مجلة الرسالة/العدد 217/للأدب والتاريخ

مجلة الرسالة/العدد 217/للأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 08 - 1937



مصطفى صداق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 6 -

(لا يؤاخذني القارئ بما أخذت به نفسي من الترتيب في هذه المقالات؛ فقد يبدو لكثير من القراء أنني أسير على غير منهاج واضح حين أجمع بين الحديث عن الرافعي الشاعر، والرافعي الأديب، والرافعي في أهله، أو حين أثب من موضوع إلى موضوع لا يمت إلى سابقه ولا يصله به سبب.

(وعذري الذي أقدمه إلى القراء من هذا الخلط هو أنني أسير في تاريخ الرافعي على الترتيب الزمني لا ألقي بالا إلى غيره؛ فأيما حادثة اعترضت حديثاً وجرت في زمانه تناولتها، حتى لا يفوتني شيء مما أريد إثباته، فأسير مع الحادثة من حيث تبدأ في زمانها وانتهى بها حيث تنتهي من تاريخه، ثم أعود إلى ما كنت فيه على حساب السنين؛ فهذا من هذا؛ وللباحث من بعد أن يجمع عناصر موضوعه على ما يشتهي ويتناولها من حيث يريد

شعراء العصر في سنة 1905

قدّمت الحديث في الجزء الرابع من هذه المقالات عن شيوخ الرافعي في الشعر الذين أخذ أو أقتفي آثارهم، أو جرى معهم على سنن. وأثبتُّ ما كان بينه وبين حافظ من المنافسة، وما كان يتمتع به حافظ يومئذ من الشهرة والجاه والحظوة عند الشعب، تلك الشهرة التي ألهبت غيرة الرافعي وحفزته إلى الكفاح وحمّسته إلى استكمال أسباب الغلبة بعقد الأواصر وإنشاء المودّات والدعاية لنفسه. ثم بينتُ ما كان بين الرافعي والكاظمي من صلة الحب والتقدير؛ وتساءلت في آخرة القول: هل من صلة بين الرافعي وبين غير هؤلاء الثلاثة من شعراء الجيل؟ هل كان لغير البارودي وحافظ والكاظمي من شعراء العصر أثر في شعر الرفعي؟ وما مبلغ هذا الأثر؟ وما نتيجته؟

على أن الباحث المحقق لا يقنعه هذا التساؤل، وليس يكفيه من وسائل البحث أن يعلم من شعراء العصر هؤلاء الثلاثة فحسب؛ ولقد نشأ الرافعي الشاعر في أول هذا القرن، وأوّلُه حافل بثُلّة من الشعراء لم يجمتع مثلهم في زمان في بلد؛ فما مبلغ تأثر الرافعي بكل أولئك الشعراء المعاصرين؟

هنا أدع للرافعي نفسه أن يتحدث، وما حديثه هذا إلا طرف من الدعاية التي كان يقوم بها لنفسه في أول عهده بالشعر ليبلغ المنزل الذي يطمح إليه. وإنه ليكشف عن شيء من خلق الرافعي وكبريائه واعتداده بنفسه، ويدل على قوة الرافعي وعنفوانه وشدته في النقد، إذ كان هذا الحديث أول ما كتب الرافعي في النقد.

إن أدباء العربية عامة لا يعرفون من الخصومات الأدبية أشهر شهرةً من الخصومة بين الرافعي وأدباء عصره؛ فالخصومة بين الرافعي وطه، وبين الرافعي والعقاد، وبين الرافعي وعبد الله عفيفي، وبينه وبين غير هؤلاء - هي خصومة مشهورة مذكورة في موضعها من تاريخ الأدب العربي في هذا الجيل، مشهورة مذكورة في موضعها من تاريخ النقد في العربية.

وإن قراء العربية عامة ليعرفون الرافعي الناقد معرفة بصيرة، ويعرفون شدته وعنفوانه في النقد، شدةً حبّبتْه إلى الكثير، وألّبتْ عليه الكثير. على أن من يريد أن يعرف أول شأن الرافعي في النقد فليقرأ مقال الرافعي عن شعراء العصر في سنة 1905

نشر الرافعي مقاله ذاك في عدد يناير سنة 1905 من مجلة الثريا بتوقيع (*) وأحسبه أخفى أسمه وراء هذا الرمز حذر التهمة، وليبلغ به مبلغه في الدعاية لنفسه، فقد جعل نفسه في الشعراء رابع الطبقة الأولى من طبقات ثلاث تنتظم كل من يعرف الرافعي من شعراء عصره. جعل الطبقة الأولى منهم على الترتيب:

الكاظمي، والبارودي، وحافظ، والرافعي. . . .

