مجلة الرسالة/العدد 206/لمناسبة تتويج جلالة الفاروق

مجلة الرسالة/العدد 206/لمناسبة تتويج جلالة الفاروق

مجلة الرسالة - العدد 206
لمناسبة تتويج جلالة الفاروق
ملاحظات: بتاريخ: 14 - 06 - 1937



رسوم البيعة والتتويج في عهد الدولة الفاطمية

للأستاذ محمد عبد الله عنان

يبلغ صاحب الجلالة الملك فاروق الأول ملك مصر رشده الدستوري في الثامن والعشرين من شهر يولية القادم. وقد أثيرت بهذه المناسبة مسألة الرسوم والإجراءات التي يحسن اتباعها لإعلان هذا الحادث السعيد، وافتتاح العهد الجديد بما يليق به من الروعة الملوكية والدستورية.

ومن المقرر أن الدول الملوكية العريقة تتبع في مثل هذه المناسبات رسومها وتقاليدها الملوكية الخاصة؛ وقد رأينا كيف أحيطت حفلات التتويج البريطاني بكثير من الرسوم الملوكية القديمة التي يرجع بعضها إلى عدة قرون؛ ولكن يلاحظ هنا أن الملوكية الإنكليزية لبثت منذ قيامها حتى يومنا متصلة الحلقات، يحتفظ العرش بمعظم رسومها وتقاليدها عصراً بعد عصر. أما الملوكية المصرية فقد انقطع سيرها وعفت رسومها منذ الفتح العثماني زهاء أربعة قرون حتى أعلن المغفور له الملك فؤاد الأول ملكاً على مصر في سنة 1922.

ومع ذلك فأن للملوكية المصرية الإسلامية رسوماً وتقاليد عريقة انتهت إلينا منها صور وذكريات باهرة. وقد عرفت مصر الإسلامية هذه الرسوم الملوكية الخاصة منذ استحالت من ولاية خلافية إلى وحدة سياسية مستقلة في ظل الدولتين الطولونية والأخشيدية اللتين كانتا بالرغم من ولائهما الاسمي للخلافة العباسية تتمتعان ببعض الرسوم والتقاليد الملوكية الخاصة، مثل صدور البيعة للأمير، وتحليه بألقاب الإمارة وأحياناً بالألقاب الملوكية مثل اتخاذ محمد بن طغج لقب الأخشيد (أي أمير الأمراء)، أو تمتعه ببعض الامتيازات الملوكية السياسية، كما فعل الأخشيد حينما اتصل بقيصر قسطنطينية مباشرة في المكاتبات الدبلوماسية المتعلقة بمصر وغير ذلك؛ وثانياً حينما غدت مصر خلافة أو دولة مستقلة كاملة السيادة في ظل الدول الإسلامية المتعاقبة.

وقد عرفت الملوكية المصرية رسومها وتقاليدها الراسخة في ظل الدولة الفاطمية: وكانت هذه الدولة القوية تجنح إلى البهاء والفخامة في جميع رسومها وتقاليدها. وك الخليفة الفاطمي تحاط بطائفة من الرسوم والمواكب الباذخة؛ ولما قدم المعز لدين الله أول الخلفاء الفاطميين إلى مصر سنة 362هـ، بعد أن افتتحها قائده جوهر الصقلي قبل ذلك بأربعة أعوام (سنة 358هـ) لم ترتب إجراءات خاصة لإعلانه خليفة أو ملكاً على مصر، لأن المصريين ارتضوه على يد زعمائهم وأعيانهم خليفة وملكاً عليهم عند الفتح حينما قدموا خضوعهم لنائبه وممثله جوهر، وقطع جوهر الدعوة العباسية، وبدأت الدعوة للخليفة الفاطمي؛ بيد أنه حينما وصل المعز إلى الإسكندرية في شعبان سنة 362هـ، استقبله أعيان مصر وعلى رأسهم قاضيها الأكبر وجددوا له مراسيم الخضوع والبيعة، وقصد المعز بعد ذلك إلى القاهرة ونزل بالقصر، وبدأ عهده في الحكم والولاية في اليوم الخامس عشر من رمضان، إذ جلس بالقصر على عرشه الذهبي الذي أعده له جوهر في الإيوان الجديد، وأذن بدخول الأشراف ثم الأولياء وسائر وجوه الناس، وكان القائد جوهر قائماً بين يديه يقدمهم إليه فوجاً بعد فوج فيأخذون له البيعة والعهد، وعلى هذا النحو نظمت مراسيم التتويج لأول خليفة فاطمي بمصر.

