مجلة الرسالة/العدد 207/في الأدب المقارن

مجلة الرسالة/العدد 207/في الأدب المقارن

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 06 - 1937



الحكمة في الأدبين العربي والإنكليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

يولد المرء جاهلاً ثم لا تزال التجارب تبصره بحقائق الحياة ولا يزال الدهر يعلمه ويؤدبه، ولا يزال هو بثاقب فكره، يتعظ بماضيه وينتفع بمشاهداته، ويصوغ من جزيئات التجارب التي يمر بها كليات يلخص فيها نواميس الحياة وطباع الأشياء، التي يجدر بالعاقل أن يسايرها ويحتال لها، لا أن يصادمها ويجري على غير سننها، وتلك هي الحكم التي هي لباب التجارب وثمار المعرفة، والتي يغتبط الأديب أي اغتباط حين يستخلص عصارتها من مرير الشدائد وعصيب الأزمات، ويتجلى له ضياؤها بعد أن تنقشع غيوم المطامع وعواصف المخاوف، ويتوارثها الناس جيلاً بعد جيل، وتتشكل مع اختلاف بيئاتهم وتقاليدهم، ويشدو بها الصغار وهم ناشئون ولا يعرف صدقها إلا الكبار، بعد أن يخوضوا أتون التجارب الذي ينضج النفوس.

فالحكمة خلاصة التجربة العلمية، ولا تقرأ في الكتب ولا تؤخذ عن المؤدبين. ومن ثم يستوي فيها الخاصة المثقفون والعامة الأميون، إذ كان كلاهما يستقي من معين الحياة المشهودة؛ وتذيع بين العامة أمثال وحكم هي غاية في الصدق ونفاذ النظرة وبلاغة التعبير. وقد يطابق بعضها أمثال الخاصة والحكماء في كتبهم؛ وتدل تلك الحكم السائرة بين الشعب على الكثير من أخلاقه وأعماله، من سعي وتوان، ووقار واستهتار، وإمعان في الحروب واستراحة إلى السلم والدعة، ومن ثم نرى كثيراً من الأمثال المتخلفة عن جيل الانحطاط الماضي، رغم صدقها وعمقها مصوغة في أبذأ لفظ وأفحش صورة، ونرى كثيراً منها يحث على القناعة والتواكل والقعود.

ومن الحكم ما نرسل موجزة مستقلة كأنها القضايا المنطقية مبدوءة ببعض حروف الشرط أو أسمائه، ومنها ما تصاغ في قصة محكمة ذات مغزى، ومن تلك القصص ما ينسب إلى حكيم من الأقدمين كلقمان، أو إلى شخص خيالي مثل جحا الذي صاغ العمة حوله قصصاً بالغة غاية الحكمة والمتعة والفكاهة، ومن تلك القصص ما يجري على السنة الحيوان، ويقوم الأسد فيها بدور السلطان ويلعب الثعلب دور المكر والاحتيال، ويمثل الذئب دو الغدر والافتئات، وقد كان للأمم القديمة كالمصريين والفرس والهنود، من كل هذه الضروب حظ وفير، وفيها يبسط الحكماء المجربون لأبناء جلدتهم ثمار تجاربهم، ويحضون على حسن المعاملة ويدعون إلى الفضيلة.

والشرق، مهد المدنيات القديمة والإمبراطوريات العظيمة، والملكيات المطلقة ذات الحول والأبهة والبذخ، والموارد الواسعة والكنوز الطائلة، هو مهد الحكمة ومطلع الحكماء والأنبياء، فيه تتجلى طباع الأشياء على جهارتها، ويتجاور البذخ المفرط والبؤس المرمض، وتتابع السعود والنحوس، وتتقلب الأيام والدولات وتعقب عصور الرخاء والازدهار عهود الشدائد والأدبار، ومن كل ذلك تستخلص عبر الحياة وعظاتها، ويتجلى لذوي النفوس العالية غرورها وبهارجها، وتنصرف همة الحكماء والفضلاء إلى هداية مواطنيهم إلى سبيل الخير والسلامة وتلقينهم كيف يعيشون في أمن من جور الغاشمين وبطش الأقدار ويسعون جهدهم لتخفيف ما حولهم من آثار البؤس والبلاء، وإصلاح ما يرون من أسباب الفوضى والفساد، وهكذا كان يظهر المصلحون والأنبياء بين اليهود والهنود وغيرهم من أمم الشرق، بين الفترة والفترة.

