مجلة الرسالة/العدد 211/حديث في سفر

مجلة الرسالة/العدد 211/حديث في سفر

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 07 - 1937



للأستاذ محمود السيد

لقد كان التطلع إلى الأحداث الجارية منذ يوم الهدنة التي أعقبت الحرب الكبرى في البلاد الشرقية المجاورة لنا، ديدني، والسفر إليها غايتي، ومعرفة بواعث النهضات الرائعة التي نهضها أهلها، مقصدي. وكنت أحاول البدء بتركية التي أحسن لغتها وألمُّ بعض الإلمام بأدبها القوي في حيويته الرقيق بجماله، فلم أوفق. على أني قد وفقت في العام الثاني والثلاثين والتسعمائة والآلف، لزيادة بلاد الجارة الصديقة إيران، وكنت يومئذ تعباً جداً من لغوب الحياة الراكدة، سائماً أيامها المتوالية المتكررة عندنا في غير ما انبعاث صحيح، ولا انقلاب من العهد القديم إلى عهد الدنيا الحديث؛ نازعاً إليّ اغتراب أنسى فيه، إلى حين من الزمن، الآم المتطلعين من أبناء الشعب الصابر النبيل، إلى حياة هنيئة حرة في مجد جديد يرام كالمجد القديم؛ وقد أسمع وأرى ما يذكر ويفيد

غادرت بغداد شاخصاً إلى طهران مساء اليوم السابع عشر من شهر ايار، مستقلا قطار خانقين. وفي فجر اليوم التالي بلغت هذه البلدة الصغيرة التي يتكلم قطينها شتى اللغى، لأنها بلدة الحدود ونافذة العراق المطلة على إيران. وقد فكرت فيها والأسف يحز في قلبي كائنة المغول الأولى، إذ جاءوها في محرم الحرام من العام الثالث والأربعين والستمائة للهجرة، نازلين إليها من همذان ففتحوها ثم قربوا من يعقوبا؛ وكانت بغداد سكرى في غفلة عن الزمن القلب الحوّل والأقدار الغادرة. ولم يفعل خليفتها ووزيره وصحبهما سوى التهيؤ - التهيؤ فقط - للدفاع بأجناد من الخلائق فقدت المثل العليا، فخارت عزائمها ووهت بعد مرّة، إذ أوهنها تخنيث الترف، وتبلبل العقائد، وانحطاط الخلق، واضمحلال روح الاستقلال، ثم أرتد المغول عنها متحفزين لهجمة ثانية قاضية. وكذلك فعلوا، فقد عادوا مرة أخرى في العام الخامس والخمسين بعد الستمائة للهجرة يقودهم هلاكو. . .

لم أقم في خانقين التي كانت طريق البلاء الأكبر النازل على العراق بعد ازدهار الحضارة العربية الإسلامية فيه، إلا ساعتين. واكتريت لي سيارة رافقني فيها إلى كرمانشاهان تاجر أيراني ذو سجاحةٍ وظرفٍ. ثم جاء بعده عقيب السري منها مسافر عراقي من مشايخ العلم، تراءت لي في محياه دلائل الحماسة في الدين، وفي سلوكه دلائل الحماسة في القومية. فهو عربي من أهل النجف، يدرك روح العصر بعض الإدراك، على ميل شديد فيه إلى الماضي، وحنين إلى دولة العرب في أيامهم الذهبية التي خلت من قبل. وكان سميراً من الطراز الأول، ورجلا يصلح، لو أدرك روح العصر كل الإدراك، لأن يكون قريباً من الكمال الإنساني المجرد من الصفات التي يخلعها على الإنسان في المجتمع نضال المتعصبين في الملل واعتراك النحل وتصادمها. وهو - كما كان يقول - من العاملين لآخرتهم كأنه موشكٌ أن يموت غدا، ومن العاملين لدنياهم كأنه يريد أن يعيش أبداً. وقد حداني الحديث ذو الشجون إلى أن أساله: من السعيد في الدنيا أيها الشيخ الفقيه؟

فأجابني وهو يعبس بمسبحته السوداء: ومن ذا الذي تعني؟ آلسعيد من أهل السياسة؟ آلسعيد من أهل الحرب والطعان؟ آلسعيد من التجار؟ آلسعيد من المحترفين خدمة الحكومة بأعمال الدولة؟ آلسعيد من ذوي الحرف والصناعات؟. . الخ

فحيرني تَسْآله هذا، وأعجبت بمنطقه، فقلت وقد أدركت بعض قصده: من السعيد من الطبقة التي ينتمي إليها أنت يا شيخي؟

قال: أحسنت. لقد حددت التعريف فأنصفت. . السعيد منا نحن رجال العلم القديم والدين من صح فيه قولُ عمر بن عبد العزيز الوراق لأبي بكر بن حزم: (إن الطالبين الذين أنجحوا والتجار الذين ربحوا هم الذين اشتروا الباقي الذي يدوم بالفاني المذموم، فاغتبطوا ببيعهم، وحمدوا عاقبة أمرهم. . . فالسعيد الموفق من أكل من عاجله قصداً، وقدم ليوم فقره ذخراً، وخرج من الدنيا محموداً. . .)

قلت: يا شيخي هذه فلسفة صوفية قد تنافي - إذا كنت مقتصراً عليها - ما زَعَمتَ لي إذ قلت في بعض حديثك أنك من العاملين للآخرة ومن العاملين للدنيا فأهملت الدنيا هنا؟ أليست هي على رأيك: (الأمر الفاني المذموم).

