مجلة الرسالة/العدد 203/رسالة العلم
مجلة الرسالة/العدد 203/رسالة العلم
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي بك
مدير مصلحة الكيمياء
وكان يضحك كلما جاء النبأ بأن بعض أعوانه يقول عنه إنه مخبول، كان في كل حجرة من هذا البيت وفي كل مكان، ولكنك دائماً مستطيع معرفة مكانه وحصره في الناحية التي هو فيها وذلك من صوته الذي لا يفتأ يتردد ينادي في الردهات: (يا قدريت. . . يا قدريت! أين سجائري. . . هات مائي المعدني. . .!)
- 5 -
وخاب أمر الأصباغ خيبة كبرى، وجرى الحديث تمتمه بين الكيميائيين أن إرليش رجل غبي لا يفهم، ولكن يجب أن تذكر دائماً أن إرليش كان يقرأ الكتب، فذات يوم كان جالساً في مكتبه على كرسي خلا مصادفة من الكتب التي تراكمت عليه وعلى غيره. وكان يقرأ في المجلات الكيمياوية كبعض قدماء الحكماء يبحثون عن حجر الفلاسفة، فإذا به يقع على عقار من أخبث العقاقير. وكان اسمه أتكسيل ومعناه غير السام، وكان هذا العقار شفى الفئران من مرض النوم، أو كاد؛ وكان قتل فيراناً ليس بها مرض النوم؛ وكان قد جرب في بعض أهل السواد في أفريقا عسى أن يشفيهم من مرض النوم فلم يشفهم، بل أصاب عدداً وفيراً منهم بالعمى فتم عماهم قبل أن يدركهم الموت من دائهم. فهذا عقار مروع لو أن مركبه كان حياً لأختزى منها وأستبرأ. وكان تركيبه من حلقة بنزين، وهي مكونة من ست ذرات من الكربون قامت في حلقة كالخاتم كأنما يطارد بعضها بعضاً في دائرة كالكلب يدور حول نفسه يريد أن يعض ذيله؛ ويتركب عدا ذلك من أربع ذرات من الأدروجين، وشيء من النشادر، وبعض أكسيد الزرنيخ، وهذا الأخير يعلم الناس أنه سم زعاف.
قال إرليش: (علينا أن نغير من تركيب هذا العقار قليلاً) قال هذا وهو يعلم أن الكيميائيين الذين ابتدعوه قالوا إنه تركب بحيث أن أي تغيير يلحقه يفسده؛ ولكن إرليش لم يستمع لما قالوا، وظل يقضي بعد ظهر كل يوم في معمله وحده يبذل في العمل كل نشاطه. وكان معملاً ليس كمثله معمل في الدنيا فلم يكن به معوجات ولا كؤوس ولا قنينات ولا ترمومترات ولا أفران. حتى ولا ميزان واحد. كان في فقره كمنضدة صيدلاني بقرية يمزج عليها ما يطلب إليه من بسائط الأدوية عند فراغه من مكتب البريد الذي يتولى إدارته أيضاً. فان كان بينهما فرق فهو في أن معمل إرليش كانت في وسطه منضدة كبيرة جداً ترصصت عليها صفوف وصفوف من قنينات، قنينات عليها أسماء أوراق باسمها، وقنينات ليس عليها أسم لها، ثم قنينات عليها أسماء لا تقرأ من سوء ما كتبت أو مما سال على ظواهرها من بواطن القنينات من أصباغ قرمزية طمست أسماءها. ولكن إرليش وعى كل تلك الأسماء برغم هذا. ومن وسط أحراج الزجاجات هذه خرج رأس مصباح بنسن واحد يبعث فوق أرؤسها بلهبه الأزرق. فأي كيميائي لا يضحك من هذا المعمل؟
وفي هذا المعمل لعب إرليش بعقاره اتكسيل. وكم صاح وهو يبعث به: (هذا جميل)! (هذا بديع)، (هذا فوق التصديق)، وهو أثناء ذلك يملي على الآنسة مركرت ويا طول ما صبرت، أو يصرخ إلى السيد قدريت في طلب هذا أو ذاك. وشاءت الأقدار أن تمنحه ذكاء كيماوياً شاذاً تمنحه البحاث أحياناً ممن ليس في مقدورهم بالطبع أو بالتطبع أن يكونوا كيماويين، فإذا به يجد أن هذا العقار قابل للتغيير، لا قليلاً بل كثيراً، وأنه يمكن تشكيله أشكالاً عدة لم يسمع بها من قبل، دون أدنى مساس بما بين الزرنيخ وحلقة البنزين.
