مجلة الرسالة/العدد 217/من تاريخ الأدب المصري

مجلة الرسالة/العدد 217/من تاريخ الأدب المصري

مجلة الرسالة - العدد 217
من تاريخ الأدب المصري
ملاحظات: بتاريخ: 30 - 08 - 1937



شعر القاضي الفاضل

للأديب محمد سعيد السحراوي

وقفت على نسخة مخطوطة من ديوان القاضي الفاضل في دار

الكتب المصرية فأحببت أن أعرض طرفا منه خدمة للأدب

(م. س)

سيرة القاضي الفاضل

ولد بمدينة عسقلان عام 529 للهجرة؛ فهو ليس مصري الأصل وإن كان مصري الدار. تولى أبوه القضاء في نيسان وهو طفل، وثقفه تثقيفاً دينياً بحتاً حتى كبر، فقدم إلى القاهرة في عهد الحافظ لدين الله، وخدم فيها الموفق بن يوسف ابن جلال مدير ديوان الإنشاء إذ ذاك فتعلم فنون صناعته، وحذا حذوه في كتابته، ثم انتقل إلى الإسكندرية يخدم بعض حكامها حتى عرف بينهم بالذكاء، وبنبوغه في صناعة الإنشاء، فلما سمع به العاضد استدعاه إلى القاهرة وعينه كاتباً، وفي عام 566 للهجرة توفي الموفق بن يوسف بن جلال فجعل العاضد القاضي الفاضل مكانه - وظل يكرمه كل وال ويرقيه، حتى ولي الملك صلاح الدين فجعله كاتبه وقاضيه، ووزيره ومشيره؛ وظلت هذه حاله إلى أن توفي في 17 ربيع الآخر عام 596 للهجرة أي في الليلة التي هزم فيها الأفضل ودخل العادل القاهرة

نسبه وصفاته

وهو الوزير مجير الدين أبو علي عبد الرحيم بن القاضي الإشراف بهاء المجد علي بن القاضي السعيد أبي محمد ويعرف بالبيساني. وقد ذكر عنه المؤرخون أنه كان ديناً كثير الصدقة والعبادة، وله وقوف كثيرة على الصدقة وفك الأسارى؛ وكان يكثر الحج والمجاورة مع اشتغاله بخدمة السلطان. وكان ضعيف البنية، رقيق الصورة، له حدبة يغطيها الطيلسان. وقالوا عنه أيضاً إنه كان فيه سوء خلق يكمد به نفسه ولا يضر أحداً؛ وكان يجل أصحاب الأدب ويكرمهم ويعاونهم، ويؤثر أرباب البيوت والغرباء ولا ينتقم من أعدائه، فإما أن يحسن إليهم أو يقتصر على الأعراض عنهم

والقاضي الفاضل كاتب معروف وأديب له طابع خاص، وأسلوبه لا يكاد يجهله مطلع على الآداب العربية، فهو كما يقال عنه - رب العلم والبيان، واللسن واللسان، والقريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، والفضل الذي ما سمع به الأوائل لمن عاش في زمانه، وما تعلق أحد بغباره أو جرى في مضماره وهو كذلك شاعر جيد الشعر كما سيجيء

شعره

شعر القاضي الفاضل صورة من نفسه، يدل على رقة حسه؛ أكثره في الغزل، لأنه أسلس ضروب الشعر قيادة للمحسنات اللفظية التي أغرم بها القاضي الفاضل غراماً شديداً، وكلف بها كلفاً ظاهراً، في غير تصنع واضح، أو تطرف يخرج بها عن المعنى الذي يقصده. وقد اكتسب القاضي الفاضل من البهاء زهير وابن سناء الملك وابن قلاقس وغيرهم من الشعراء الذين عاشوا معه في مصر، رقتهم وموسيقاهم الشعرية العذبة، كما اكتسب مما كان يأتيه من أشعار الأندلسيين الذين كانوا في إبان نهضتهم الأدبية، الأخيلة الرائعة والطرائق المستحدثة، وإن كان قد حافظ على نظام سابقيه، فظل ينظم فيما تعود سماعه وما كثر النظم فيه فلم ينظر إلى الطبيعة الساحرة نظرة الأندلسيين إليها، ولم يجب الآفاق البعيدة التي جابوا فيها؛ وربما كان ذلك نتيجة لنشأته الدينية واحتراماً لجلال المركز الذي وصل إليه

