مجلة الرسالة/العدد 210/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 210/رسالة الفن
ميكيلانجلو
العبقرية الملهمة
للدكتور أحمد موسى
خاتمة
أما المرحلة الثانية التي تنحصر بين سنة 1505، 1535 فهي تبدأ عندما رحل إلى روما وأقام فيها، حيث أتم أبرز عمل في حياته، ألا وهو تصوير السقف السكستيني بالفاتيكان على الجص (الفرسكو)، فظل من مايو سنة 1508 إلى خريف سنة 1512 منكباً على العمل لا يعاونه مساعد ولا ينصرف إلى غيره؛ الأمر الذي عاد عليه بشيء من حدة الأعصاب يؤوله غير عارفيه بكراهيته للناس.
وهذا السقف مقبب يتوسطه حقل يكاد يكون مسطحاً، وجنوبه مقببة أيضاً ولكن بشكل سيمتريكي متناظر، يتخلل هذه الجوانب نوافذ على هيئة أهلة.
ولا بد أن تؤدي بنا الرغبة في تفهم إنتاج ميكيلانجلو تفهماً صحيحاً إلى تقسيم تصويره هذا السقف إلى أربع شعب: إحداهما تتناول المصورات الدينية التي صورها في وسط السقف في تسعة حقول عدا صور الجوانب التي منها أربع كبيرة والأخرى صغيرة؛ محاطة كلها بإطارات وجامات من الشبهان (البرونز)؛ والأخرى تمثل مناظر تاريخية للعهد القديم كخلق الدنيا، وخلق آدم وحواء، ونوح والطوفان، والخالق يبدي إرادته، وتناولت غيرها خلق النور من الظلام، وخلق الشمس والقمر والنبات، وخلق الحيوان، وخلق آدم. وفي هذه القطعة عبر عن نهاية النهايات أبدع تعبير يمكن أن يتصوره ويخرجه فنان، وخلق حواء والخطيئة والطرد من الجنة، وفي هذا أجاد في تمثيل قوة الإرادة عند حواء، والطوفان.
وله صور على الجوانب المقببة لا يتسع المجال لذكرها جميعاً، ولكني أقتصر على ذكر أهمها من الصور التاريخية، التي من أروعها صور الأنبياء والكاهنات وهي تقع بي فتحات النوافذ، وقد أجاد تصويرها وكلها ترمي إلى نشر رسالة الخلاص والتبشير بانتهاء الجاهلية واليهودية. وأستطيع أن أقرر أن هذه المناظر أجمل وأعظم ما أبدعه فنان على مر القرون، فهي الكعبة التي يحج إليها كل فنان حيث يقف ناظراً مستلهماً، فيذهب به خياله إلى التسبيح بذكر العلي القدير الذي جعل من بين خلقه من استطاع الوصول بالفن إلى هذا الكمال. يقف المشاهد أمام هذا الخلق الرائع والجمال السامي والنبل العظيم كما لو كان في حلم هنئ فيشعر دون إرادة منه بعبيق العبادة يحيط به، ونقاوة القلب وصفاء الضمير يغمر كيانه، ويحس أنه قد تجرد من حاجات النفس المادية، ثم لا يلبث أن يرجع ببصره مطأطئ الرأس أمام العظمة الإلهية التي تمثلت خير تمثيل في إبداع العبقري الملهم
ولا بأس من أن نعرج قليلاً على ذكر بعض هذه المصورات التي أرى أن أهم ما يجب تعريفه للقارئ منها هو: صورة جرمياس وقد غطت وجهه تجاعيد الهم والتفكير والكرب، وصورة يونس والحوت. وصورة كاهنة عجوز ساحرة.
كما أن له صوراً قصد بها التحلية ولم يسمها وهي تشمل رجالاً وأطفالاً، وقد عرت جسوم الأولين، ويستوقف المتأمل في هذه الصور جمال التفاصيل وقوة الإخراج، والإبداع في إبراز الحركات الجسمانية كاملة قوية مما يجعلها تنبض بالحياة وتتحدث عن عظمة الفن.
