مجلة الرسالة/العدد 217/فردريك نيتشه

مجلة الرسالة/العدد 217/فردريك نيتشه

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 08 - 1937



للأستاذ إبراهيم إبراهيم يوسف

عصره - مولده - تعليمه - شغفه بالأدب والموسيقى - أثر شوبنهاور وفاجنر في تفكيره - أول مؤلفاته - (إنساني وإنساني إلى أبعد حد) (زرادشت) - بقية أعماله - فن نيتشه وفلسفته - وفاته - مدرسته

بدأ التفكير الاجتماعي يظهر جلياً في آداب الأمة الألمانية في خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويرجع سبب ذلك إلى تغلب النزعة الواقعية على غيرها من النزعات. وكان لهذه النزعة الجديدة أثرها الجليل، فقد بدأت تسير في سبيلها هادئة حتى تغلغلت في نفوس المتأدبين. وكان على رأس القائمين بهذه الحركة الجديدة فريدريك نيتشه الذي أخذ يميل شيئاً فشيئاً إلى الاعتقاد بأن جماعات الناس تهوى إلى أسفل. وقد أرجع أسباب ذلك إلى أن الأدباء لا يعنون إلا بالفرد في منتجاتهم الفنية، في حين أن حاجة الفرد ومتاعبه ومشاكله ليست بالذات حاجة العصر ومتاعبه ومشاكله، وإن حالة الأديب قد تناقض حالة الجماعات البشرية. وعندئذ مال معه بعض صحبه إلى تفكيره هذا، وبدأت الناس تحس بأن ما كتبه الأدباء عن ماجريات الأحوال وشئون الحياة، أو ما كتبوه عن المسائل الاجتماعية والشئون السياسية التي سار ويسير إليها العالم، ليست إلا بعض آراء من شتاتها. ومن ثم أدرك عامة الناس بأن لهم وجوداً، وأنه يجدر بهم أن يعبروا عن آرائهم بصراحة. فأنجبت هذه الحركة أدباء فنانين من طراز جديد، منهم المصلح الاجتماعي، ومنهم الثوري الأشتراكي، ومنهم طبقات الفوضويين. ولنحاول هنا أن نلم بتاريخ حياة فردريك نيتشه لنتعرف مكانه من بين هؤلاء.

ولد فريدريك نيتشه في اليوم الخامس عشر من شهر أكتوبر سنة 1844م، في قرية (ريكن) الواقعة بالقرب من (لتزن) وقد يبدو لمن يحدق في صورة نيتشه أو يسمع باسمه أنه يمت إلى أصل بولوني، ولكن الباحثين قد فرغوا من إثبات أصله الألماني. ويرجع التشكك في أسمه إلى أن الألمان الذين كانوا يستوطنون المناطق التي يتغلب فيها السلافيون لا يرون غضاضة في صبغ نهاية أسمائهم بالصبغة السلافية. وكذلك فعلت عائلة نيتشه. أما تكوين رأسه واصفرار لون شعره وزرقة عينيه، فدليل كاف على أنه ينتمي إلى (الشماليين) أي سكان شمال أوربا.

وكان لفريدريك أب قس ورث عنه نزعته للموسيقى وذكاءه المتقد وإحساسه المرهف وأعصابه الملتهبة. أما القوة فقد ورثها عن أمه التي أخذ عنها قوة الإرادة، والقدرة على العمل، والقوة الحيوية، وقوة مناعة جسمه ضد هجمات أعصابه الثائرة. أما الوعظ والدعاية لما يؤمن به فقد ورثه عن أبويه كليهما، ولذا كان حب الوعظ والإرشاد قوياً عنده إلى حد أنه كان يهيم بوقع الكلمة التي ينطق بها. وكان من اجتماع نزعته الإصلاحية إلى قوة إرادته وصدق حيويته لهيب من النار يسرى في كلماته فتهتدي به الناس وتطمئن إلى حرارته في جو إنعدمت فيه حرارة الإيمان.

وليس غريباً أن يكون هذا شأن نيتشه، فقد كان في صغره شعلة ذكاء تتقد منذ سني دراسته الأولى. فقد كتب مذكراته عام 1858، ولما يبلغ الرابعة عشرة من عمره، بأسلوب واضح متزن يشف عن ذكاء مبكر، إذ قال: (أصبحت في الطور الشعري الثالث.) وكتب أيضاً: (يجب أن أتمرن على القريض أكثر من ذي قبل، وإن أمكن فسأنظم في كل ليلة قصيدة.) ومع كل ذلك لم تخلُ قصائده الأولى هذه من أبيات موسيقية أخاذة تحوي معاني مبتكرة. وفي سن الخامسة عشرة نظم قصيدته المعروفة باسم (بغير وطن) ذات النزعة الرومانتيكية. فالتف حوله الأدباء الناشئون وألف منهم جمعية أدبية أسماها (جرمانيا). وكان يأمل أن يتتلمذ في المستقبل على جين باول بعد أن مال إلى فنه كل الميل. ولكن غير واحد من أصدقائه نصحوه بقراءة (هيلدرين) (ونوفاليس) فقرأهما كما قرأ (شكسبير) و (ترسترام شاندي) وهو في سن الخامسة عشرة. وكتب إذ ذاك في مذكراته: (إنني أقيد كل فكرة طريفة؛ وقد اتضح لي أنني إلى ما قبل الآن كنت غير ملم بشيء من العلوم.)

