مجلة الرسالة/العدد 207/في التاريخ السياسي

مجلة الرسالة/العدد 207/في التاريخ السياسي

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 06 - 1937



الحرب الأهلية الأسبانية وخطرها على السلام

بقلم باحث دبلوماسي كبير

حينما اضطرمت الحرب الأهلية الأسبانية في أواخر يولية الماضي، لمحنا في حوادثها منذ البداية عوامل معركة دولية خطرة وكنا يومئذ نتلمس القرائن والأدلة لتأييد هذا الرأي، لأن العوامل الدولية التي كانت وراء هذه المأساة لم تكن قد وضحت بعد بصورة جلية، بيد أنه لم تمض عدة أسابيع على ذلك، حتى تكشفت هذه العوامل واضحة، وحتى بدأ إصبع إيطاليا وألمانيا ظاهراً وراء الثورة الأسبانية يذكى ضرامها ويمدها بكل صنوف المعاونة العسكرية والسياسية، وحتى بدت روسيا السوفيتية في جهة أخرى وراء الجبهة الجمهورية الأسبانية تؤيدها بكل ما وسعت وتمدها بالأسلحة والذخائر والفنيين، وحتى بدت إنكلترا وفرنسا أيضاً من وراء الجبهة الجمهورية تمدها بعونها السياسي والأدبي. وآثرت إنجلترا وفرنسا الأخذ بسياسة عدم التدخل في المشكلة الأسبانية ونجحتا في حمل الدول الأخرى أعني إيطاليا وألمانيا وروسيا والبرتغال على إقرار هذه السياسة، وتألفت لجنة عدم التدخل الدولية في لندن. وبينما كانت هذه اللجنة تسير في مباحثها وقراراتها ببطء وتسويف ظاهرين كانت المعركة الدولية في أسبانيا تتفاقم يوماً بعد يوم ويتوالى نزول القوات الإيطالية والألمانية في الثغور الأسبانية لتشد أزر الجبهة الثورية، وتتوالى الإمدادات الروسية لتشد أزر الجبهة الجمهورية ويتسع تدخل إيطاليا وألمانيا في أسبانيا نفسها، وفي جزر البليار ومراكش الأسبانية بشكل يزعج فرنسا وإنكلترا. عندئذ خطت السياسة البريطانية خطوة أخرى واستطاعت بعد مفاوضات ومباحثات طويلة أن تحمل الدول الممثلة في لجنة عدم التدخل على إقرار مشروع دولي لرقابة الشواطئ والحدود الأسبانية وذلك لمنع الإمدادات الأجنبية عن الفريقين المتحاربين، وتطبيق سياسة عدم التدخل بطريقة فعلية، وترك المشكلة الأسبانية يحلها الشعب الأسباني وحده، وبذلك تحصر الحرب في أسبانيا، ويحمى السلام الدولي من عواقبها.

وننفذ مشروع الرقابة الدولية منذ عدة أسابيع. واشتركت فيه إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والبرتغال، وحصرت الشواطئ والحدود الأسبانية على يد السفن الدولية والمراقبين الدوليين. ولكن الواقع أن إيطاليا وألمانيا كانتا قد بعثتا إلى أسبانيا قبل تنفيذ مشروع الرقابة من القوات العسكرية والجوية - لمعاونة الجنرال فرانكو زعيم الثورة الأسبانية ما اعتقدتا أنه كاف لإحراز الجبهة الثائرة النصر النهائي على الجمهوريين وإقامة الحكم الفاشستي المنشود في أسبانيا على أنقاض الحكم الجمهوري، بل ظهر أن إيطاليا وألمانيا لم تكفا عن إرسال الإمداد حتى بعد أن نفذ مشروع الرقابة، على أن الرقابة الدولية أفادت في تضييق نطاق المعاونات الخارجية، وحصرت احتمالات الحرب الأهلية نوعاً.

وفي أثناء ذلك حاولت السياسة البريطانية أن تتقدم خطوة جديدة في تصفية المشكلة الأسبانية، فقدمت إلى الدول اقتراحها بسحب جميع الجنود الأجانب من أسبانيا سواء منهم من يحارب مع الجنرال فرانكو أو مع حكومة مدريد؛ فرفضت إيطاليا النظر في الاقتراح، وأجابت الصحف الإيطالية بأن الجنود الإيطالية لن تغادر أسبانيا قبل أن يحرز الجنرال فرانكو النصر النهائي. والمعروف المحقق أن لإيطاليا في أسبانيا جيشاً لا يقل عن مائة وعشرين ألف مقاتل، هذا عدا القوات الألمانية وهي تقدر بنحو ثلاثين ألفاً، وهذه القوى الأجنبية هي عصب الثورة الأسبانية وهي سند الجنرال فرانكو؛ وقد أبدت ألمانيا وإيطاليا في غير فرصة سواء في التصريحات الرسمية أو عن طريق الصحافة أنها لن تدخر وسعاً في تأييد الجنرال فرانكو حتى يحرز النصر النهائي، وحتى تقوم في مدريد حكومة فاشستية، ولم يبق ريب بعد أن الثورة الأسبانية إنما هي محاولة عسكرية فاشستية تدبرها الفاشستية الإيطالية والألمانية، وأن الجنرال فرانكو إنما هو أداة هذه السياسة الأجنبية؛ فالثورة الأسبانية تفقد بذلك كثيراً من صبغتها الوطنية، وتفقد عطف الديمقراطية، والعالم المتمدن الذي يعرف وسائل الفاشستية وأساليبها الهمجية وجنوحها إلى العنف والعدوان، ويقدر خطرها على السلام العام