الفخر

القصيدة الأولى في ديوانه يعرفها بعض الأدباء، وهي في الفخر، وفيها يصف بلاغته متلاعباً فيها بالمعاني وهي خير مثال على شعره ومنها:

قضى نحبه الصوم بعد المطال ... وأُطلق من قيد فتر الهلال

وروَّض كاتب جنبي اليمين ... وأتعب كاتب جنبي الشمال

فدع ضيقة مثل شد الإسار ... إلى فرجة مثل حل العقال

وقم هاتها مثل ذوب النضار ... وموج البحار وطعم الزلال

جزى الله عني عروس الدوالي ... ولا أخطأتها كؤوس الغزالي

بما أطعمت من لذيذ الثمار ... وما ألبست من نسيج الطلالِ وما سلست من مذاب السرور ... وما خفضت من جماع التغالي

فكم زخرفت جنة للعذاب ... وكم رفعت قبساً للضلال

أغالط بالكأس حكم الزمان ... فيوم عليّ ويوم بمالي

فجاءت بما في عيون النساء ... ومرت بما في رءوس الرجال

وأسلو الغزال بها إذ أرى ... بكاساتها دم ذاك الغزال

إذا مزج الماء منها الكئوس ... مزجاً أسنتها بالنصال

وسكران كدر من سكره ... زمان على كل عقل ممال

فسكر الشباب وسكر الشراب ... وسكر الصدود وسكر الوصال

فلا تذكرن عهود الوصال ... فعهدي بها والليالي ليالي

ولم أيك عهداً رجاء الرجوع ... ولكن أجدده بالصقال

بعثن الليالي بيأس جديد ... عليّ قديماً فجاست خلالي

فما جاء عن منطقي ذم جان ... ولا جاء عن جوهري ذم حالي

ولم استغث تحت ظل الخطو ... ب جرجرة البُزل تحت الرحال

خشنت لحال كشوك القتاد ... ولنت لأخرى كشوك السيال

ولست لساناً لذل السؤال ... وما زلت صدراً لعز السؤال

حديث يناجي فروع السحاب ... وأصل يناجي أصول الجبال

ولي قلم منه عين الكلا ... م تجري فتنظر عين الكمال

يراع تظل رياض الطرو ... س منها موشحة بالصلال

كمثل الوقيعة فيها الظلال ... يشيع الوقيعة لي في الزلال

وكتْب يفيض بأرجائها ... يمين الجدا أو لسان الجدال

تقدمها الشكل من فوقها ... كمثل السهام أمام النصال

وهي طويلة جمعت عدة أنواع من الشعر فأوعت.

الغزل

وشعر القاضي الفاضل الغزلي رقيق جزل، فهو يقول معاتباً.

وإني لمطوى الضلوع على جوى ... بأيسر منه ينشر الوابل السجم وأملت نفع الكتم فيه مغالطاً ... غليلي ولكن قل ما نفع الكتم

وقد كان لي عزم على الصبر صابراً ... فقد خانه بعد النوى ما نوى العزمُ

وأسعفها باللؤلؤ النثر جفنه ... ويسعفها من بعدها اللؤلؤ النظمُ

لنفسي أريد الوصل لا بعد موتها ... فلا خبر من بعد الممات ولا علمُ

لحي الله هذا العيش إن كان ما أرى ... فآنفه ظل وسالفه حلمُ

ويزعم صبري أنه لي عدة ... وأكبر ظني أن سيكذبني الزعمُ

فلا بعد إطلال الحمي القطر وحده ... ولا دارها دمعي ولا غلتي الظلمُ

تحرج عن وصلي مخافة إثمها ... فلا تحرجى إن الصدود هو الإثم

وأكثر أيامي تعقبها الأسى ... عليها ولكن قد تقلبها الذم

رضيت بما يقضي على قسط جوره ... فَلِمْ يغضب القاضي وقد رضي الخصمُ

واستمع إليه يقول متغزلاً، وفي هذه الأبيات يظهر مدى أثر الشعر الأندلسي فيه:

سنّ النسيم تعانق الأغصان ... أفلا يسن تعانق الخلانِ؟!