ومن هذا نرى أن السقف السكستيني هو أعظم إنتاج وصل إليه ميكيلانجلو، ليس في هذه المرحلة الثانية فقط؛ بل في حياته كلها، لأنها مثلت القدرة الفائقة في الخلق الفني الأسمى والتفوق الرائع في التعبير عن المثل الأعلى، كما تعرفنا بعينيه المحيطتين اللتين نظر بهما إلى الحياة فتغلغل إلى كنهها.
وسافر بعد هذا إلى فلورنسا وهناك لا نعرف له إلا صورة واحدة أسماها (ليدا والبجعة) وهي مصورة بطريقة تمبرا (راجع المقال السابق) أتمها سنة 1530، وللأسف توجد في أسوأ حال بالناشيونال جاليري بلندن.
وكان أهم عمل له في المرحلة الثالثة صورته (ليوم القيامة) وهي هائلة عملها بالفرسكو على حائط الهيكل السكيتيني من سنة 1535 إلى سنة 1541، وتشمل السيد المسيح كقاضي العالم وإلى جواره مريم وحوله القديسون وبالقرب منه صورتان رسمت كل منهما في نصف دائرة ممثلة مجموعات من الملائكة.
أما في الوسط فيوجد سبعة ملائكة رفع الأتقياء إلى النعيم وعلى اليسار الإلقاء بالمغضوب عليهم في الجحيم، وهنا نرى عبقرية ميكيلانجلو قد بدت في أقوى مظاهرها.
وتحت هذه المناظر صورة أخرى تمثل البعث وغيره من المناظر الدينية، كلها عظيمة الإنشاء قوية الإخراج، وفيها يتمثل العنف والسيطرة الكاملة على التصوير الجسماني في أروع مظاهره وأبدع حركاته، وقد تحقق بإخراجها على يد ميكيلانجلو حلم الفنانين والمثل الأعلى لمؤرخي الفن الذين يعتبرون خلقه وإبداعه أسمى مقياس يمكن الوصول إليه؛ ولا سيما أنه قد تحرر في كثير من هذه المناظر من قيود الكنيسة وتعاليمها، طامحاً نحو السمو والكمال الفني المنشود، فخرج عمله شعراً منثوراً من الناحية المعنوية، وتصويراً عظيماً من الناحية الفنية.
والناظر إلى هذه الصور يرى عليها شيئاً من اللون الدخاني قد غلبه على كل ألوانها مرور مئات السنين وكثرة إشعال البخور داخل الكنيسة.
أما آخر أعماله التصويرية فهو مجموعة المصورات المسماة (باولينا) وهي أيضاً بالفاتيكان بروما. وأهمها صورتان عظيمتان كبيرتان، الأولى لظهور المسيح، والثانية لصلب بطرس (1545 - 1550) وهما لا تقلان روعة عما سبقهما، ولو أن طريقة الإخراج كانت على كل شيء يسير من التكلف، أما الثانية فقد ظهرت واضحة جلية في الكيفية التي سار عليها في تصوير الأجسام الهائلة التي بدا عليها العنف والحركة.
ومهما حاولنا الوصف فأن مشاهدة هذه المناظر مما لا بد منه لمن يريد الوقوف على مدى القوى البشرية الموهوبة من الخالق ومدى ما يمكن الوصول إليه من عمل فني رائع، إن قدر لنا أن نفهمه استطعنا أن نستمتع بناحية من أسمى وأروع نواحي الاستمتاع الإنساني.
وله أيضاً في هذه المرحلة صورتان تخطيطيتان لمعشوقته فيتوريا كولونا، ويتجلى فيهما تأثره بالدين، كما نلاحظ من عنايته الفائقة ما كان لهذه المعشوقة من قدر في نفسه وأثر عليها، أما صورته لمريم والمسيح مأخوذا من الصلب، وصورته للمسيح مصلوباً فان أصولهما مجهولة للآن.
وتكاد تكون جامعة أكسفورد هي الفريدة التي حصلت على مجموعة جيدة من تصويره الخطي، ويعقب ذلك جاليري بوناروتي في أوفيسين والمتحف البريطاني ومتحف اللوفر.
تلك صفحة مبسطة لحياة رجل خالد أعتبره الفن إماماً والتاريخ مقياساً، فمحاولة الإحاطة به هنا متعذره؛ لأن إبداعه الفني وتحليل آثاره العظيمة لا يحيط بها إلا ضخم المجلدات.
أحمد موسى