مجلة الرسالة/العدد 206/دموع الحب

مجلة الرسالة/العدد 206/دموع الحب

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 06 - 1937



للأستاذ يوسف البعيني

لتَتَذوق رحيق الفن، وتتسلل إلى سراديبه الرهيبة وتعانق غوانيه المعطرة. . يجب أن تقرأ - بول فاليري - فقصيدة واحدة من هذا الشاعر العبقري المجدد حياة فنية منفردة لها ألوانها وخطوطها وأصباغها. جملة صغيرة من ريشة بول فاليري تعطيك معنى ألذ من تغريد البلبل، وأطرب من أنغام الرباب. وأعذب من الأحلام. . أما الحياة التي تلمسها في سطوره وصوره فتبكي وتفرح، تشكو وتبتسم. تغرد للصباح الضاحك، وتكتئب للمساء الحزين؛ حياة ككل حياة، لكنها تختلف برموزها وأسرارها. وهذه الرموز والأسرار هي عبقرية الشاعر العظيم والفنان الملهم؛ وهي كائنه الحي الأعلى؛ هي روحه التي غاصت في البحر فالتقطت درره، وتغلغلت في الليل فاتشحت بإزاره. وفي القلوب فاجتنت ميولها وعواطفها وشهواتها.

لقد قرأت أكثر مؤلفاته فتبينت فيها الفن المجنح الذي يفتح عينيك على صور موشاة بجميع ألوان الحياة وأدهنتها الرائعة. وما إن تحدق قليلاً بسطر من سطوره حتى تتولاك رحاب الشاعرية؛ هي غيبوبة بعيدة القرار يشملك بها الشاعر الفنان فيريك بهجة الربيع واخضراره، ويسمعك عويل الخريف وشكواه. وإن شاعراً يغمرك بكل ما تشتاقه الروح ويحلم به القلب ليعرف من الحياة غير أسمائها. ويقرأ من الكلمات أكثر من حروفها، ويبصر في مشاهد الأعراس والمآتم غير ما يبصره الناس!

ومن أروع ما طالعته أخيراً لهذا الشاعر الساحر رسالة دعاها - دموع الحب - قرأتها بروح نَهِمة تريد أن تتفهم معاني الحياة وتتكشف أسرار الجمال فإذا هي قطعة فنية خالبة يشوقك ما فيها من تقديس لدموع الحب، الحب الذي يتفجر من صدر المرأة فيبقى خافقاً في روع الماضي والحاضر والمستقبل. وليت شعري هل في العالم حديث أعذب من حديث رقيق تدبجه ريشة الفنان المتعبد للمثل الأعلى في ساعات وحيه وإلهامه؟ إن الكلمة التي تتحدر في قلبك وقد تشربت بدموع الحب وتسربلت بضبابه لهي الكلمة الحية، بل هي الكلمة الخالدة التي تتباغم بها أشباح الأيام والليالي.

ولكنني وقفت مبهوتاً أمام مقطع صغير عنوانه - انتحار ودموع - لا لشيء إلا لأنه مقط تنبو عنه الحياة، وإن يكن يستظرفه الفن؛ وينبذه الحب الروحاني الملظى بجمر التضحية والمدمَّى بالألم والاستشهاد، وإن تكن ترتضيه الشهوة الوحشية المتنطسة. . وإني لمورد خلاصته فيما يلي لتعلم أن الشاعر مهما مُنح من فن وإبداع. وأوتي من تصور وإدراك، يظل جاهلاً أسرار المرأة، رازحاً من حبها ودموعها على كلال.