ومنذ عهد العزيز بالله ولد المعز لدين الله تتخذ رسوم التتويج الفاطمية صورها الباذخة، وكانت هذه الرسوم تجري أولاً في القصر الفاطمي في الإيوان الكبير ثم بعد ذلك في قاعة الذهب التي أنشأها العزيز بالله، وجددها المستنصر بالله فيما بعد، وكان بها عرش الخلافة، وبها يجلس الخليفة أيام المواسم العامة، ويجلس للركوب يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، وبها كان يقام سماط العيدين، وسماط رمضان للأمراء، وكانت تعرف بقصر الذهب. وكانت مبايعة الخليفة الجديد تجري في حفل عام يرتبه مدبر الدولة أو كبير الوزراء أياً كان لقبه، وصاحب الباب أو حاجب الحجاب وهو اكبر رجال القصر، والسفهسلار أو القائد العام للجيش، وذلك بالاتفاق مع قاضي القضاة، وهو في العرف السياسي أعظم رجال الدولة مقاماً ونفوذاً

وكان ينادي بالخليفة الجديد عقب وفاة سلفه مباشرةً؛ ولا فرق في ذلك أن يكون الخليفة الجديد صبياً أو بالغ الرشد؛ ويقع هذا الإجراء الأول بالقصر أو حيث كانت وفاة الخليفة الذاهب، ويتولاه أعظم رجال القصر نفوذاً أو قاضي القضاة ثم يعقبه إجراء البيعة العامة بالإيوان الكبير وهو أيضاً من منشآت العزيز بالله، وجرت فيه بيعة الحاكم بأمر الله فابنه الظاهر لإعزاز دين الله، فابنه المستنصر بالله، فابنه المستعلي بالله، فابنه الآمر بأحكام الله. ثم نقل الخليفة الآمر بأحكام الله سرير الملك (العرش الخلافي) من الإيوان الكبير إلى قاعة الذهب، فحلت مكان الإيوان من ذلك الحين في إجراء الرسوم الخلافية العظيمة؛ وكان الاحتفال بالبيعة عامّاً يشهده رجال الدولة وأكابر الجند والأعيان وأفراد الشعب، ويبدأ بأخذ البيعة للخليفة الجديد قاضي القضاة وأعضاء الأسرة الفاطمية وأكابر رجال الدولة والقصر، ويسلمون عليه بسلام الخلافة وصيغته (السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته) ثم يقبلون له الأرض؛ وإذا وافق جلوسه يوم عيد، خرج الخليفة في موكبه إلى الصلاة، كما حدث عند تولية الظاهر لإعزاز دين الله حيث وافق جلوسه يوم النحر (عيد الأضحى) فأخذت له البيعة، ثم خرج إلى صلاة العيد، وعلى رأسه المظلة وحوله العساكر، وصلى بالناس، ثم عاد إلى القصر، فكتب بخلافته إلى سائر الأنحاء.

