مجلة الرسالة/العدد 207/العلم والوطنية

مجلة الرسالة/العدد 207/العلم والوطنية

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 06 - 1937



إلى الأستاذ توفيق الحكيم

من الأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري

مدير دار الآثار ببغداد

قرأت الكلمة الرشيقة التي دبجتها يراعتكم الفنانة، في صدد الرد على استفتاء الرابطة العربية حول مسألة (العلم للعلم أم العلم للوطنية؟)

قرأتها بإمعان واهتمام، وأعجبت بالأخيلة والتشبيهات التي تحلت بها؛ غير أنني لم أقتنع بصحة الأفكار والآراء التي تضمنتها

لقد قلتم بصيغة التأكيد الحاسم: (العلم والوطنية لا يمكن أن يتفقا. . .)

إذن فأنتم تعتقدون أن العلم والوطنية مختلفان؛ وزيادة على ذلك تقولون بأن اختلافهما هذا سيستمر إلى الأبد، ولن يزول في يوم من الأيام. . .

على أني أعترف أيها الأستاذ بأنني من الذين يدينون بدين العلم والوطنية في وقت واحد، ومن الذين يقولون على الدوام بوجوب (نشر الروح العلمي) من جهة، و (تقوية الشعور الوطني) من جهة أخرى

أفلا تعذرونني إذن إذا ما اعتبرت نظريتكم هذه من الخطورة بمكان، فأخذت على عاتقي مناقشتكم فيها مناقشة شاملة لإظهار الحقيقة التي اعتقدها؟

تقولون، أيها الأستاذ، بأن (العلم والوطنية لا يمكن أن يتفقا) وتحاولون أن تبرهنوا على هذه الدعوة بثلاث قضايا:

(إن الوطنية هي الأنانية في المجموع)

(والأنانية عمياء)

(والعلم هو البصر - المنزه - بحقيقة الأشياء. . .)

إنني لا أود أن ابدأ المناقشة بالبحث عن مبلغ صحة هذا القضايا؛ بل أود أن أسلم بها مؤقتاً، لأرى هل تكفي للدلالة على صحة رأيكم في هذا الصدد. . .

تقولون: (إن الوطنية هي الأنانية في المجموع) فهل تستطيعون أن تقولوا - في الوقت نفسه - بأن العلم ينكر الأنانية على الإطلاق، ولا يعترف بأثرها في حياة الحيوان والإنسان؟

تقولون: (إن الأنانية عمياء) فهل تستطيعون أن تقولوا - في الوقت نفسه - إن العلم يخالف كل ما هو أعمى؟ أفتنكرون أن القوى الطبيعية أيضاً عمياء؟

تقولون: (إن العلم هو البصر المنزه بحقيقة الأشياء) فهل تستطيعون أن تأتوا ببرهان يدل على أن الوطنية (خارجة عن حقائق الأشياء)؟. . .

كلا. . إن الوطنية قوة اجتماعية فعالة، ليس إلى إنكارها من سبيل. . . آثارها تظهر دائماً، من خلال الوقائع التاريخية والحادثات الاجتماعية، بكل وضوح وجلاء فهي تدخل لذلك في نطاق (حقائق الأشياء). كما تدخل فيه سائر القوى والمؤثرات الطبيعية، كالوراثة والمناعة والمغناطيسية والجاذبية. . .

فإذا أردنا أن نجعل الوطنية موضوع بحث علمي، يجب أن ندرسها كما ندرس الحادثات والقوى الطبيعية بوجه عام، والحادثات والقوى الاجتماعية بوجه خاص. . .

ولا جدال في أن العلم يدرس الكون وحادثات الكون (بحياد تام). يدرس خواص الأشياء، ويتتبع سير الحادثات ويتحرى أسبابها، ويستقصي قوانينها؛ وقد يتنبأ في بعض الأحوال بمستقبلها أيضاً، استناداً إلى القوانين التي اكتشفها والعوامل التي أظهرها. . . إنه يفعل كل ذلك، دون أن يقدم على استحسان أو استهجان الحقائق الثابتة بوجه من الوجوه، دون أن يتأثر بموافقة أو مخالفة تلك الحقائق لمصالحنا المادية أو لنزعاتنا الفكرية بصورة من الصور. لأن مهمة العلم تنحصر في معرفة حقائق الأشياء واكتشاف قوانين الحادثات، ولا يتعدى ذلك إلى تحبيذ أو تقبيح تلك الحقائق أو استحسان أو استهجان تلك القوانين. . .