أما المرأة التي جاء الشاعر يقدس دموعها في ذلك المقطع الصغير فهي - كليوباطرة - ملكة مصر وربة النيل. ولكن أصادقةٌ تلك الدموع التي ذرفتها المرأة الحسناء على موت حبها؟ هذا ما أريد معرفته. . فلتقرأ الآن خلاصة القصيدة:

قبل أن تودع كليوباطرة حياتها الزاخرة بذكريات الحب أحبت أن تهيئ لعشاق جمالها مأدبة كبرى مثقلة بكرمها الملكي، ففعلت: وبعد انتهاء المأدبة أحضرت لها وصيفتها الأمينة (إيراش) سلة مملوءة بالتين، فكافأتها وشكرتها كثيراً ثم أخرجت من طيات ثوبها الفاخر خطاباً قصيراً لتسلمه الوصيفة إلى (أوكتافيوس) قيصر رومه في ذلك العهد.

وبعد هذا بحين انسحبت كليوباطرة إلى مخدعها الشيق المزين بزهر الجلنار وجلست وحيدة، وفي وحدتها الموحشة شرعت تحلم إلى أن اخضلت أجفانها بالدموع

بكت لأنها تذكرت أيامها الماضية. . . تلك الأيام المخمرة بالحب!

إلا أنها لم تلبث أن مسحت دموعها ونظرت إلى وريقات التين نظرة عميقة مفعمة بالتأمل وطافحة بالحزن والألم. وذلك لأن عيني الحية الماكرتين كانتا تلمعان في وسطها لمعاناً موجساً مخيفاً كنور الحباحب على قبر مهجور.

وفيما هي تتناول الحية السامة بأناملها قالت تباغمها بكلام رقيق كنوم السحر: أيتها المخلوقة الفاتنة، المرذولة من جميع الناس، إني أعبدك. . . ولهذا ترينني لا أخشى لذعتك! نعم لا أخشاها. . . لكونها تريحني من هذا العالم، وتجمعني بمن أحب. . . ثم وخزتها وخزة موجعة فتململت الحية ولسعتها في صدرها!

عند هذا نهضت كليوباطرة وتمددت على سريرها هامسة: هأنذي أوافيك يا أنطونيوس! يا من غذيت أزاهير أحلامي بالحب!

انتحرت - كليوباطرة - فاضطرب النيل وارتعشت أوراق النخيل في مملكة ممفيس. . . لقد ارتجف كل كائن حي خلا قلباً واحداً لم يرتجف، هو قلب - أوكتافيوس - سيد رومة في ذلك الزمن. لكنه على الرغم من كل ذلك فض الخطاب الصغير وتمتم قائلاً:

إنها تريد أن تدفن مع حبيبها أنطونيوس. نعم، تريد أن تعانقه دائماً بعد الممات. فليكن لها ما تبتغي. . . هو الحب فلتبلل ضريحها دموعه المقدسة.

هذا ملخص القصيدة. ففيه تلمس تخليد الشاعر لحب - كليوباطرة - ذلك الحب الذي شغل فريقاً من العبقريين في التاريخ، ولكن على الرغم من الجمال الشعري والإشراق الفني في القصيدة أود أن أعرف أصادقة تلك الدموع أم كاذبة، أشريفة أم أثيمة؟

لم يبق بين الذين عنوا بتاريخ كليوباطرة من لم يمجد دموعها في حبها، ويطري موقفها المؤثر في ساعات انتحارها. أما أنا فأهزأ بتلك الدموع التي حملتها على الانتحار لأنها دموع لا يقرها الحب الروحي السامي الخاضع للتضحية

لقد بكت كليوباطرة وهي تنتحر، ولكنها لم تبك على حب مقدس، بل على نزوة حمراء تصرمت وتبددت. . . والحب الذي يسوده نزوان اللحم والعظام خادع كالتراب المذهب

إن أشرف أنواع الحب هو ما تندت به العاطفة واختمرت به الروح، فدموعه تبقى منهلة في المحاجر كندى الفجر. أما الحب الذي تولده الأعصاب فدموعه مستقطرة من الوحل لا من أجفان السماء