وكان للعرش الفاطمي عدة من الذخائر والآلات الملوكية كانت آية في الفخامة

والبهاء والبذخ، من ذلك سرير الملك، أو العرش الذي يجلس عليه الخليفة يوم توليه الملك، ثم بعد ذلك أيام المواكب والاستقبالات الرسمية. ويقول مؤرخ معاصر في وصفه: (إن وزن ما استعمل من الذهب الابريز الخالص في سرير الملك الكبير مائة ألف مثقال وعشرة آلاف مثقال، ووزن ما حلي به الستر الذي أنشأه سيد الوزراء أبو محمد اليازوري من الذهب أيضاً ثلاثون ألف مثقال، وأنه رصع بألف وخمسمائة وستين قطعة جوهر من سائر ألوانه. وذكر أن في الشمسية الكبيرة ثلاثين ألف مثقال ذهباً، وعشرين ألف درهم مخرقة، وثلاثة آلاف وستمائة قطعة جوهر من سائر ألوانه وأنواعه، وأن في الشمسية التي لم تتم من الذهب سبعة عشر ألف مثقال) والى جانب العرش يوجد تاج الخليفة أو التاج الشريف، وهو تاج يضعه الخليفة على رأسه في الموكب والأيام العظام، وبه جوهرة عظيمة تعرف باليتيمة زنتها سبعة دراهم، وحولها جواهر أخرى دونها؛ وقضيب الملك، وهو عود طوله شبر ونصف ملبس بالذهب مرصع بالدر والجواهر يحمله الخليفة بيده في المواكب العظام؛ والسيف الخاص، يحمل مع الخليفة في المواكب العظام أيضاً؛ وله أمير من أعظم الأمراء يحمله عند ركوب الخليفة؛ ومنها المظلة التي تحمل على رأس الخليفة عند ركوبه، وهي قبة فاخرة ملبسة في أنابيب الذهب، وحاملها من أعظم الأمراء؛ والرمح والدواة، والدرقة، والحافر، وهي قطعة من ياقوت أحمر في شكل الهلال تحمل في وجه فرس الخليفة عند ركوبه في المواكب العظيمة؛ ومنها الأعلام والبنود والسلاح الخاص الذي يحمله الركابية أو الحرس الملكي.

وقد انتهى إلينا وصف بعض المناظر الواقعية التي أحاطت بتولية أحد الخلفاء الفاطميين، وهو الحاكم بأمر الله ولد العزيز بالله، نقلها إلينا مؤرخ معاصر هو عز الملك المسبحي وزير الحاكم وصديقه ونحن نعرف أن الحاكم بأمر الله تولى الحكم حدثاً عقب وفاة والد العزيز في مدينة بلبيس في 28 رمضان سنة 386هـ. يقول المسبحي: (قال لي الحاكم، وقد جرى ذكر والده العزيز يا مختار، استدعاني والدي قبل موته، وعليه الخرق والضماد، فاستدناني إليه وقبلني وضمني إليه وقال: وأغمي عليك يا حبيب قلبي ودمعت عيناه. ثم قال امض يا سيدي والعب، فأنا في عافية قال، فمضيت، والتهيت بما يلتهي به الصبيان من اللعب إلى أن نقل الله سبحانه وتعالى العزيز إليه، قال فبادر إلى برجوان، وأنا في أعلى جميزة كانت في الدار، فقال: انزل، ويحكم الله فينا وفيك، قال فنزلت، فوضع العمامة بالجوهر على رأسي وقبل لي الأرض، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. قال، وأخرجني حينئذٍ إلى الناس على تلك الهيئة، فقبل جميعهم لي الأرض وسلموا علي بالخلافة، وقع هذا المنظر بمدينة بلبيس في 28 رمضان. وفي اليوم التالي سار الحاكم إلى عاصمة ملكه في موكب رهيب فخم وأمامه جثة أبيه، وبين يديه البنود والرايات؛ وقد ارتدى دراعة مصمت، وعمامة يكللها الجوهر، وتقلد السيف وبيده رمح فدخل القاهرة عند مغيب الشمس؛ وفي الحال أخذ في تجهيز أبيه، ودفن عشاء بالقصر. وفي صباح اليوم التالي، بكر سائر رجال الدولة إلى القصر، وقد نصب للخليفة الصبي في الإيوان الكبير، سرير من الذهب عليه مرتبة مذهبة، وخرج من القصر إلى الإيوان راكباً وعلى رأسه معممة الجوهر والناس وقوف في صحن الإيوان، فقبلوا الأرض ومشوا بين يديه حتى جلس على عرشه، وسلم عليه الجميع بالإمامة ونودي في القاهرة والبلدان أن الأمن وطد والنظام مستتب فلا مؤنة ولا كلفة، ولا خوف على النفس أو المال.

هذه لمحة من الرسوم والتقاليد التي كانت تجري عليها الدولة الفاطمية في تولية خلفائها، وهي رسوم ملوكية عريقة يطبعها لون من البذخ الساحر، وقد كانت الدولة الفاطمية، وهي أولى الدول الإسلامية المستقلة بمصر، دولة البذخ والبهاء. وكانت رسومها وتقاليدها فيما بعد مستقى خصباً للدولة الإسلامية التي تعاقبت من بعدها في عرش مصر.

محمد عبد الله عنان