وللحكمة الصادقة المصوغة في اللفظ البليغ المحكم مكانها في أدب كل لغة: ففي كل أدب ما لا يعد من الحكم المتواترة يقتبسها الأدباء في مواطنها، وقد نسيت أسماء قائلها وضاعت نسبتها وصارت من تراث الأدب المشاع، وفيه كذلك ما لا يعد من آثار الشعراء والكتاب التي أساسها الحكمة وقوامها خلاصات التجارب التي عركتهم؛ وفي الأدبين العربي والإنجليزي تراث حافل من الحكم والأمثال، وفي كل منهما أدباء اشتهروا خاصة بصوغ الحكم وجرت آثارهم على الأقلام والأفواه، لما تمتاز به من صدق النظرة وشمول الفكرة وإيجاز اللفظ.

ففي الإنجليزية اشتهر شكسبير أولاً وبوب ثانياً بروائع حكمهما. وسارت كثير من أبياتهما مسير الأمثال، لما امتز به كلاهما من التمكن من اللغة وبلاغة الأداء ووجازة التعبير، رغم اختلافهما فيما عدا ذلك من نظرة إلى الحياة ومذهب في الفن؛ وندر من كبار أدباء الإنجليزية من لم يسر له مثل أو أكثر فيما توفر عليه من موضوع كالطبيعة والجمال والاجتماع والمرأة وهلّم جرا ومن الإنجيل سرت في اللغة الإنجليزية المكتوبة والمتكلمة أمثال وحكم عديدة، لا تزال تحمل طابعها الإسرائيلي وتدل بأسماء أعلامها ومواطنها على نشأتها الشرقية؛ وسرت في الإنجليزية كذلك أمثال عديدة من الإغريقية واللاتينية يترجمها الأدباء إذا استعملوها وقد يثبتونها في لغتها الأصلية.

بيد أن ذلك هو كل ما هنالك، والحكمة في الإنجليزية نادرة إلى حد بعيد، وهي لم تكن من مطلوب أدبائها ولا من هم شعرائها يتوخونها عمداً ويودعونها اللفظ البليغ الموجز، ولم يكن الإيجاز من دأبهم كما كان من دأب شعراء العربية وأدبائها في أحسن آثارها وأزهر عصورها، فالأديب الإنجليزي إذا أخذ في الكتابة أرسل لخياله العنان، وأبرز فكرته الواحدة في شتى الصور متسلسلة متتبعة غيرها من الأفكار، أما الأديب العربي فيؤثر الإيجاز البليغ ويودع المعنى الواسع الشامل البيت الموجز أو العبارة المحكمة ويتجه إلى غيره، وهذا الإيجاز المشهود في جيد الشعر الجاهلي راجع بلا شك إلى أمية العرب وحاجتهم إلى الاستغناء بالقول الجامع، والاجتزاء بالحكمة الشاملة، وقد توورثت هذه الخلة من خلال الأدب الجاهلي فيما تلا ذلك من عصور الأدب العربي كما توورث غيرها من خلالّ.

ومما حبب العرب في جاهليتهم في الحكمة أخذهم بحياة الحل والترحال، واشتغالهم أبدا بالقتال وإدراك الثارات: فتلك حياة شديدة كانت تتطلب كثيراً من العمل وقليلاً من الكلام المفيد مع قلته. وكان الانتفاع بالتجارب من أكبر أسباب النجاح فيها، والاشتهار بالحكمة والدراية من صفات الشيوخ والرؤساء؛ ومنهم كان كثير من فحول الشعر ورجال البيان ومصاقع الخطباء كالأفواه الأودي وأكثم بن صيفي وقس بن ساعدة الأيادي. ومن ثم أثر عن الجاهليين ما لا يعد من روائع الحكم نظماً ونثراً. ومن أمثلتها خطبة قس بن ساعدة وحكم زهير بن أبي سلمى في معلقته.