لنا أن نتخيل كوناً غير هذا الكون، ولنا أن نتصور (مجتمعاً غير هذا المجتمع)، ولنا ألا نكتفي بالتخيل والتصور بهذه الصورة، بل نوصل الأمر إلى درجة التمني، فنتمنى أن يتحول الكون إلى الحالة التي تخيلناها، وأن يتطور المجتمع إلى الهيأة التي تصورناها. . ولنا أن نذهب إلى أبعد من ذلك أيضاً:

لنا أن نعتبر ما تخيلناه وتصورناه في هذا الباب مثلاً أعلى نسعى إلى تحقيقه بنشاط وحماس، وهدفاً أسمى نتجه نحوه بقوة واندفاع. . . لنا أن نفعل كل ذلك، على أن نعلم في الوقت نفسه، بأن تفكيرنا وعملنا في هذا السبيل يكون من قبيل الشعر أو الفلسفة أو السياسة. . . فلا يدخل في نطاق (البحث العلمي) بوجه من الوجوه. .

لكم، أيها الأستاذ، أن تتمنوا زوال الأنانية من الأمم؛ ولكم أن تصبوا إلى رؤية مجتمع تتغلب فيه مصلحة الدول على مصلحة الدولة الواحدة، ولكم إذا شئتم أن تقوموا بدعاية ترمي إلى تضحية مصلحة الدولة الواحدة إلى مصلحة سائر الدول. . . فأني لا أناقشكم في كل ذلك في هذا المقام؛ غير أنني أقول بأنه لا يحق لكم بوجه من الوجوه أن تعزوا تمنياتكم ونزعاتكم هذه إلى (العلم) فتقولوا (العلم لا يتفق مع الوطنية)

فأن العلم لا يختلف الآن إلا مع ما يخالف الواقع. . وأننا مهما تعمقنا في تحليل طبيعة العلم من جهة وطبيعة الوطنية من جهة أخرى لا نجد بينهما ما يستوجب الاختلاف بوجه من الوجوه.

بعد أن وصلنا إلى هذه المرحلة من المناقشة أرى أن نترك هذه (الأحكام الآنية) جانباً، لنستقرئ الوقائع التاريخية فننظر فيما إذا كان العلم والوطنية قد اتفقا أم اختلفا فعلاً في مختلف الأجيال. . .

إنني أستطيع أن أذكر وقائع تاريخية كثيرة تشهد على (اتفاق العلم مع الوطنية) و (خدمة العلم للوطنية) بصورة فعلية، لعل اقدم هذه الوقائع يعود إلى عهد (أرخميديس) الشهير، ويتعلق بقصة مقاومته للرومان، فأن هذا العالم الكبير الذي يعتبر من آباء علم الميكانيك، والذي يتردد أسمه حتى على ألسنة طلاب المدارس الابتدائية في دروس الطبيعة والأشياء، هذا العالم الكبير لعب (بعلمه) دوراً هاماً في تاريخ وطنه سيراقسة، فعندما حاصرها الرومان، وضع كل ما عنده من علم وقوة وتفكير واختراع إلى خدمة وطنه، فأستعمل المنجنيقات والمرايا المحرقة لتخريب أسطول المحاصرين، فمكن المدينة منَ الدفاع عن نفسها دفاع الأبطال، إذن، فالعلم والوطنية اتفقا في نفسية أرخميديس في أمر الدفاع عن الوطن المحصور، ولم يختلفا بوجه من الوجوه.

أن الثورة الفرنسية أيضاً تعطي لنا مثالاً بارزاً (لتعاون العلم والوطنية): عندما تألبت الدول الأوربية على فرنسا بقصد خنق الثورة في مهدها، جابهت الدولة المذكورة مشكلة كبرى، كادت تقضي عليها لولا مساعدة العلم والعلماء لها، فأن الحصار الذي أحاط فرنسا بالنار والحديد من كل الجهات، حرم رجال الثورة إمكان استيراد المواد الأصلية الضرورية لصنع الصابون والبارود والمدافع والأسلحة، عندئذ فكرت لجنة الدفاع الشعبي في الاستفادة من علماء الكيمياء، فاستنهضت هممهم لتخليص الوطن من هذه المحنة. ومن هؤلاء العلماء (برتوله) و (فوركروا) وجهوا أبحاثهم العلمية وجهودهم الفكرية، نحو أيجاد الطرق التي تساعد على إحضار المواد المذكورة بصورة صناعية من المواد الموجودة داخل البلاد، فنجحوا في مسعاهم هذا وخدموا وطنهم بذلك أجل الخدمات.