قد كان بينهم حديث ساكت ... ناجى خواطرهم بغير لسان

فهمت قلوبهم فلما لم يجب ... عنها اللسان أجابت العينانِ

والقلب يدرك وهو ليس بسامع ... لفظ الدموع بألسن الأجفانِ

يا راجلاً من عينه قد أصبحت ... في الناس مقفرة بلا إنسانِ

فإذا جرت منها الدموع فإنما ... تجرى لسقيا ذكرك العطشان

ومنها:

بلد بما يسقى غليلك ماؤه ... ما دمت تنزل منه في نيران

وعجبت من متوسل مستوصل ... بجهنم منه إلى بستان

وهو كذلك يقول:

يا هلالاً إذا أنار ضللنا ... وغُصَينا إذا تثنَّى ثنانا

بينما جلنار وجهك يبدو ... إذ رأينا في صدرك الرمانا

ومن غزله أيضاً:

تلذ بجنتها أعين ... وفيها الذي تجتنى الأنفسُ لها نكهة إذ تحيى بها ... يغض لها عينه النرجسُ

وجاءت بعود لها خاطب ... أرم لهَيْبتهِ المجلسُ

لها معجز إن تأملته ... فما سر إعجازه ملبسُ

أري العود من قبلها أخرساً ... وفي يدها ينطق الأخرسُ

كأن المدامة من لحظها ... ونار الغرام بها تقبسُ

وله:

ومالي في صيد العقارب حيلة ... سوى عقرب دبت على ورق الورد

وإني شجاع لا علي كل حية ... سوى حية صيغت من الشَّعر في الخد!

وفي الأبيات الآتية تبدو حيرته ويتجسم قلقه، فله من قصيدة:

يمزقني ذا الحب كل ممزق ... ويصبح خلقي فيه وهو جديدُ

مقيم وقلبي في ركابك سائر ... قريب - ولكن ما أريد، بعيدُ

وله من قصيدة أخرى:

ليال تقضت ليس يوم براجع ... إليها ولكن الليالي سترجعُ

فيا ليت أسباب الليالي تقطعت ... كأسبابنا فيها إذا تتقطعُ

وإن فرطت منا وأعني اتباعها ... فيا ليت أن النفس لا تتتبعُ

وإن كان قلبي بين جنبي حاضراً ... فليت هموم القلب لا تتبوعُ

وبيني وبين النائبات وقائع ... يهونها الموت الذي أتوقعُ

فكل زمان ليس لي فيه صاحب ... وكل حبيب ماله فيَّ موضعُ!

وقال في حبيب مريض، وفيها تصوير لنفسه بديع:

وما عدته بل عدت سقمي بقربه ... ومما به ما بي عليه قريب

أغيب برغمي ثم أحضر غائباً ... وأنظر آثار الضنا فأغيب!

وقال مداعباً:

بين الضلوع جهنم من حبهم ... فوددتهم لا يسمعون حسيسها

فمع الظلام الدمع كان طليقها ... ومع الصباح الهم كان حبيسها

وقال: وما قضى الدهر لي من قربه وطراً ... إلا اقتضى الوطر المقضي أوطارا

يا من شقيت به دنيا وآخرة ... ترى عرفت سوى الدارين لي دارا؟

أشقى البرية منظوراً ومنتظراً ... هذا الضعيف الذي يهواك جبارا!

ومن شعره الموسيقى العذب قوله:

وقف الطيف بجفني كالطفَل ... سائلاً أين الكرى أين رحل

إنما كان الكرى يسكنها ... فالكرى من وصلهم ثم انتقل

إنه يا طيف طوفان طغى ... وابن نوح ليس ينجيه الجبل

إن قلبي من قلوب لم تبن ... سرها لو لم تبينه المقل

حالت الأشياء عن حالاتها ... فتولى الماء إيقاد الغلل

هذه أمثلة من شعره الغزلي، وما هي إلا قطرة من بحره الفياض؛ ومنها نستطيع أن نحكم على نفسيته؛ وهي لا تتعدى ما قال المؤرخون فيه.

(يتبع)

محمد سعيد السحراوي