مجلة الرسالة/العدد 210/القصص

مجلة الرسالة/العدد 210/القصص

ملاحظات: عزلة Solitude هي قصة قصيرة بقلم غي دو موباسان نشرت عام 1884. نشرت هذه الترجمة في العدد 210 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 12 يوليو 1937



عزلة

للكاتب القصصي الفرنسي جي دي موباسان

ترجمة الأستاذ خليل هنداوي

وكان ذلك عقب غداء فشا على أثره طرب قوي، قال لي صديق قديم:

- هل لك بأن تجوز ممشى (الشانزليزيه) سعياً على الأقدام؟

انطلقنا بخطوات وئيدة، تظللنا أشجار في مطلع الإيراق، وقد هيمن السكون على تلك البقعة، ما عدا تمتمة مبهمة دائمة تصاعد من قلب (باريس)، ولقد تهب نغمات باردة تضرب وجوهنا، ومن فوقنا قناديل من نجوم تبسط على أديم السماء الأسود أزراراً ذهبية!

قال رفيقي:

- لست أدري لماذا أرى الليل - هنا - أجمل منه في مكان آخر؟

يخيل إلي أن أفكاري تتمدد في أرجائه، وأن في روحي هذه المسارب من النور الدافق التي تطمعني - خلال برهة واحدة - بأن اطلع على السر الإلهي للأشياء، ولكن سرعان ما توصد النافذة، فينتهي بإغلاقها كل شيء.

وكنا بين الذهلة والذهلة نلمح على الأرصفة شبحين متلاصقين يزلقان في الليل أو نمر بمقعد منعزل استوى عليه كائنان لا يراهما الرائي إلا نقطة سوداء. همس في أذني رفيقي: - إنهما لا يبعثان في فؤادي سأماً - ولكن إشفاقاً كبيراً، ومن كل أسرار الحياة لا يلوح لي إلا سر واحد يشغلني، وإن كل عناء في الحياة مصدره أننا نحيا دائماً منعزلين! وكل ما نبذل من جهودنا لا نريد به إلا الفرار من هذه العزلة. إن هؤلاء العشاق المنطرحين على المقاعد في الجو الطلق يفتشون مثلنا عما يخفف مضض انعزالهم - وما ذلك إلا عمر لحظة - ثم يظلون منعزلين ونحن أيضاً.

إنهم يحسون هذه العزلة، أقل أو أكثر منا، وهذا كل شيء. منذ حين أقاسي العذاب لأنني أدركت واكتشفت العزلة المروعة التي أحيا فيها، وعلمت أن لا شيء يستطيع أن يقضي عليها مهما جربنا، ومهما عملنا، ومهما ذهبت إليه خفقات أفئدتنا، ونجاوى شفاهنا، وضمات أذرعنا، فنحن دائماً نظل منعزلين.

إنني قدتك هذا المساء إلى هذه النزهة، فراراً من لجوئي إلى بيتي، لأنني أتألم كثيراً من العزلة التي تهيمن على المنزل، وما عسى يجديني هذا؟ إنني أكلمك وأنت تسمعني، ونحن وحدنا جنباً إلى جنب، ولكننا منعزلان. . . .

يقول الكتاب المقدس: سعداء هم مساكين الأرواح، إن عندهم وهم السعادة، إنهم لا يشعرون بشقائنا المنعزل، ولا يبهتون مثلي في الحياة، لا يعرفون من اللمس إلا لمس المرافق، ولا يعلمون من الفرح إلا قناعتهم الأنانية بالفهم وبالنظر، وبالتنبؤ وبالتألم دون نهاية من إدراك عزلتنا الأبدية.

إنك لتراني مجنوناً! أليس كذلك؟

إنني بعد ما أحسست عزلة كياني، خيل إلي أنني أهوى يوماً فيوماً في مهوى مظلم لم يقع طرفي على حافة له، ولم أدرك له نهاية، وربما كان بلا غاية. فأفلت إليه وحدي دون رفيق معي ولا حولي، ولا سالكٍ طريقي المظلمة. هذا المهوى هو الحياة، وخلال ذلك كنت أسمع صخباً عالياً وصيحات وأصواتا فكنت أدنو من هذا الصخب المضطرب متسللا، ولكني لم أعلم علم الحق من أين مأتاه، وما ألفيت إنساناً، وما عثرت على يد أخرى ترتفع في هذا الظلام المسدل علي.