وأما بعد ذلك فنستطيع أن نقول: إن (خدمات العلم للوطنية) أصبحت من الأمور الاعتيادية التي يصعب إحصاؤها فأن صحائف تاريخ العلوم من جهة وتاريخ الدول من جهة أخرى مملوءة بأمثلة دالة على ذلك، ولاسيما ما حدث منها خلال الحرب العالمية.

وربما تقولون أيها الأستاذ، (إن هذه كلها من الأمور التطبيقية) وستكررون في هذا المقام رأيكم في (العلم وتطبيق العلم) لأنكم قلتم في كلمتكم (فالعلماء الحقيقيون لا يطبقون العلم، إنما يعيشون حياتهم للمعرفة المجردة لا يبتغون من ورائها غير مجرد الدنو منها، تلك لذتهم الكبرى، أما رجال الأعمال الذين يأتون بعد ذلك لاستغلال نتائج هذا العلم فليسوا من العلماء وإن درسوا العلم دراسة عميقة)

فاسمحوا لي أن أقول: إن الطبيعة بعيدة عن مثل هذه التقسيمات القطبية في أمر (العلوم وتطبيقاتها) فأن استغلال نتائج العلوم - بعد اكتشافها - لا يكون دائماً من عمل رجال آخرين غير العلماء المكتشفين، بل كثيراً ما نشاهد في تاريخ العلوم أن العالم الباحث، بعد أن يتوصل إلى معرفة الحقائق واكتشاف القوانين ينتقل بنفسه إلى التفكير في النتائج المأمولة والفوائد المتوقعة منها، ويبحث عن تطبيقاتها فهل يحق لنا - في هذه الحالة - أن نخرجه من عداد (العلماء بحجة أنه لم يكتف باكتشاف الحقيقة، بل تعدى ذلك إلى التفكير في الاستفادة منها؟ فهل يحق لنا مثلا ألا نعتبر أرخميديس من (العلماء الحقيقيين) بالرغم من نظرياته واكتشافاته العلمية الكثيرة - لمجرد إقدامه على تطبيق بعض القوانين التي اكتشفها؟ وهل يحق لنا أن نخرج (برتوله) من عداد العلماء - بالرغم من نظرياته وقوانينه المشهورة - لمجرد عدم اكتفائه باكتشاف تلك القوانين - وإقدامه على توجيه بعض أبحاثه العلمية إلى الاتجاه الذي تتطلبه منه خدمة الوطن؟.

كلا. . . إن مبدأ (العلم للعلم) يتطلب البحث عن الحقائق لنفسها ولو لم ينتظر فائدة من وراء معرفتها، غير أنه لا يتطلب الامتناع عن الاستفادة منها.

إن هذا المبدأ يتطلب الاعتراف بالحقائق الثابتة، مهما كانت نتائجها؛ غير أنه لا يتطلب الامتناع عن توجيه الأبحاث العلمية نحو الحقائق التي ينتظر الحصول على فائدة وطنية من وراء معرفتها.

هذا وإتماماً لاستقراء الوقائع التاريخية، يجب عليّ أن أشير إلى بعض الحوادث التي تدل على حدوث شيء من المخالفة والمشادة بين رجال العلم ورجال الوطنية في بعض الأحوال: إن تاريخ الثورة الفرنسية يعطينا مثالاً بارزاً لذلك: فأن رجال الثورة أعدموا (لافوازييه) الذي يعتبر مؤسس علم الكيمياء الحديث، و (بايلي) الذي أشتهر بأبحاث فلكية هامة؛ وسجنوا (كوندورسه) الذي كان من كبار المفكرين، فاضطروه إلى الانتحار تخلصاً من المقصلة والعذاب. . .

كما أن الانقلاب الألماني الأخير أعطانا مثالاً جديداً لذلك: فأن الحكومة الوطنية، طردت من البلاد عدداً غير قليل من العلماء، وعلى رأسهم (إينشتاين) الشهير. . .