ولكن هل تنجح الفاشستية في هذه المحاولة الدموية؟ لقد مضى على الثورة الأسبانية التي دبرتها الفاشستية وسلحتها أحد عشر شهرا، واستطاع الجنرال فرانكو بمؤازرة معاونيه الأجانب أن يستولوا على نصف الأراضي الأسبانية؛ ولكنه لم يحرز حتى اليوم أي نصر حاسم، بل فشل في كل محاولة خطيرة قام بها لتحطيم قوى الجمهورية، وكان مقدراً أن الثورة لن تستغرق في تنفيذ برنامجها أكثر من عدة أسابيع، ولكن مضت الأسابيع والأشهر، وتحطم هجوم الجنرال فرانكو على مدريد ولقي الثوار أكثر من هزيمة شديدة أمام العاصمة ومزقت الوحدات الإيطالية في وادي الحجارة شر ممزق؛ وعندئذ فكر الحلفاء في مهاجمة ناحية أخرى من الجبهة الجمهورية، فنظم فرانكو هجومه على بلاد الباسك منذ أكثر من شهرين، حاول أن يطوقها من البر والبحر؛ ولكن قوات الباسك خيبت آمال الهاجمين، وردتهم غير مرة، وأنتقم فرانكو وحلفائه من الجمهورية الصغيرة الباسلة بتخريب بلادها وضياعها، وأحرق الطيارون الألمان المدن والقرى الباسكية من الجو بطريقة وندالية أثارت سخط العلم المتمدن وكان فرانكو يقدر أنه بحصار بلباءو من البحر يمهد لافتتاحها بسرعة وأنه كما حدث من الهجوم على مالطة يستطيع الاعتماد على معاونة الغواصات الإيطالية، ولكن إنجلترا التي خشيت على مصالحها ومناجمها العظيمة في هذه المنطقة بعثت بوارجها الكبرى إلى مياه بلباءو، وأنكرت حق حكومة فرانكو في محاصرتها وخرقت السفن الإنكليزية الحصار وأمدت المدينة المحصورة بالأطعمة، وعاونت على إخلائها من غير المحاربين؛ ومازالت قوات الباسك تصمد للمهاجمين وتكبدهم أفدح الخسائر، وأن كان في الأنباء الأخيرة ما يدل على أن بلباءو قد لا تستطيع المقاومة طويلاً.

قلنا أن الفاشستية الإيطالية تزعم أنها لن تتخلى عن الجنرال فرانكو حتى يحرز النصر النهائي، وتزعم إيطاليا وألمانيا معاً أنهما لن تسمحا، بإقامة حكومة بلشفية في أسبانيا تهدد السلام في غرب أوربا؛ وهما تصفان حكومة أسبانيا الجمهورية بالحكومة البلشفية لأنها تستمد العون من حكومة موسكو، وتلك دعاية مغرضة كما أسلفنا في فرص سابقة، فالجبهة الأسبانية الجمهورية هي جبهة الشعب الأسباني التي تحاول الفاشستية تحطيمها على يد الجنرال فرانكو، وإذا كان في الجبهة الجمهورية عنصر شيوعي فهو أقلية سياسية، كما هو الشأن في معظم الدول الديمقراطية؛ وإذا كانت الجبهة الجمهورية تعتمد على مؤازرة روسيا السوفيتية، فلأنها الدولة الوحيدة التي سارعت لنجدتها في محنتها، ولأن روسيا ليست لها مطامع استعمارية في أسبانيا بل يحدوها إلى هذا العون معركة المبادئ والمثل، فهي في أسبانيا تضرب الفاشستية ألد وأخطر خصومها على أنه إذا كانت الفاشستية تزعم أنها لن تتخلى عن فرانكو حتى يحرز النصر النهائي، فإن السياسة البريطانية من جهة أخرى تبدي صراحة أنها لن تسمح بانتهاك استقلال أسبانيا أو الاعتداء على سلامة أراضيها؛ ٍوهذا ما صرح به أخيراً مستر ايدن وزير الخارجية في مجلس العموم، ومعنى ذلك أن بريطانيا لن تسمح بفوز الجنرال فرانكو، لأن هذا الفوز الذي تدعمه الحراب الأجنبية يعقبه بعض المطامع الإيطالية في جزر البليار وربما في مراكش الأسبانية؛ وإنكلترا مع تمسكها بسياسة الحيدة وعدم التدخل في المسألة الأسبانية، لا تخفي عطفها على حكومة بلنسية، وفي ذلك تؤازرها فرنسا بل ربما ذهبت فرنسا إلى اكثر من هذا العطف في معاونة الجبهة الجمهورية، وإذا كانت إنكلترا وفرنسا تقفان في الميدان الدولي إلى جانب أسبانيا الجمهورية، فإن ذلك لا يرجع إلى لونهما الديموقراطي ولا إلى معركة المبادئ فقط، بل يرجع بالأخص إلى خوفهما من غلبة الفاشستية في أسبانيا، ومما تهدد به مصالحهما الاستعمارية ومواصلاتهما في غرب البحر الأبيض المتوسط.