قال: إذن لابد من إيضاح. . أن أمرها لفان ومذموم لأمثالي إذا ما اقتصرنا في الحياة عليه. وهذا التشديد في ذمها صمام أمننا، لأننا صرنا إلى حال لا تسر المؤمن المحض؛ وإذا كان هذا العصر عصر الاختصاص، فإننا قد بعدنا - إلا الأقل الأندر منا - عن اختصاصنا وهو العمل بروح الدين ورحنا نتطلع إلى مطامع الدنيا، وحطامها، فنسينا النصيحة والدين هي، واقبلنا على كل ما فيه زهو وغرور. . .

قلت: هذا صوت صارخ في البرية، فهل للشيخ أن ينصحني؟

قال: لا تعجل، فإن لكلامي بقية قليلة. وفي القليل بلغة

فأصغيت إليه، فمضى يقول: فأما العمل للدنيا بالنسبة إليّ، فإني احرث الأرض وازرع في بستان ورثته من آبائي أرضاً قاحلة، وأتعفف عما في أيدي الناس، ولا أمد عيني إلى مال؛ وبمنتوج بستاني وعمل يدي احفظ على كرامتي، واشتري ورقي وحبري وكتابي وثوبي وطعام عيالي، وارفع رأسي موفور العزة في عشيرتي وأهل بلدي؛ فهل من تقصير لدي بعد هذا في أمر الدنيا؟

قلت: كلا. لقد أوفيت يا شيخي.

قال: وأنصحك يا صاحبي - ولعلك في غنى عن النصح - أن تكون ذا دين، فأني لأشم في رائحة كتبك هذه التي تحمل بين يديك في رحلتك، التي لا اعرف منها الغاية والمدى، شيئاً أراه فوق التجدد الذي أنشده - مع من ينشده - لكم معشر الشباب فقد يصح لكم التجدد على طريقة معتدلة لا تمس الدين، ولا تذهب بالقومية مذاهب الفناء والدمار؛ ولكن غير هذا لا يصح.

قلت: يا شيخي! الآن كنت تنادي بالاختصاص، فقد فهمت أنك من حماة الدين الذي لن تمسه بسوء أن شاء الله، وأن كنت أقرا كتباً تجادل فيه، فلكي استطلع طلع المجادلين واعرف مقالاتهم.

قال مقاطعاً:

للرد عليهم ولا شك.

فقلت مستمراً في قولي: ولكني أراك في قولتك الأخيرة متطرقاً إلى القومية، فهل لي أن افهم رأيك الواحد في النحلتين.

قال: بلي؛ فأنا قومي بعد كوني مسلماً. وإذا ادعيت مع المدعين أن للعرب الفضل الأكبر في هذه الحضارة العتيدة، فلن أخطئ الهدف من الصواب. وأنت تعلم أن أجدادنا نشروا ثقافتهم في آسية وأشاعوا علومهم في أوربة صعداً من الأندلس وأسسوا في بلادهم المدارس، وسافروا إلى أقاصي البلاد في سبيل العلم، بعد أن نقلوا إلى اللغة العربية كثيراً من الكتب العلمية، ونقحوها وهذبوها أصولاً وفروعاً، وأضافوا إلى بعضها، فاصبح زمام الحركة العلمية العالمية في أيديهم دهرا.

وكان سلطانهم ممتداً من ساحل المحيط الاطلنطيكي إلى تخوم الصين، وكانوا هم أهل الصنائع والفنون

وكانوا أهل الشرائع العادلة، وأولي نظام في سياسة الملك قويم، وآداب خالدة رائعة وفلسفات

قلت: معلوم

قال: اجل، فهذا شيئاً مفصل في كتب التاريخ؛ فما الذي يمنعني الآن من أن افخر بهم، وبماضيهم المجيد الزاهر، لكي ابعث في نفوس بني جلدتي - أبنائهم - الصُبُوَّ إلى السير على آثارهم مع أداء الواجب الحق لما يتطلبه العصر الحديث منها من أعمال مهما كان نوعها، ترفع لامتنا رايتها خفاقة بين رايات الأمم الحية القوية المنيعة الجانب، الرافلة في حلل المدنية، المتمتعة بمتع المجد والاستقلال. وكذلك كان أجدادنا العرب أولئك في أزمانهم السعيدة، وأيامهم الخالدة الذكر، في سفر الحياة. وإنهم كانوا مع شيوع الفلسفة لديهم مسلمين حق إسلام، يشعرون برابطة العروبة غالباً، وإن كانت القومية على الطراز الغربي الجديد غير معروفة لديهم. . . فاكرر لك مرة ثانية: أنا قومي بعد كوني مسلماً؛ وليس عندي - لنفسي - رأي غير هذا. . .

إلى هذه النقطة من الحديث بلغ الشيخ. فانتهينا إلى مرحلة من الطريق، وجبت فيها علينا الراحة. وكنا في ضاحية قرية كائنة على جرف واد يشرف عليه جبل سامق، نبتت في سفوحه الجنات والحدائق الغلب؛ فأردت أن اكتفي من الرجل بما سمعت فالتفت إلى السائق أساله (الشاي) له؛ فقال مبتسماً وهو ينزل من السيارة: لعلك ترى في كلامي اقتضاباً مخلا، فإني وأن كنت شيخاً، لا اعرفني إلا من أقل الطلبة علماً فإن ألفيت في منطقي وفي رأيي ما لا تراه وافياً فسامحني فيه، فهذا حديث عجلان. . .

(نزيل القاهرة)

محمود. أ. السيد