غير أنه يجب علينا أن نلاحظ أن هذه الوقائع لا تدل على خصام بين العلم والوطنية، من حيث الأساس. لأن العلم قلما يتفرغ إلى الأبحاث العلمية تفرغاً مطلقاً، فأنه لا يتجرد عادة عن الحياة الشخصية، بل كثيراً ما يقوم ببعض الأعمال السياسية أيضاً، كما أن تفكيراته لا تكون علمية في كل الموضوعات، إذ أنه قد يفكر كما يفكر سائر الناس في المسائل التي تخرج عن نطاق اختصاصه، ولا سيما في الأمور التي تدخل ساحة الدعايات الحزبية والأعمال السياسية. فإذا ما تحدث مخالفة بينه وبين رجال السياسة الوطنية، يكون قد حدث ذلك بالرغم من علمه لا بسبب علمه.

فأن (لافوازييه) مثلاً كان من النبلاء الذين يحملون لقب (المركيز) كما أنه كان من (الملتزمين) الذين كانوا يشتغلون بجباية الضرائب من الناس. فإذا ما اتهمه رجال الثورة الفرنسية - بحق أو بغير حق - بالخيانة للوطن، وحاكموه فاعدموه، إنما كان ذلك من جراء صفاته وأعماله هذه، لا من جراء أبحاثه وآرائه العلمية.

وكذلك الأمر في (إينشتاين): فأن أبحاثه العلمية ونظرياته الفلسفية لم تجرده عن النزعات الطائفية ولم تبعده عن الأعمال السياسية. فإذا وجد رجال الحكومة الوطنية الألمانية - بحق أو بغير حق - في سلوكه وسلوك طائفته ما يضر بسلامة الوطن، كان ذلك من جراء أعماله وأعمال طائفته السياسية، لا من جراء أبحاثه وآرائه العلمية.

وربما كان من المفيد أن نذكر رأي بعض العلماء لإِيضاح هذا البحث أكثر مما تقدم. وربما كان رأي (باستور) الشهير من أبلغ الشهادات في هذا الباب:

إن هذا العالم الذي يعتبر بحق من العلماء الذين انتظمهم الروح العلمي بأكمل معانيه، والذي قام بسلسلة أبحاث تعد بحق من أبرز وأنجع الأمثلة للطريقة التجريبية. . . هذا العالم الكبير كان وطنياً متحمساً طول حياته؛ وقد قال في خطبة بليغة ألقاها في أحد المؤتمرات الأممية:

(لا وطن للعلم أو بالأحرى، وطن العلم يشمل العلم بأجمعه ومع هذا لكل عالم وطن وعلى كل عالم أن يهتم بكل ما يخدم مجد وطنه ففي كل عالم حقيقي كبير تجدون دائماً وطنياً كبيراً)

والآن بعد الانتهاء من هذه المناقشة، اسمحوا لي أن أعود إلى إحدى القضايا التي كنت سلمت بها جدلاً، وهي أولى القضايا الثلاث التي سقتموها للبرهنة على عدم إمكان اتفاق العلم والوطنية:

(الوطنية هي الأنانية في المجموع)

إنني لا أنكر صحة القضية من حيث الأساس، غير أنني أرى من الضروري أن نتبعها بقضية ثانية فنقول:

(الوطنية هي الأنانية في المجموع، غير أنها التضحية والإيثار في الفرد. . .)

نعم أن الوطنية هي التضحية والإيثار - بالنسبة إلى أفرد البشر، وإن كانت من قبيل الأنانية بالنسبة إلى الكتل البشرية. ونستطيع أن نقول: أنها أرقى أشكال التضحية والإيثار. فإن مظاهر التضحية والإيثار لا تتجلى في مجال من مجالات أعمال الإنسان بالتنوع والسمو والقوة التي تتجلى بها في مجال الوطنية. وأما مظاهر الإيثار التي تنشأ من الشعور الأممي فإنها لا تذكر بجانب ذلك. . .

إنني لا أود أن أتوسع في هذه المسألة الآن غير أنني أود أن أختم هذه الرسالة بإحدى الكلمات التي قالها جان جاك روسو بأسلوبه الخلاب:

(بعض الناس يحبون أبناء الصين، وذلك لكي يتخلصوا من الواجبات الفعلية التي يتطلبها منهم حب أبناء وطنهم الأقربين)

(بغداد)

أبو خلدون