ولم يكن شغف نيتشه بالأدب أكثر من شغفه بالموسيقى، وكان أحب الموسيقيين إليه (روبرت شومان) الرومانتيكي النزعة، ولكنه مال بعد ذلك إلى شوبان إذ قال عن موسيقاه إنها تمثل جمال ونبل الفكر كما تمثل المرح وعظمة الروح الإنسانية والشعور الفياض سواء بسواء) وفضلا عن ذلك فقد وضع نيتشه أيام صباه قطعاً موسيقية قال عنها بعد أن تقدم في السن: إن (نغماتها) تكاد تكون مطابقة لموضوعات مختلفة من بارسيفال التي ألفها فاجنر بعد عهد الصبا لنيتشه.

وعندما التحق نيتشه بجامعة (بون) عام 1864 كان يرغب في دراسة اللاهوت، ولكنه نزع عام 1865 إلى دراسة الآداب الكلاسيكية إلى جانب درسته الأصيلة. غير أنه هجر فيما بعد دراسة علوم الدين وتعلق بالبحث في العلوم، ثم رحل إلى (ليبزج) طلباً لحرية الفكر وحرية الرأي، ولكنه سرعان ما أدرك (أنه لا يوجد مكان تتوافر فيه حرية الفكر) وكان شوبنهاور قد ساعده على تحرره من عقيدته الدينية، بعد أن أتصل به في (ليبزج) التي قال فيها نيتشه: (هنا وجدت مرآة رأيت فيها العالم والحياة كما رأيت نفسي منعكسة بها في أجلي وضوح؛ وهنا حدقت في عين شمس الفن الذي لا نهاية له؛ وهنا رأيت المرض والبرء، رأيت المنفي والملجأ، رأيت النار والجنة) وفي هذا ما يدل بمفرده على مقدار تأثر نيتشه بشوبنهاور، كما تأثر به بعد ذلك في أبحاثه الأدبية التي كتبها أثناء دراسته في الجامعة، والتي أدهشت أساتذته، إذ عجبوا لأسلوبه العلمي الرصين. ولكن كل أبحاثه الأدبية لم تكن لتغريه إذ كانت تنقصها الفكرة الإنسانية. ودفعه هذا الاتجاه الجديد في تفكيره إلى تغيير منهج دراسته الذي كان قد صمم عليه. فقد كتب إلى صديق له عام 1869 يقول: (إننا دون شك أتباع القدر. فمنذ أسبوع أردت أن أكتب إليك بأني اعتزمت دراسة الكيمياء وترك دراسة الآداب لمن هم أليق بها مني، وهؤلاء هم الشيوخ. والآن يغريني شيطان القدر بالأستاذية في الآداب).

ولم يكن تعرّف (نيتشه) إلى (شوبنهاور) أهم ما وقع للأول في حياته إذ أن تعرفه إلى فاجنر قبل نزوحه إلى (باذل) كان له أثر عميق في نفسه. ولم يكن حب (نيتشه) لموسيقى (فاجنر) وليد يومه، بل لقد أعتبر (نيتشه) صديقه (فاجنر) الممثل لكل الفنون الحديثة التي أرتشفها وهضمها. وبلغت تلك الصداقة أبعد مدى لها سنة 1888 عندما قضى كلاهما الصيف في قرية بالقرب من (لوزرن) وحرص نيتشه على ألا تنتزع الأيام منه هذه الصداقة، وود لو أن تبقى صلته بصديقه فاجنر إلى الأبد، وقال عنها: (لقد كانت أيام تبادلنا فيها الثقة، أيام مرح وسرور. والحق أنها لحظات لها أعمق أثر في نفسي). قال ذلك نيتشه عن صديقه الذي أخلص له فقال فيه: (إنني لا أعرف ماذا كان حظ الآخرين من مصادقتهم لفاجنر، إلا أني أعرف أن سماءنا لم تغشها سحابة قط) وما ذلك إلا لاعتقاد نيتشه بأن صديقه عبقري كريم الخلق، تنطبق عبقريته على وصف شوبنهار للعبقريات