(أنا أستطيع أن أغير الأتكسيل). وخرج يهلع بلا قبعة ولا معطف إلى معمل برتهايم معمل كيميائيه الأول أو رئيس أرقائه، وصاح فيه: إن الأتكسيل يمكن تغييره؛ ولعلنا نستطيع تغييره إلى مائة مركب، أو إلى ألف مركب من مركبات الزرنيخ. وهاك كيف يكون هذا (يا عزيزي برتهايم). وأخذ يشرح ألف طريقة لإحداث هذا التغيير. فماذا صنع برتهايم؟ بالطبع انصاع، وكيف يستطيع أن يقف جامداً أمام (يا عزيزي برتهايم)؟
وجاءت سنتان أشتغل فيهما كل من في المعمل من ألمانيين ويابانيين، ومن بعض اليهود، وكل من فيه وما فيه من رجال وفئران، غير ناسين الآنسة مركرت ولا الآنسة ليوبلد وغير ناسين السيد قدريت بجلال قدره. اشتغلوا جميعاً وكدحوا كدحاً، وأجهدوا أنفسهم إجهاداً، في مثابرة ومصابرة، حتى صار المعمل كبعض مصاهر الجن يعمل فيها كل عفريت مريد. وفيه جربوا هذه المادة، ثم هذه، حتى بلغ ما امتحنوه من مركبات الزرنيخ 606 مركب وقعوا جميعاً تحت تأثير عفريتهم الأكبر، فلم يفرغ أحدهم ليفكر في بطلان ما يصنعون، وفي استحالة ما يطلبون، وهو قلب الزرنيخ من سم معروف محبب لدى كل مجرم قاتل، إلى دواء وشفاء لم يجزم أحد بجواز وجوده، لداء لم يحلم إرليش أبداً بجواز شفائه. نعم وقع هؤلاء الأرقاء جميعاً تحت تأثير إرليش فكدحوا على نمط لا يجري عليه الرجال في كدحهم إلا إذا حفزهم إليه رجل متعصب عصي مثله، رجل خدد العزم جبهته ورقق حب الخير من عينيه.
وغيروا الأتكسيل! واشتقوا من تركيبه مركبات زرنيخ عجيبة شفت الفئران فعلاً. ويكادون يصيحون صيحة الفرح والنصر، ولكن الحظ يدير لهم ظهره فيجدون أن المكروب الفظيع، مكروب داء الورك، يذهب حقاً من الفئران، ولكن الزرنيخ يحيل دماءها الثخينة إلى سائل رقيق، أو هو يصيبها بالصفراء فتقتلها. . . . . . ومن أدوية الزرنيخ هذه ما جعل الفئران ترقص رقصاً، فهل تصدق هذا يا صاحبي! نعم جعلتها ترقص رقصاً، ولم ترقص دقيقة ثم تسكن، بل تدور ثم تدور، وتنط ثم تنط طول حياتها. عذاب مرير لها بعد شفائها من دائها ما كان يخطر على بال الشيطان لو أراده. ضاع الأمل في الدواء الكامل، وأي أمل لا يضيع بعد الذي كان. إلا أمل إرليش. كتب يقول: أنه ليسرنا أن نجد أن الضرر الوحيد الذي أصاب الفئران من الدواء أنه قلبها فصارت فئراناً راقصة. والذين يزورون معملي سيدهشون لكثرة ما يجدون فيه من الفئران الراقصة. . .) فأي رجل ملئ بالأمل والحياة!
واصطنعوا مركبات لا حصر لها؛ وكان جهادهم في كل هذا جهاد المستيئس المستبسل حين لا أمل ولا رجاء. وطلع لهم فيما طلع أحجية غريبة: وجد إرليش أن جرعة الزرنيخ الكبيرة يعطاها الحيوان دفعة واحدة تكون خطرة على حياته فجزأها إلى أجزاء صغيرة وأعطاها إياه ورجا الخير من بعد ذلك، ولكن النحس تبعه بالخيبة، فالتريبنسومات اعتادت بالتدرج على الزرنيخ فتمنعت عليه ورفضت أن تقتل به. والنتيجة أن الفئران مشت إلى فنائها أفواجاً أفواجا.
فهذا ما كان مآل المركبات الكيمياوية الزرنيخية الخمسمائة والخمسة والتسعين الأولى، تتابعت جميعاً يحدوها الرجاء وانتهت جميعاً إلى نهاية واحدة متكررة فاشلة تسقط لها القلوب في الصدور، ولكن بول إرليش ثبت على أبتسامته، وظل ينعش نفسه بأقاصيص يخترعها عن دواء جديد مؤمل منشود. وعلم الله وأكدت الطبيعة ما كانت إلا أقاصيص أكاذيب لا تحتمل نقداً ولا تجيزها طبائع الأمور. وأخذ يرسم الرسوم لبرتهايم ورجاله، رسوماً خيالية لمركبات زرنيخية علموا في قرارة أنفسهم وهم الخبراء أنها لن تكون. وظل يرسم لهم ثم يرسم، وهم يعلمون من الكيمياء فوق ما علم حتى ملأ بمخطوطاته أوراقاً لا عد لها. ورسم لهم في المطاعم على جداول المأكولات، وفي الخمارات على جداول المشروبات. وهال رجاله فقدانه الحس بما بين الممكن والمستحيل، ولكنهم عدتهم حماسته التي لا تحد، وجموحه الذي لا يرد، وعناد البغال الذي لا تنفع معه مجادلة أو مسايسة. قالوا: (ما أجمل تحمسه وتحرقه!)، وتحرقوا مثله. وانتهى إرليش بأن استنفد كل ما عنده من جهد، وأحرق شمعته من طرفيها، حتى بلغ أمله المنشود، وطلع عليه يومه الأسطع المأمول، وذلك في عام 1909.