ومن جهة أخرى فإن إنكلترا وفرنسا تخشيان على مصير السلام من تفاقم الحوادث الأسبانية. ولقد تجلى هذا الحرص على السلام في حادثة البارجة الألمانية دويتشلاند، فقد ألقت طيارات حكومة بلنسية القنابل على هذه البارجة أثناء رسوها في ميناء أبيزا بجزيرة ميورقة فقتلت من بحارتها خمسة وعشرين وجرحت عدداً آخر؛ وثارت ألمانيا لهذا الاعتداء فلم يمض يومان حتى ضربت بوارجها ثغر ألمرية الأسباني على حين فجأة ضباً شديداً فقتلت وجرحت من أهلها المسالمين مئات وخربت قسماً كبيراً منها؛ وعلى أثر ذلك أعلنت ألمانيا وإيطاليا انسحابهما من لجنة عدم التدخل حتى توضع الضمانات الكفيلة بحماية بوارجهما؛ وكان لهذا الاعتداء الذي يشبه أعمال القرصنة من جانب البوارج الألمانية وقع عميق في الأوساط الدولية، لأنه حتى مع التسليم بأن ألمانيا قد اعتدي عليها في حادثة البارجة دوتشلاند، فإنها لم تتقدم بطلب الترضية الودية ولم تقدم إلى حكومة بلنسية إنذارا بها كما يقضي بذلك القانون الدولي، ولم يسبق في قانون الأمم أن اعترف بحق الانتقام من المدن الآمنة دون أن تكون هناك حرب شرعية بين الخصوم. خصوصاً إذا وقع الانتقام على النساء والأطفال كما حدث في ضرب المرية. ومن الغريب أن تنفرد ألمانيا بمثل هذا التصرف لاعتداء وقع على إحدى سفنها تبرره حكومة بلنسية بوجود هذه السفينة في إحدى الموانئ التي بيد خصومها الوطنيين، مع إن مثل هذا الاعتداء قد وقع من قبل في أكثر من فرصة على السفن الإنكليزية ولم تندفع في مثل هذا الانتقام الوحشي.

على أن إنجلترا رأت مع ذلك أن تتفادى عواقب هذا المشكل الخطر، وأن تعمل على رد ألمانيا وإيطاليا إلى لجنة عدم التدخل، فوضعت مشروعاً جديداً يقضي بتعيين مناطق أمينة تستطيع السفن المشتركة في المراقبة أن تلجأ إليها ويحترمها الفريقان المتحاربان، ويعترف المشروع فوق ذلك بحق الدفاع الشرعي للسفن التي يتعدى عليها وقت الاعتداء فقط، ولكن الإجراءات اللاحقة تكون موضع بحث بين الدول، وتدل الأنباء الأخيرة على أن ألمانيا وإيطاليا قبلتا هذا المشروع، وقررتا العودة إلى لجنة عدم التدخل، وبذلك تكون السياسة الإنكليزية قد استطاعت أن تتفادى عواقب هذا الاحتكاك الخطر بين ألمانيا وحكومة بلنسية.

على أن المأساة الأسبانية ما زالت مفعمة بالأخطار والمفاجآت. والخطر في هذه المأساة هي صبغتها الدولية، التي أشرنا إليها. فالصراع الدولي بين الجبهتين الأوربيتين الفاشستية والديموقراطية مازال قائماً، وإذا لم تبذل الدبلوماسية الأوربية جهوداً جدية لإخراج القوات الأجنبية من أسبانيا، وترك أسبانيا تقرر مصيرها بيدها، فسوف تبقى المشكلة الأسبانية خطراً دائماً على السلم الأوربي.

  • * *