وقد أعجب المتأخرون من الشعراء والأدباء بهاتيك الحكم أيما إعجاب، وشمروا عن ساعد الجد للإتيان بأمثالها، وعدوها محك قدرة الشاعر وبرهان الشاعرية الصادقة، وكاد يلهيهم الاشتداد في طلبها عن ابتكار شيء جديد في الشعر.

وكان العرب في الجاهلية لا يعدون الشاعر فحلا حتى ينطق بالحكمة، فما لم يأت بشيء منها فهو وبعد غر لم ينضجه تنور التجارب ولم تتكشف له حقائق الحياة؛ وظل الأعشى فيما قبل مزوياً عن مرتبة الفحول، رغم ضربه بسهم في مجالات المدح والهجاء والاعتذار ووصف الخمر، حتى قال في مدحه سلامة ذو فائش: (والشيء حيثما جعلاً) فرفعته هذه الجملة الموجزة إلى مصاف النابغة وامرئ القيس. وتروى حكايات كهذه عن شعراء الإسلام: فقد قيل إن جريراً سمع دالية عمر بن أبي ربيعة التي يقول منها: (إنما العاجز من لا يستبد)، فقال: (ما زال هذا الفتى يهذي حتى قال الشعر)، فهو لم يحفل بكل ما قاله الفتى في التشبيب، حتى ضرب على وتر الحكمة فاستثار إعجابه.

وأدب الجاهلية وصدر الإسلام حافل بتلك الحكم البليغة المشتملة على تجارب قائليها من سادة القبائل وأشرافها، الجامعة لنظراتهم في الحياة وخطتهم وسننهم فيها، وتمدحهم بما رسموه لأنفسهم من مناهج وما أخذوها به من فضائل، وهذا الباب من أكرم أبواب الأدب العربي وادعاها إلى الإعجاب، ومن أجله كان العرب في تلك العهود يغالون بالشعر وينشئون أبنائهم على مدارسته، وكانوا يسمون هذا الباب من الشعر بالأدب، لأن حفظ آثاره والتمثل بها يؤدبان النفس ويهذبان الخلق، وذاك هو الاسم الذي أطلقه أبو تمام في حماسته على ذلك الضرب من القول الشامل للحكمة والتمدح بالفضيلة. وقد اتسع معنى هذا اللفظ فبعد أن كان اسم جزء صار اسم كل وأطلق على الشعر جميعه والنثر معاً. وليس شك في أن هذا التطور الطبيعي البسيط هو منشأ كلمة أدب اللغة، وإن يكن بعض المستشرقين قد تحذلق وزعم أنها مقلوبة عن كلمة دأب. فذلك من قبيل النظريات المحضة التي لا تبلغ مبلغ اليقين أبداً؛ وليست إلا من قبيل التظرف العلمي والتظاهر بالتعمق في البحث، وإن لم يجد ذلك العلم فتيلا، ولم يدرك يوماً منزلة الإقناع.

كانت الحكمة من أظهر أبواب الأدب في الجاهلية وصدر الإسلام، وكان من أقطابها في الجاهلية من ذكر، وفي الإسلام الإمام علي والأحنف بن قيس وكثير من الصحابة، وبظهور الإسلام ثم توطد الدولة زاد العرب كلفاً بالحكمة وزاد الداعي إليها أهمية، فقد جاء في القرآن الكريم والحديث حافلين بروائع الحكم وجوامع الكلم، التي أربت على الغاية من البلاغة والسمو، وحثاً على طلب الحكمة التي هي ضالة المؤمن، وقد ظل الكتاب والحديث دائما نموذج الأدباء ومستقاهم؛ فلما فرضت الملكية المطلقة سلطتها كاملة، وأخرست الأفواه وأسكتت النقد، عادلة حينا وجائرة أحيانا، وجد الناس في الحكمة الشاملة المعممة سلوة للنفوس المقهورة، وعزاء عن المآرب المحظورة، وتنفيسا عن المطامح المستورة، واتقاء لشبهات السلطان، فأجريت الأمثال والمواعظ على ألسنة السلف الصالح، وملوك الأمم الغابرة وحكمائها وفلاسفتها، ووضعت على أفواه الحيوان والأرواح، وأرسلت شعراً ونثراً، وترجمت عن اللغات، وكان من ذلك مترجمات ابن المقفع.

