا: بل أنا الذي أعددت له السياط والمقارع، وانتدبت لضربه الجلادين، وأقسمت بكل محرجة ألا تتركه إلا لحماً من غير دم، وعظماً من غير لحم، ولو علمت الواقع لعلمت أني أنا القادر الذي عفوت، والقوي الذي سامحت، وأني لا أستطيع أن آخذك بجرمك فأدفعك إلى الهلاك أنت وصاحبك دفعاً. فشده الرجل بما سمع، فقال: ولكن بربك ألا أخبرني من أنت؟ قلت. أنا صاحب خبر أمير المؤمنين وعينه والأمين على سره، ووالله لولا تحرمي بطعامك، وممالحتي بحديثك، وأني أعرفك أنت وصاحبك على الإخلاص للخليفة والطاعة له، لتركتكما في عمى من أمري حتى كنت تعرف عاقبة حالك، وإقدامك على ما فيه هلاكك. فنهض إلي الرجلان يسكتاني في استعطاف، ويعتذران في انكسار. وقال إسحاق: فديتك يا سيدي! إنّا لم نعرف حالك، ولم نتبين أمرك، فلنا العذر، ونسألك الصفح، ونضرع إليك في كتمان ما كان، وأنت بنا المحسن المجمل. فوعدتهما بالخير وقلت: لا يخون العهد إلا لئيم وحاشاي. وجاء وقت الانصراف فخلع علي إسحاق ثياباً فاخرة، وأمر لي بمركب نبيل، ودفع إلي بصرة فيها ثلاثمائة دينار، ونهض في وداعي حتى مضيت.

فلما كان من الغد دخل علي بن هشام على المأمون فقال: كيف خبرك يا علي في أمس؟ قالها على حسب ما يجري في السؤال وقد كانت عادته، ولم يفطن لها علي فتغير لونه، وانخذلت به رجلاه، إذ لم يشك في أن الحديث قد رفع إليه، فأكب على البساط يقبله ويقول: يا أمير المؤمنين العفو! يا أمير المؤمنين! الصفح الجميل! يا أمير المؤمنين الأمان! فوالله لن تعود، قال: لك الأمان ولكن بماذا جئت يا علي؟ فأخبره الخبر، فضحك المأمون حتى كاد أن يغشى عليه، وقال: إنه (لثقيل ولكن ما أظرفه)، وأرسل في طلب إسحاق فلما حضر قال: هيه يا إسحاق؟ كيف كان خبرك أمس؟ فأخبره كخبر علي بن هشام، والمأمون يضحك ويصفق من العجب، ثم قال بحياتي ما في الدنيا أملح من هذا، فاطلب الرجل وجئني به. واجتهد إسحاق في ذلك حتى وجدني، فكنت على ما ترى يا صاحبي في المقدمين من ندماء المأمون، والأخيار من أصفيائه، ولا تنس أن هذه قد حملت المأمون على أن يرد على الناس حريتهم، فأباح لهم الغناء، وتركهم يأخذون بأسباب الأنس والسرور

محمد فهمي عبد اللطيف