هنالك رجال مثلنا أحسوا هذا الألم الممض وتنبئوا به، منهم (موسى) الصائح:

(من جاء؛ ومن دعاني؟ لا أحد!

أنا وحدي! وهذه الساعة التي تدق

يا للعزلة! يا للشقاء!)

ولكن العزلة - عنده - ما كانت إلا شكاً طارقاً، ولم تكن حقيقة ثابتة كما هي عندي. أنه كان شاعراً، يؤنس الحياة بأخيلته وأحلامه. إنه لم يكن وحده أبداً. ولكني أراني وحدي وهنالك (غوستاف فلوبير) أحد كبار أبناء الشقاء في هذا الوجود، لأنه كان أحد عباقرته، كتب إلى صديقة له هذه العبارة اليائسة (نحن كلنا في صحراء؛ لا يفهم أحداً منا أحداً) بلى! لا يفهم أحد منا أحداً، فمهما فكروا، ومهما قالوا وجربوا فالأرض هل تعلم ما يجري على مسارح هذه الكواكب المنتشرة كذرة نارية في هذا الفضاء نرى منها على البعد صفاء بعضها، والأكثر عدداً منها ضائع في اللانهاية، وقد يؤلف القريب منها كلا واحدا كما هو الحال في ذرات الجسد.

وهكذا الإنسان لا يدري ما يجول في صدر رفيقه الإنسان وإن واحدنا لأكثر بعداً عن الآخر من هذه الكواكب السابحة، وأكثر اعتزالاً لأن الفكر لا يسبر غوره.

هل تعلم شيئاً أبعث على الهول من هذا التماس الخاطف في الأكوان الذي لا نستطيع إدراكه. إننا نحب بعضنا بعضا كأننا مقيدون مبسوطة أذرعنا دون أن نقدر على ضم. على أن حاجة ضرورية للاتحاد تؤلفنا، ولكن جهودنا لا تزال ضائعة، وثقتنا غير مجدية، وعناقنا ضعيف، وحناننا باطلاً، فإذا أردنا اتحاداً لم تعمل مطامعنا إلا على إقصاء واحدنا عن الثاني.

إنني ما شعرت أنني (واحد) إلا حين استسلم لصديقي وافتح قلبي له. إذ أفهم ذلك الحاجز القائم بيني وبينه. هو هنالك، ذلك الإنسان، أرى عينيه تسطعان حولي ولكن نفسه - وراءها - لا أدركها. هو يسمعني، ولكن فيم يفكر؟ أجل! فيم يفكر؟ إنك لا تفهم هذا القلق، إنه ربما يقليني، أو يحقرني، أو يسخر مني، إنه يفكر فيما أقول، يناقشني، يحكم علي، يراني أبله أو أحمق. وأنى لي أن أدرك ما يفكر فيه؟ وأنى لي أن أفهم هل يحبني كما أحبه؟ وما يجول في هذه الجمجمة المستديرة!؟ وأي سر هذا الفكر المجهول في كائن: الفكر المتواري الحر الذي لا نقدر على معرفته ولا قيادته، ولا الاستيلاء عليه، أو الظفر به؟

أنا، أردت بكل نفسي أن أسلم نفسي كما هي وأفتح أبواب نفسي جميعها. ولكني لم أقدر على هذا الإسلام كله، لأنني أصون في أعماق نفسي (مكان ذاتي الخفية) حيث لا يظهر أحد ولا يقدر أحد أن يكتشفه أو يدخله، لأنه لا أحد يشبهني، ولأنه لا أحد يفهم أحداً!

أفهمتني أنت الآن؟ كلا! إنك لتحكم علي بالجنون، إنك تتأمل في، وتحترز مني! وتسأل نفسك: (ماذا به هذا المساء؟ ولكنك إذا قدر لك يوماً أن تدرك موضع الألم في فعد إلي لتقول لي: (قد فهمتك!) وحينذاك تجعلني سعيداً - ولو عمر لحظة -

هن النساء اللواتي جعلنني أحسن تقبل وحدتي، آه كم تذوقت من الألم في سبيلهن! لأنهن منحني، أكثر من الرجال، التوهم بأنني لست وحيداً!

