مجلة الرسالة/العدد 203/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 203/رسالة الفن
ليوناردو دافينشي
الرجل الكامل
للدكتور احمد موسى
- 2 -
أما المرحلة الثانية من حياته فقد بدأت عندما استدعاه الدوق لودوفيتشو سفورزا للتوجه سنة 1483 إلى ميلانو. وهناك استمتع بأجمل أيام حياته، لأن الدوق نظر إليه نظرة الرجل المؤثر الذي يقدر الفن ويجله، نظرة الرجل الذي يعلم بأنه لا معنى للحياة بدون الفن، فإذا كان الدوق غنياً ومقدراً للفن، فهذا معناه أن ليوناردو قد وفق إلى وجود الشخصية التي تعمل على تشجيعه ومعرفة قدره، فعمل بكل قواه على إظهار مواهبه، فكان معمارياً ومهندساً وعالماً ومشجعاً للأكاديمية كما كان نحاتاً ومصوراً.
وله في هذه المرحلة لوحات رائعة منها صورة الدوق وصورة لعائلته، ولوحات لبعض رؤوس غاية في القوة والجمال.
وأهم أعماله في هذه المرحلة، بل وفي حياته كلها صورته المعروفة (العشاء الأخير) والمحفوظة بدير القديسة ماريا في ميلانو. صورها في سنتين، وهي للأسف في حالة غير مرضية الآن، ولكن لحسن الحظ أن منها جملة لوحات مقلدة متقنة ومعاصرة لها. وهذه اللوحة تمثل المسيح، وقد توسط تلامذته الإثنى عشر مجتمعين حول مائدة بعضهم جالس والبعض الأخر واقف، وأمامهم الخبز والأطباق وأكواب الشراب. قال المسيح لتلامذته: (إن أحدكم سيسلمني) فما كان من تلاميذه إلا أن أتجه بعضهم إليه وبعضهم إلى بعض متسائلين مستفسرين، متألمين خائفين، تمثل الوجد على وجه كل منهم، فبعضهم أشار بأصبعه، والبعض أشار بيديه.
أنظر إلى ش - 2 - وتأمل القوة الإنشائية والإخراج العظيم ترى الوجوه الثلاثة عشرة مختلفة الوضع والتفاصيل والتكوين الكلي، والحركة البادية والمعنى الذي يعبر عنه كل منهم في منتهى الرقة والحسن.
أما التوازن البادي على مجموعهما الشكلي والوضعي فهو عظيم وأما اختلاف التكوين الجسماني لكل منهم، واختلاف الطريقة التي يجلس أو يشير بها، فهي رائعة، لأن هذا الاختلاف لم يذهب بك إلى منتهى حسن الانسجام وكمال الاندماج.
أنظر إلى الأيدي، وتأمل الأكف التي استطاع بها ليوناردو إخراج ست وعشرين يداً، لا ترى منها واحدة تشبه الأخرى، أليس هذا منتهى ما يطمح إليه فنان؟ لم يترك ليوناردو الحوائط دون تحلية، ولم يفته أن يصور لك منظراً ظهرت بعض أجزائه من خلال الباب والشباكين في مؤخر للصورة. فكأن هذه القطعة لم تخلد مجد ليوناردو فحسب؛ بل هي لوحة من اللوحات الخالدة الفذة في تاريخ الفن كله.
وبدأت المرحلة الثالثة من مراحل حياته عندما غادر ميلانو سنة 1499 متنقلا حتى وصل البندقية (1503 - 1506) ثم فلورنسوا (1506 - 1516) ثم غادرها إلى فرنسا لخدمة الملك فرانس الأول سنة 1516 وعاش في قصر كلو حتى وفاته في 2 مايو سنة 1519 بعد بلوغه السابعة والستين.
وقد أنتج في هذه المرحلة لوحات كثيرة أيضاً، منها لوحة القديسة أنا، والقديسة مريا، وعيسى ويوحنا بأكاديمية لندن، وكلها برؤوس هائلة رائعة، امتزج فيها الظل بالنور امتزاجاً لا يستطيعه إلا ليوناردو. وبعض هذه الصور كان على الكرتون الذي خصصه لتصميم رسم لعمل الفسيفساء في بيت البلدية بفلورنسا منها قطعة أسماها مذبحة انجيارى. وقد فقدت هذه الكارتونات ماعدا القطعة الوسطى منها التي مثلت المقاتلة على العلم، وهذه القطعة ش - 3 - قد نقلها الفنان روبنز (راجع الرسالة بتاريخ 3 يناير سنة 1937) عن الأصل وهي محفوظة باللوفر.
والناظر إليها يرى العنف والشدة يتمثلان في كل جزء من أجزائها، ولعلنا نستطيع أن نعرف أثر الفن الإغريقي في ليوناردو وعندما نتذكر تلك الصور التي شملها مقالنا عن منحوتات معبد بارتنون (أكروبوليس أثينا).
وله لوحة هي أجمل ما صوره دون منازع، ألا وهي (موناليزا) محفوظة باللوفر، ولا يمكن مهما حاولنا الوصف أن نقدر جمال هذه القطعة ش - 4 - دون مشاهدتها في الأصل بألوانها الطبيعية الخلابة التي تمثل الجمال الإيطالي في أسمى مظهر له انظر إلى ابتسامتها الساحرة الخالدة التي تجذب إليها المشاهد الراغب في الجمال النبيل.
وله غير ذلك لوحات فذة إلى جانب لوحاته الخطية بالقلم الرصاص وهي أيضاً من أروع ما يمكن تصويره إطلاقاً، منها جزء محفوظ باللوفر وفينيسيا وميلانو.
احمد موسى