ولا يعتقد القارئ أن كليوباطرة احتكرت وحدها هذا النوع الفريد من الحب الحيواني الغليظ، فهنالك امرأة تبزها هي (جان ديفال) التي أضرمت بضراوتها المستنكرة عبقرية - بودلير - شاعر فرنسا في الجيل الماضي. فقد كونت فيه عنصرين متناصرين أبداً. . . عنصر يستلينه جسدها الغامر بالشهوة، وعنصر يحترق حنقاً منها فيجوب رحاب الروح شاكياً من تلك النار المشبوبة، الناغلة بأحط أنواع الحب. ومن يراجع كتابه المشهور - أزاهير الشر - وهو من أروع الكتب الشعرية في دولة البيان يقرأ تلك المقاطع التي تصور انتحاره النفسي البطيء، وهي عندي من أبلغ ما أخرجه الشعراء في العالم

فانظر كيف يصفها الشاعر:

(عندما أجلس قربها في ليالي الخريف الدافئة مستنشقاً شذا صدرها الحار. . . تحملني الأحلام إلى بلاد سعيدة رافلة في حلل وضاءة من نور الشمس فأرى فيها نساء تسبيك أجسامهن الفاترة المتكاسلة لما يعذبها من شهوة مخدرة، وبرح أليم! وعندما تنتقل متمايلة في غلائلها الهفافة، المنبهة للحواس. . . أخالها ترقص كتلك الأفاعي الخبيثة التي يرقصها الحواة في الشرق على أنغام الشبابة الحزينة!

وعندما تتمدد عند أقدامي مستضرعة إليَّ بأرق كلمات الصبابة لكي أطفئ جذوة لحمها المحرقة. . . أحسبني أرى موجة من أمواج البحر العرارة تتراخى واهية على الشاطئ بعد أن أفرغت الزبد من فمها!

- هي بعينيها المتقدتين كأشرار المعادن

- وهي بلحمها الوضاء المغري كجمرة الأتون الحمراء

- إن فيها بريقاً وناراً. . .

- وإن فيها لهيباً وكبريتاً!

- هي امرأة سحرية. . . تمثل لك بجمودها المخزي أبا الهول الصامت، وبشهوتها اللافحة حية هائلة مخيفة!)

ثم انظر كيف يصفها هنا:

(أحبك وأمقتك معاً أيتها الفاجرة الطاعنة قلبي بخنجر سام، الناغلة في جسمي كما تنغل الحشرات في جيفة منتنة!

الماردة في روحي كالشياطين!

أيتها الضارية المتخذة شرفي سريراً لفحشائها، أيتها الساقطة المكبلة إرادتي بالأصفاد، إني أكرهك. . . فلعينة أنت!

لقد استغثتُ بالسماء أن تقبضني إليها. واستنجدت بالموت تخلصاً من موبقاتك. . . فلا السماء سمعت دعائي، ولا الموت استجاب طلبي، وكيف تفعل السماء والموت وأنا أنزف دمي على مضجعك الفاسد، وأنحر جسدي في طريق استهتارك المتقنعة؟)

إن دموعَ الحب رائعة ومؤثرة عندما تجيشها العاطفة المسحوقة، ويحركها الإحساس الذبيح. أما إذا أجراها الغرام العابث فهي أفظع من المقصلة، وأقسى من العبودية

مسكين إذاً - بول فاليري - لقد أخطأ وهو يصور دمعة من دموع الحب. فلو أنه رسم لنا دموع الذين يموتون من اليأس، ويأسهم من خيانة المرأة لكان أبدع وأجاد

إن الحياة، الحياة المتغلغلة في القلوب والأرواح والسابحة على أمواج الماضي والحاضر والمستقبل، إن هذه الحياة لتهزها نبرة الشاعر العبقري وتفتنها ألوانه وخطوطه وأصباغه التي يطلي بها قصائده. أما الدموع الكاذبة الأثيمة التي يسعى إلى تقديسها بذلك البيان المورق الأنيق لتنفر منها ولا تقرها أبداً!

البرازيل

يوسف البعيني