وفي الطبقة الثانية على الترتيب:

صبري، وشوقي، ومطران، وداود عمون، والبكري، ونقولا رزق الله، وأمين الحداد، ومحمود واصف، وشكيب أرسلان، ومحمد هلال إبراهيم، ثم. . . . حفني ناصف!

وفي الطبقة الثالثة:

الكاشف، والمنفلوطي، ومحرم، وإمام العبد، والعزبي، ونسيم. ثم ألحق بهؤلاء أثنين يعرفهما من شعراء العراق، هما: السيد إبراهيم، ومحمد النجفي

وقد أفتتح الرافعي مقاله بما يأتي:

(قرأت في بعض أعداد (الثريا) كلمة عن (الأدب قديماً وحديثاً) فقلت: كلمة مألوفة. ولم ألبث أن رأيت جملة أخرى لأديب غيور على الشعراء، كان رأس الشعر بين أولها وآخرها كأنما خدش بين حجرين؛ فقلت: إني أنظم الشعر فأسرّ، وأقرأ عنه فأسرّ، فمالي لا أنفثها والقوم قد أصبحوا يتنافسون في أسماء الشعراء كما يتنافسون في ألقاب الأمراء؛ وقد استويا في الزور، فلا أكثر أولئك شاعر، ولا أكثر هؤلاء أمير

(ثم رأيت بعد أن عزم الله لي كتابة هذا المقال أن أتركه بغير توقيع، وإن كنت أعلم أن أكثر من يقرءونه كذلك سيخرجون من خاتمته كما لو كانوا أميين لم يقرءوا فاتحته، فإن الحكمة كلها والمعرفة بجميع طبقاتها أصبحت في أحرف الأسماء. فإن قيل: كتاب لفلان. . . قلنا: أين يباع، وإن كان من سقط المتاع. على أن اسمي قد لا يكون في غير بطاقتي وكتبي إلى أصحابي القليلين، وفي سجلّ بعض الجرائد والمجلات، فليظنني القارئ ما ضرب على رأسه الظن

(وسأذكر في هذه الأسطر كل ما عرفته أو أتصل بي أسمه من الشعراء، وأقطع عليه رأيي، فإما وسعه فكمل به، وإما أظهره كما هو في نفسه، لا كما هو عند نسفه؛ ولذلك فقد ضممتهم إلى ثلاث طبقات، وجاريت في تسمية بعضهم بالشعراء عادتنا المألوفة)

ثم كتب رأيه بعد ذلك في كل شاعر ممن ذكرت مقتبساً من شعره مستشهداً به على ترتيبه في موضعه من طبقته

وكان ما قاله عن صديقه ومزاحمه حافظ:

(. . . وأكثر شعره في هذه الأيام (سنة 1905) أضعف من قبل. . . . والذين لم تستقم ألسنتهم ولم تزل أفكارهم على سقم يقولون: إن شعر حافظ اليوم خير منه في ديوانه الأول؛ وذلك لأنهم لا يدركون موقع الخيال الشريف، ولا يهتزون للمعنى البكر إلا في اللفظ الثيب، وهؤلاء يفضلون (شوقي) عليه، وهيهات بعد أن استنوق الجمل. . . .!)

وكتب عن نفسه:

(لو كان هذا الشاعر (يعني نفسه) كما أسمع عنه، فإني أكون قد ظلمته إذ لم أقدمه عن هذا الموضع (الرابع من الطبقة الأولى)؛ فقد أخبرت أنه لم يتم الرابعة والعشرين من عمره، ولذلك فإني لا أكتب عنه إلا ما أعرف من شعره، سواء كان فتى أوكهلاً؛ وهو قد طبع من ديوانه الجزء الأول من سنة مضت، وذكر في مقدمة شرحه أنه نظمه في عامين، وأنه لم يقل الشعر إلا منذ ثلاث سنوات من طبع ذلك الجزء؛ ولم ألبث أن رأيت منذ أشهر في بعض أعداد مجلة (الجامعة) تقريظاً مسهباً جداً للجزء الثاني من ديوان هذا الشاعر؛ فأكبرت ذلك، ولا شك أنه ينظم اليوم في الجزء الثالث قياساً على ما تقدم. . .

(ومما أمتاز به هذا الشاعر ولعه الشديد بالغزل، وبلوغه فيه أسمى ما يبلغه النظم؛ وله مزية أخرى، وهي غوصه على المعاني في الأغراض التي لم تطرق، وكثيرون يعدونه بذلك شاعر مصر، وديوانه معروف، وشعره مشهور. . . . الخ)

وقال عن شوقي:

(سيأخذ بعض القراء العجبُ إذا رأى شوقي بك ثاني الطبقة الثانية وهو هو (شوقي بك شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية)، ولكنا نعجب أكثر منه إذ رأينا الشوقيات قد انقلبت إلى شوكيات؛ فأي ذووق سليم يطمئن لهذه المعاني المكررة وتلك الألفاظ النافرة من مثل: (قضي أرْيحيُّ القوم) وغيرها. ولا أدري لهذا الانقلاب سبباً إلا إذا صح ما يقال من أن (صبري وسلمان) كانا يهذبان شعر الرجل من قبل، وهو قول لا أجزم به ولا أرفضه. . .

