مجلة الرسالة/العدد 201/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 201/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 05 - 1937



قصة المكروب كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

مراقب مصلحة الكيمياء

كان حظ ارليش من التوقر والرزانة حظ الفقير المعدم، وذلك من حيث سلوكه ومن حيث آراؤه سواء سواء. أما من حيث سلوكه فكان يرسم صوراً من نظرياته في أي مكان اتفق على كم قميصه وعلى نعل حذائه؛ وكان يرسمها على صدر قميصه فستصرخ زوجته، أو على صدر قميص صاحبه إذا خان الحظ هذا الصاحب فلم يستطع أن يفلت قبل أن تقع الواقعة. انعدام فيه الحس بالذي يليق والذي لا يليق فكان كولد صغير أولع بالأذى. أما من حيث آراؤه فكان يقضي الأربع والعشرين ساعة التي يحتويها اليوم يتخيل الأسباب الغريبة المستحيلة ليفسر كيف يتحصن الإنسان من الأدوء، أو كيف نقيس الحصانة، أو كيف تنقلب الصبغة إلى رصاصة مسحورة؛ وخلف وراءه صوراً من هذى الخيالات تجدها في كل بقعة وناحية

وبالرغم من هذا كان أدق الناس في التجارب التي يجربها وكان أول من رفع عقير بالتسخط على صُيَّاد المكروب لتخبطهم في طرائق للبحث مهوشة ولتوقعهم كشف الحقائق العاصية بمجرد سكب شيء من هذا على شيء من ذاك. وفي طلب الدقة قتل إرليش في معمل كوخ في تجربته خمسين فأراً حيثما كان يكتفي من قبله بقتل فأر واحد، وذلك لاستخلاص قوانين بسيطة سهلة تتعبر بالأرقام في سهولة خال أنها تفسر لغز الحصانة وسر الموت والحياة. وهذه الدقة التي لم تنفعه في حل هذه الطلاسم أعانته أخيراً على اصطناع رصاصته المنشودة

- 3 -

هكذا كان إرليش مرحاً فرحاً متواضعاً لا يفتأ يجد النكتة عن نفسه، ويولد الفكاهة من سخافته فينطلق بها لسانه غير باسم ولا هازل، وبهذا كسب الأصدقاء كسباً هينا. وكان ماكرا، فقصد إلى أن يكون بعض هؤلاء الأصدقاء من ذوي الجاه والنفوذ ولم يلبث أن صار في عام 1896 مديراً لمعمل استقل به وحده؛ وكان اسمه المعهد البروسي الملكي لامتحان الأمصال ومكانه في استجلتس بالقرب من برلين؛ واحتوى على حجرتين صغيرتين كانت إحداهما مخبزاً وكانت الأخرى اصطبلا. قال إرليش: (إننا نخيب لأننا لا نتوخى الدقة في أعمالنا)، يشير بذلك إلى خيبة بستور الصغرى في ألقحته، وخيبة بارنج الكبرى في أمصاله. وألح يقول: لابد من وجود قوانين رياضية تجري على سننها هذه الأمصال وهذه السموم وأضدادها). وظل هذا الرجل يضطرب مع خياله غادياً رائحاً في هاتين الحجرتين المظلمتين مدخناً مفسراً مجادلاً معاتباً مدققاً في القياس ما أمكنته الدقة، بين قطرات من أحسية مسمومة وأنابيب مدرجة مقدرة من أمصال شافية

نعم لابد من قوانين! ويقوم على تجربة يؤديها. ويخرج من التجربة على نتيجة باهرة، فيقول: (أتعلمون لم كانت هذه النتيجة هكذا؟) وإذا به يخطط صورة غريبة للسم تخبر عن مظهره كيف يكون، وإذا به يخطط صورة أخرى لخلية الجسم تنبئ عن مظهرها الكيماوي كيف يجب أن يكون. ويستمر يعمل، وتستمر ألوف الخنازير الغينية تسير إلى موتها صفاً صفاً ويجد أن ما يختلف مع نظريته البسيطة من النتائج أكثر مما يأتلف بها، فلا تروعه هذه الاستثناءات لقاعدته، ويَدِرْ عليه خياله الخصب فيخترع قواعد أخرى تتولى أمر هذه الاستثناءات. ويخطط في سبيل الشرح صوراً أغرب وأعجب. إلى أن وصل إلى أن وصل إلى نظريته الشهيرة عن الحصانة المعروفة بنظرية السلسلة الجانبية فصارت أحجيةٌ مغلقة لا تكاد تفسر شيئاً ولا تَقدر على التنبؤ بشيء. وظل إلى آخر أنفاسه يعتقد بصدق هذه النظرية السخيفة. ودقها النقّادون دقا من كل جانب وفي كل بقعة من بقاع الأرض، وظل متشبثاً بها. وإذا أعوزته التجربة في الرد على منتقديه وإفحامهم بالحجة لجأ إلى المكابرة والمماحكة، وكان يدفع عن نظريته في المؤتمرات الطبية فينهزم فيها فيخرج منها يسب خصومه علانية وهو في طريقه إلى البيت، وفي الترام يرفع عقيرته بالسباب وهو فرح منبسط، فيغصب الكمساري فيعيد السباب تكراراً يتحداه به أن ينزله من الترام إذا هو استطاع