وفي ذلك العهد ألف نيتشه أول كتبه القيمة الذي أسماه (انحدار التراجيدية من روح الموسيقى وأتمه عام 1871 وقد ضمنه أهم ما وقع له في حياته الخاصة وصداقته مع فاجنر، كما ضمنه مراميه الأولى والأخيرة في الحياة، ومساس الحاجة إلى الموسيقى. ولقد كتب كتابه هذا بأسلوب رائع تجلى فيه هيامه بالفنون، وأثبت قدرته على البحث كعلامة. ولم يحجم نيتشه عن أن يقول رأيه في الفنون الإغريقية وفي الإغريق. ويعد كتابه هذا من أروع الكتب الكلاسيكية التي تناولت الفن من عديد نواحيه التاريخية والفلسفية والعقلية. فلقد حاول نيتشه (أن يرى العلوم والمعارف بعين الفنان، وأن يرى الفن عن طريق الحياة) وهاجم في كتاب آخر له أسماه (نظريات لا تتفق وروح العصر) ووضعه فيما بين سنة 1873 و 1875 - عديد الاتجاهات في الثقافة الألمانية. فقد قال بأن ألمانيا تعيش في حالة همجية من الثقافة. وأفصح في هذا الكتاب عن طبيعة الحقائق الواقعية وما يقع تحت الحس في كل آن. وطالب بأن يكون الفن ممثلاً للعصر والحياة. وفي هذا الكتاب ينزع إلى المثل العليا، كما يميل في كتابته إلى التهكم المشبع بروح الفكاهة، وفي كتابه الذي أسماه (بعض فوائد ومضار التاريخ في الحياة) قال بأن كثرة المعلومات ليست وسيلة الثقافة، ولا هي دليل عليها إذ المسألة متعلقة بالسمو في الحياة. أما التخمة الناجمة عن التهام التاريخ وحشره في الرأس حشراً فإنها تجعل الحياة مريرة كما تجعلها خطرة. فالتاريخ يضعف الشخصية، ولا يمكن لشخصية أن تتحمله إلا إذا كانت غاية في القوة. أما ضعاف الشخصية فالتاريخ يؤيدهم، إذ يصبحون دائرة معارف متنقلة، ولا يكون لهم رأي، وإن جرأوا على ذلك فهو رأي محايد، ليس لشخصيتهم فيه أثر. ومن رأيه (أن وظيفة الإنسانية أن تعمل دون انقطاع لتخرج إلى العالم شخصيات عظيمة). والذي جر نيتشه إلى هذا التفكير هو شدة تأثره (بشوبنهاور) و (فاجنر)، غير أن أثرهما فيه لم يدم إلا بعض الزمن. فقد أدرك عندما شاهد حفلات (بايرويت) - الحفلات الموسيقية والتمثيلية السنوية الهامة - أدرك أنه خدع في رأيه، فقال بأن فاجنر يتخذ وسائل خشنة جامحة لإظهار تلك الفخامة العاصفة. وذلك الاضطراب العظيم المخيف وإن كان مزركشاً ومحلى بزخارف بهيجة أبغض الأشياء إلى نيتشه.

وفي سنة 1876 أخذ نيتشه في دراسة الفيسيولوجيا والطب والعلوم الطبيعية. ومن ثم أخذ يدرس من جديد جميع المسائل التي عالجها من قبل. وكتب في فترة العطلة التي قضاها في جنوب ألمانيا كتاباً أسماه (الخلاص) وهو أول جزء من كتاب جمع فيه مختارات أقواله وأختار له اسماً آخر هو: (إنساني وإنساني إلى أبعد حد) , - وكان ذلك عام 1878. ولما أن أهدي كتابه هذا إلى صديقه فاجنر ليطلعه على آرائه الجديدة بعث إليه فاجنر بقطعته الموسيقية (بارسيفال) ونجم عن ذلك فتور بين الصديقين، إذ تمسك كل منهما برأيه. ولعل كتاب (إنساني، وإنساني إلى أبعد حد) هو كما أسماه صاحبه (كتاب لأحرار الفكر) وفي هذا الكتاب من التضارب في القول ما جعل الناس تتحدث عنه. فبينما تراه في هذا الكتاب ملماً بكل شيء سليم المنطق، تراه غاضباً في بعض مواضع الكتاب مهتاج الأعصاب مريضاً. والواقع أنه كان يقاسي الآلام، ولكنه كان يحاول الكلام كمن لم يمس بسوء. وكان يريد الاحتفاظ بهدوئه ليهزأ بالعالم، كما قال بعد ذلك بعشر سنين. والحق أن نيتشه كان ثائراً على نفسه

(يتبع)

إبراهيم إبراهيم يوسف