وكانت الصبغة الدينية التي لازمت توطد الدولة الإسلامية وتطور المجتمع الإسلامي، داعياً آخر إلى انتشار الحكمة في الأدب، وفي الحكمة كتب ونظم كثير من رجال الدين، ومن آثار الحكمة التي مبعثها الشعور الديني أشعار أبي العتاهية وأبن عبد القدوس والأمام الشافعي، ومما زاد هذه النزعة الدينية احتداد، وهذه الحكم الدينية ذيوعاً، ما كان يجاورها من مظاهر الترف المغرق وآثار اللذات والمفاسد، فكانت تلك رد فعل لهذه، وكان من الشعراء المغرقين في المجون والتبذل كأبي نواس وبشار، من تعاودهم رجعات من التبصر في الحياة وغرورها، حين تسئمهم اللذات ويرهقهم بشمها وخمارها، فيرسلون في أشعارهم من الحكم ما قد ينسب إلى أزهد الزهاد وأحكم الحكماء

وبدخول الأدب العربي طوره الفني طلب الشعراء البراعة والتفنن بصوغ الحكم وضرب الأمثال محاكاة للأقدمين وتوليدا من معانيهم، وكانوا يشفعون الحكمة الإنسانية أحياناً بمصداقها من عالم الطبيعة والحيوان والجماد، فإذا أرسل أبو تمام حكمة في ظهور فضل المحسود على يد الحاسد ضرب لذلك مثلاً اشتعال النار فيما جاورت وإعلانها بذلك طيب عرف العود، ويقول في موضع آخر منتزعاً مصداق كلامه من ظواهر الطبيعة:

وإذا رأيت من الهلال نموه ... أيقنت أن سيكون بدراً كاملاً

ويقول غيره:

يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي اللحاء

واشتغل المسلمون بدراسة الفلسفة اليونانية دون الأدب اليوناني، فتأثر أدبائهم بتلك الدراسة، وازداد ولعهم بالحكمة، واتخذت حكمتهم صبغة فلسفية أقرب إلى القضايا المنطقية وأشبه بالاستقراء العلمي، وذلك واضح في أشعار المتنبي والمعري اللذين انحرفا بذلك بعض الانحراف عن الأسلوب العربي الأصيل، الذي يمتاز بالبلاغة والوضوح والإطلاق، وبلغ من تأثر شعر الحكمة في العربية بروح الفلسفة اليونانية، أن أبا علي الحاتمي وضع رسالة يرد فيها أكثر حكم المتنبي إلى كلام أرسطو. وفي شعر المتنبي بلغت الحكمة العربية أوج رقيها، أو بالأحرى بلغ الشعر العربي ذروة عظمته، وبلغ من احتفاء الشعراء بتضمين الحكمة أشعارهم أن قيل في الموازنة بين أبي تمام والمتنبي والبحتري إن الأولين حكيمان، والشاعر البحتري، لكثرة ما في شعرهما من الحكم، وأبو تمام هو القائل في ذلك الضرب من الشعر:

يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة ... ويقضي بما يقضي به وهو ظالم

ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بغاة العلا من أين تؤتى المكارم

فالولع بالحكمة ظاهر في الأدب العربي: فاقتباس المأثور من كلام المتقدمين أكثر ذيوعاً في العربية منه في الإنجليزية، والحكمة مادة جانب عظيم من كتب الأدب التي تحفل بما أثر عن الحكماء والخلفاء والفقهاء من جوامع الكلم، وهي موضوع مطولات كثيرة كمقصورة أبن دريد ولامية أبن الوردي وأرجوزة صاحب كتاب الصادح والباغم، وبها تمتلئ الخطب المنسوبة إلى وفود العرب إلى كسرى وإلى أهل بيت المهدي عند مشاورته لهم في حرب خراسان. وقد أولع الكتاب بنثر حكم الشعراء في رسائلهم مسجوعة منمقة، كما أولع الشعراء بنظم الحكم السائرة وأمثال العامة، وكان الشعراء أكثر لجوءاً إلى نظم الحكم وسرد العبر والاستشهاد بعظات التاريخ خاصة في قصائد الرثاء ورسائل التعزية وأشعار الشكوى والوجدانيات؛ وكثيراً ما كانت تساق الحكم في هيئة نصائح. ويقول أبن عبد القدوس (والنصح أغلى ما يباع ويوهب) ومن شعر النصيحة جيمية محمد لأبن بشير التي يقول منها:

قدم لرجلك قبل الخطو موضعها ... فمن علا زلقا عن غرة زلجا

أم الموضوعات التي طرقتها الحكمة في الأدب العربي فلا تحصر، فقد جالت في شتى نواحي الحياة: من غرور الدنيا وتقلبها ووجوب الحذر منها وتوقع زوالها، إلى مزايا الشدائد وامتحانها للرجال، إلى ندرة الصديق الصدوق، ومن شؤون الحياة اليومية إلى سياسة الدول وحكم الشعوب، ومن آداب الحوار إلى آداب مصاحبة السلطان؛ وكان بعض الشعراء يتوفرون على ضروب دون غيرها من الحكمة، حسب ما توجههم إليه بيئاتهم ونفسياتهم؛ فأبو العتاهية كان دائم الذكر للموت، والمتنبي كان يشتق حكمه من حياة التناحر والمطامع والمعارك الأدبية والسياسية التي كان يحياها، والمعري كان يستقي حكمته ويستخرج عبرة من ظواهر الكون التي كان دائم الاشتغال بها، فهذان البيتان من نظمه يحملان طابع تفكيره ولا يمكن أن ينسبا إلى سواه:

يغادر غابة الضرغام كيما ... ينازع ظبي رمل في كناس

سجايا كلها غدر ولؤم ... توارثها أناس عن أناس

فكثير من الظروف التي أحاطت بالأدب العربي في الجاهلية والإسلام كانت تدعو إلى انتشار آثار الحكمة فيه، فجاء حافلاً بها منثوره ومنظومه على متعدد الصور ومختلف الأوضاع، ومثل هاتيك الظروف لم تصاحب الأدب الإنجليزي، ومن ثم كانت الحكمة فيه أندر كثيراً، فلا البداوة ولا الملكية المطلقة ولا رد الفعل المنعكس من الترف المفرط، ولا الروح الديني المتغلغل في المجتمع، لم يؤثر شيء من ذلك في الإنجليزية تأثيره في العربية ولم يقتصر الإنجليز على دراسة الفلسفة الإغريقية بل درسوا معها الأدب الأغريقي، وعنه تلقوا رسالته وهي الجمال، فصارت هذه رسالة الأدب الإنجليزي أيضاً، فكان الأديب الإنكليزي يتوخى الجمال فيما يشاهد ويحس ويكتب، في حين كانت الحكمة والعبرة والموعظة قبلة الأديب العربي في كل ذلك، ومن الأدب الإغريقي تعلم الأديب الإنجليزي أيضاً أن يطلق لفكره العنان ويفسح لبيانه المجال، على حين ظل رائد الأديب العربي بلاغة الإيجاز، وكبح جمحات الخيال.

ومن ثم تمثل خير ما في الأدب العربي في حكم الشعراء والخطباء والكتاب، وجوامع كلهم وموجز بيانهم، وتمثل خير ما في الأدب الإنجليزي في سبحات الخيال المطلق المطنب، من درامات وملاحم وقصص، فالعيب الاجتماعي أو النقص السياسي الذي كان يراه الأديب العربي، فتحمله الظروف سالفة الذكر على أن يصوغه حكمة موجزة عامة لا تثير ريبة السلطان، كان يحوك حول الأديب الإنجليزي في قصة اجتماعية رحيبة الجوانب تشخص موضع الداء تشخيصاً؛ وتعين الدواء، ويتجلى الفرق بين الأدبين في هذا الصدد في نوع عبقرية شاعريهما الفذين: فقد بلغت العبقرية الشعرية الإنجليزية ذروتها في آثار شكسبير صاحب الدرامات العجاجة بالخيال المطلق، وبلغت العبقرية الشعرية العربية أوجها في قصيدة المتنبي الحافل بالحكمة البليغة.

فخري أبو السعود