عندما يحب الإنسان يحس أن عالمه قد اتسع، وأن سعادة - فوق السعادة الإنسانية - تغمره. هل تعلم سبب ذلك؟ وهل تعلم مصدر هذه السعادة؟ يعود مصدره إلى أن الإنسان أعتقد بأنه ليس وحيدا. وأن العزلة أو الابتعاد عن الكيان الإنساني قد انتهى سلطانه، ويا للوهم!

المرأة هي اشد قلقاً منا بهذه الحاجة الملحة للحب الثابتة التي تأكل قلبنا المنعزل، وهي الأكذوبة الكبرى من الحلم إنك لتعرف هذه السويعات الجميلة التي نقضيها مع هذا الكائن التي طالت غدائر شعره، وراقت ملامحه أو فتكت لحاظه، فأي هذيان يملك علينا أرواحنا؟ وأي وهم يغمرنا؟

أنا وهي لم نكن إلا واحداً في هذه الساعة، ولكن هذه الساعة لن تحين، وبعد أسابيع انتظار وأمل وفرح خادع، أجد نفسي فجأة أكثر انعزالاً ووحدة من أي عهد مضى! فبعد كل قبلة وبعد كل عناق أجد العزلة تتسع آمادها، ويا لها من عزلة مروعة مؤلمة!

يقول الشاعر (سوللي برودوم)

ليس العطف والحنان إلا هيماناً مقلقاً

كلها تجاريب باطلة يقوم بها الحب التاعس مجربا (الاتحاد المحال) بين (الأرواح والأجساد)

وثم وداعاً، فقد انتهى كل شيء، على أن هنالك جهدا في معرفة المرأة التي كانت كل شيء لنا، وفي لحظة من الحياة، وما عرفنا ولن نعرف الفكرة الباطنة والسطحية من دون ريب! وفي الساعات ذاتها حيث يخيل إلينا أن الأكوان أصبحت في عهد اتحاد سري وامتزاج كامل للرغاب، تنزل إلى أعماق نفسها، وكلمة قد تكون تبدي خطأنا، وتطلعنا - كأنها البرق الوامض في الليل - على الهاوية التي تفصل بينها وبيننا!

وهنالك ما هو خير وأحسن في الوجود؛ أن تقضي أمسية مع امرأة تحبها دون أن تتكلم، سعيداً كل السعادة، مغتبطاً بمجرد قيامها إزاءك. حاذر أن تطلب أكثر من هذا، لأن امتزاج كائنين مستحيل.

أما أنا الآن فقد غلقت أبواب نفسي، لا أقول لأحد عما أعتقد، ولا أظهر ما أفكر، أنظر إلى الأشياء، وأنا عالم ما تحمله إلى العزلة المروعة - دون أن أعلن عنها، وما عسى تهمني الأفكار والمشاحنات والمسرات والاعتقادات؟ لا أستطيع أن أقاسم أحداً فكرة، نفسي تتنصل من كل شيء، وفكرتي الباطنة تظل خافية على الناس، وعندي جملة عامة لكي أجيب بها على الأسئلة التي تلقي علي كل نهار. وعندي ابتسامة تقول:

نعم! حين لا أكلف نفسي مشقة الكلام

لبثنا في مشينا حتى عرجنا في سيرنا على قوس النصر، ثم هبطنا ساحة (. . . .) وكان يعرض فكرته متهملاً وقد أضاعت ذاكرتي الشيء الكثير مما عرضه.

وقفت فجأة باسطاً يده نحو المسلة العالية المنتصبة الشامخ رأسها في النجوم المفنية القصية عن موطنها الحاملة تاريخ وطنها المنقوش بإشارات غريبة، وقد هتف صاحبي:

- إننا كلنا مثل هذه الأرض!

ثم غادرني دون أن ينبس بكلمة

أهو مجنون أم عاقل؟ لست ادري: ولكن يخيل إلي طوراً أنه على بينة من أمره، وطوراً أنه فقد عقله.

خليل هنداوي