ولما جاءت سنة 1899 كان إرليش بلغ عامه الخامس والأربعين. فلو أنه مات عندئذ لأدخله التاريخ في زمرة الخائبين. فكل المجهود الذي بذله في البحث عن قوانين تجري عليها الأمصال لم يجئه إلا بصور من نتاج الخيال لم تقنع أحداً، وهي على كل حال لم تفد شيئاً في سبيل تقوية أمصال ضعيف أثرها في العلاج، خاب إرليش فما الذي هو صانعه بعد هذا؟ وفكر وخطط، ثم اتصل ببعض من عرف من رجال ذوي جاه وسلطان، فمالقهم وداهنهم وسلب ما أراد من عقولهم، وإذا بك تجد خادمه الأمين الثمين، السيد المحترم قدريت، قضَّاء الحاجات من كل ما هب ودبَّ، إذا بك تجده قائماً في معمل سيده في استجليتس يحل أجهزته للرحيل عن برلين ومدارسها الطبية وجلبتها العلمية إلى مدينة فرنكفورت على نهر المين. وتسألني ما الذي جذبه إلى هذه المدينة؟ إن الذي جذبه إليها أن بقربها تلك المصانع الشهيرة التي يخرج فيها أعلام الكيمياء تلك الأصباغ الجميلة الشتيتة العديدة عدا لا يناله الحصر، الجميلة جمالاً لا يؤديه الوصف، فكأنها باقات الزهر ازدهاراً وابتساما. وجذبه إليها أن بها أغنياء من اليهود عُرِف عنهم حب المجتمع وسهولة بذل الذهب في خيره. والذهب والذكاء والحظ والصبر أمور أربعة يراها إرليش لازمة لنجاحه فيما قصد إليه. وإذن جاء إرليش إلى فرنكفورت، أو على حد قول السيد المعظم المحترم النافع قدريت: (جئنا إلى فرنكفورت): ويعلم الله ما عانى قدريت في نقل تلك الأصباغ والمجلات الكيماوية المتناثرة بما فيها من هوامش كتبها إرليش وما بصفحاتها من طيات كان يطويها عليها ليرجع بها إليها

أظنك أيها القارئ تخرج من قراءة قصة المكروب هذه على أن صيادة الميكروب القويمة لا يصلح لها إلا نوع واحد من البُحَّاث، باحثٌ يعتمد على نفسه وحدها كل الاعتماد، باحث لا يلقى بالا إلى ما يجده غيره من البُحَّاث، رجل يقرأ الطبيعة ويعاف الكتب. إذن فاعلم أن إرليش لم يكن هذا الرجل، فإنه قل أن نظر في الطبيعة إلا أن تكون ضفدعته المختارة التي حفظها في جنينته فأعانته باختلاف مناشطها على التنبؤ بالجو ما سيكون - وهذه الضفدعة تولى أمرها السيد قدريت. فكان أول واجباته أن يأتيها بكثير من الذباب. . . . . لا، لم يكن إرليش يقرأ الطبيعة بل يقرأ الكتب ومن هذه جاء بكل أفكاره

عاش بين الكتب العلمية، واشترك في كل مجلة كيماوية تخرج في لغة يقرؤها، وفي مجلات أخرى تخرج في عدة لغات لم يكن يقرأها. وتبعثرت الكتب في معمله وانتشرت، فكان يجيئه الزائرون فيقول لهم: (تفضلوا فاجلسوا) فإذا نظروا حولهم لم يجدوا موضعاً يجلسون فيه. وكانت المجلات تطل من جيوب معطفه - هذا إذا تذكر ولبس معطفاً، وتدخل الخادمة بالقهوة إليه في الصباح فتتعثر في أكوام من الكتب لا تفتأ تكبر يوماً عن يوم. فهذه الكتب والسجائر الكبيرة الغالية استعانت جميعاً على إفقاره. وتراكمت الكتب أكواماً على أريكة مكتبته فعششت الفئران فيها. وكنت تجده إما قائماً في تلوين باطن حيواناته بأصباغه وتلوين ظاهر نفسه بها، وإما قاعداً ينظر في هذه الكتب. وكل ذي بال تجده في هذه الكتب تجده في رأس إرليش ينضج ويختمر ويستحيل إلى تلك الآراء الغريبة البعيدة، ثم تظل مخزونة هناك حتى تستخرجها الحاجة. هكذا كان إرليش يأتي بآرائه. وإنك لن تستطيع أن تتهمه بسرقتها من آراء غيره، فإنها بين دخولها رأسه وخروجها منه تنطبخ انطباخاً يفقدها كل معالمها الأولى

وجاء عام 1901 فبدأ العام الأول من أعوامه الثمانية التي قضاها يبحث عن رصاصته المسحورة. ففي هذا العام قرأ أبحاث ألفنس لفران وهو إن ذكرت الرجل الذي كان اكتشف مكروب الملاريا. وكان لفران أخذ في هذه الأيام الأخيرة يشغل همه بالأحياء الحيوانية الصغيرة المسماة بالتريبنسومات وكانت تدخل إلى الخيول فتعيث في مؤخرها وتصيبها بالداء المعروفة بمرض الورك وكان لفران حقن هذه الشياطين المزعنفة في الفئران فوجدها تقتل من المائة مائة. وجاء ببعض هذه الفئران وهي تعاني المرض فحقنها بالزرنيخ تحت جلدها فوجد الزرنيخ قد أفادها بعض الشيء وقتل كثيراً من التريبنسومات التي تعيث بالفساد فيها ولكنه مع ذلك لم ينج منها فأراً واحداً. وإلى هذا الحد وقف لفران

وما عتم إرليش أن قرأ هذا حتى صاح: (هذه فرصة عظمى، هذا مكروب أنسب ما يكون للبحث، فهو كبير يرى في سهولة، وهو يربى سهلاً في الفئران، وهو يقتلها دائماً فلا يخيب مرة واحدة. فأي مكروب خير من هذا في البحث عن الرصاصة المسحورة التي تقتله! فمن لي بصبغة تقدر على شفاء فأر واحد لا أكثر شفاء شاملا كاملا!)

(يتبع)

أحمد زكي