- 6 -
أشعل شمعته من طرفيها، وفعل ما فعله طارق حين حرق سفائنه، لأنه كان قد فات الخمسين ربيعاً ولم يبق من عمره غير القليل القصير. وبذلك عثر على المركب الشهير برقم 606. وأعلم أنه ما كان بمستطيع إيجاده لولا معونة خبيره العالم برتهايم. وهو مركب استخدم في تركيبه كل حذق الكيمياء، وركب في جو مخطر لكثرة ما يملؤه من أبخرة الأثير، وهي أبخرة تنذر في كل وقت بالتفرقع والحريق. وهو عدا هذا مركب حساس سريع التلف يحيله القليل الذي يمسه من الهواء من دواء معتدل التأثير إلى سم بالغ المفعول قتال.
هذا هو المركب الشهير رقم 606، وهو يستمتع باسم طويل: فاني أكسي ثاني أمينو أرسينو بنزول ثاني هيدروكلوريد. وكان غلوه في الفتك بالتريبنسومات كغلوه في الطول، فحقنة واحدة منه تكسح دم الفأر كسحاً من كل ما به من تريبنسومات داء الورك فلا تترك واحدة منها تحكي للخلف أخبار السلف.
وهو عدا ذلك كان مأموناً جداً برغم انه مثقل بالزرنيخ، ذلك السم المختار المحبب إلى كل قاتل أثيم. وهو لم يعم الفئران، ولم يحل دمهم فيرق، ولم يرقصهم رقصة العذاب المذكورة، واختصاراً كان عقاراً مأمون الضرر محقق النفع
قال قدريت بذكر هذه الأيام بعد فواتها بزمن طويل: (تلك كانت الأيام) وما كان بالشاب عندها، فقد كان سبق الكبر إليه فصلب من دعوه، وذهب بالمرونة من عضلاته، ولكنه ظل يدب وراء (الأستاذ) يعنى به ويسد من طلباته. قال قدريت (تلك كانت أيامنا أيام كشفنا عن رقم 606) وأي والله تلك كانت الأيام! وأي أيام أصابتها ما أصابت هذه من الحمى، وأي أيام حظيت من الجنون والعمل الخابط الراقع الجموح بمثل ما حظيت به هذه؛ اللهم إلا أيام بستور وصار رقم 606 يشفى من مرض الورك فتطيب منه الفئران وأعجاز الخيول، ولكن ماذا بعد هذا؟ وهنا يدخل الحظ في تسيير الأمور، فيذكر إرليش نظرية قديمة خاطئة كان قرأها لرجل ألماني عالم في الحيوان أسمه شودين قرأ إرليش في عام 1906 أن شودين اكتشف مكروباً لولبياً رفيعاً باهتاً أشبه ببريمة الفلين، ولكن دون يدها؛ وكان اكتشافاً باهراً هذا الذي اكتشفه شودين. ووددت لو أتسع المقام لأحدثكم عن هذا الرجل وعن تعصبه وعن شربه الخمر وإسرافه حتى تتراءى لعينه غرائب الأطياف والخيالات. وسمى هذا المكروب إسبيروشيتا باليدا وأثبت أنه سبب الداء الرذيل المعروف بالزهري.
لم يفت إرليش، وهو القارىء كل شيء، أن يقرأ هذا الاكتشاف، ولكن رسخ في ذاكرته أكثر من كل شيء أن شودين قال: (أن هذا المكروب الباهت يدخل في نطاق المملكة الحيوانية، فهو ليس من مملكة النبات كالبكتريا. والحق أنه قريب الصلة بالتريبنسومات، وقد ينقلب إليها أحياناً
بالطبع هذا لم يكن غير حدس وتخمين رمى به خيال شودين رمياً، ولكنه فعل بعقل إرليش الأفاعيل. قال إرليش: (إذا كانت الاسبيروشيتات بنات عمات التريبنسومات إذن فمركب رقم 606 لا بد قاتل الأخيرة كما قتل الأولى).
ولم يعن إرليش أقل عناية، أو يعكر صفو مزاجه أقل تعكير، تلك الحقيقة الواقعة وهي أن أحداً من الناس لم يثبت قط أن هذه المكروبات بنات عمات، وما مثله من يعنى بمثل ذلك. . . ومن هذا مشى قدماً إلى يوم مجده الأكبر.
(يتبع) احمد زكي