(. . . . . وإنما أشتهر قديما يوم كان الكاظمي في العراق، والبارودي في سيلان، وصبري من مهذبي شعره على ما يقال، وحافظ في السودان، والرافعي لم يقل الشعر بعد - على ما قيل لي! - وأثبت له الشهرة إضافته إلى الحضرة الخديوية على نحو ما يذكر النحاة في باب (الجر) بالمجاورة. . . .)

وختم المقال بقوله:

(. . . وسنرى ما يكون من امتعاض الشعراء بعد هذا المقال، ولكني أطلب إليهم أن يخفضوا عن أنفسهم؛ فلا أنا من معية الأمير، ولا من حاشية السفير، وليس ما كتبت إلا رأيي، فليبق كلٌّ في رأيه وعند نفسه أشعر الشعراء)

وذيّلتْه مجلة (الثريا) بما يأتي:

(ألقى إلينا مكتب بريد الزيتون يوماً ملفاً ضخماً وارداً من مصر، وداخله كتاب موجز ومعه المقالة المتقدمة للنشر. أما الكتاب فهذه صورته بعد الديباجة:

(. . . دونك مقالةً بكرا لم يُنسج على منوالها بعدُ في العربية، حَرِيّة بأن تصدّر بها مجلتك الغراء؛ ولا يروعنّك شدة لهجتها فكلها حقائق ثابتة، وإن آلمت البعض فان الحق أكبر من الجميع؛ وإني لبالمرصاد لكل من ينبري للرد عليها، وأنا كفء للجميع؛ وما أخال أحداً يستطيع أن ينقض حرفاً مما كتبته، وإن هم لزموا الصمت فحسبك من سكوتهم إذ ذاك إقراراً بأني أنزلت كل شاعر في المنزلة التي يستحقها.

(ولا يعنيك معرفة أسمى، فأنا أبن جَلا وطَلاّع الثنايا؛ فانظر إلى ما قيل وليس لمن قال، وبعد هذا فإن أعجبتك مقالتي فانشرها وإلا فاضرب بها عرض الحائط.

(وإني أقترح عليك أن تنشر جميع ما يردك من الردود في المعني، سواء جاهر أصحابها بأسمائهم أو تستروا، فإن الموضوع طليّ شهيّ، وفي إطلاقك الحرية للكتّاب ما ينشط بهم لحرية الجولان في هذا المضمار)

قالت الثريا: (وقد تصفحنا المقالة فراعنا شدة لهجة الكاتب وبتنا نقدم رجلاً ونؤخر أخرى في نشرها، إلى أن تغلب علينا الميل لنشرها، إن لم يكن لشيء فلكثرة ما حوته من رائق الأشعار لفحول الشعراء، وهم نخبة شعراء مصر في هذا العصر؛ فأقدمنا على نشرها كما وردتنا بالحرف الواحد، غير متحملين تبعتها؛ وللكتاب الأدباء الحرية في الرد عليها، وأبواب الثريا ترحب بكل ما يردها من هذا القبيل، سواء من المشتركين أو غيرهم

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يُهدّم، ومن لا يَظلم الناسَ يُظلَم

أحسب أن لهذا المقال أهمية كبيرة لمن يريد أن يدرس الرافعي دراسة أوسعَ قائمةً على قواعد من العلم والتحليل النفسي؛ وإنما يستأهل هذا الاهتمام من ثلاث نواح:

أولاً: إنه أول ما أنشأ الرافعي في النقد؛ فهو كالمقدمة لهذه المعارك الطاحنة التي قامت بين الرفعي ولفيف من أدباء عصره بعد ذلك بعشرين سنة؛ فلا بد لمن يريد أن يتحدث عن الرافعي في النقد أن يبدأ من هنا

ثانياً: إنه ثَبْتٌ جامع لأسماء الشعراء الذين نشأوا مع الرافعي في جيل واحد، وقرأ لهم ونظر في شعرهم نظر الناقد أو نظر المعجب المحتذى؛ فلا بد لمن يريد أن يتحدث عن الرافعي في الشعر، وعن الشعراء الذين تأثر بهم أو تأثروا به، أن يعرف هؤلاء الشعراء.

ثالثاً: إن في هذا المقال لوناً من ألوان الدعاية التي كان يقوم بها الرافعي لنفسه ليبلغ إلى الهدف الذي كان يرمي إليه بين أدباء العصر، فلا بد لمن يريد أن يدرس وسائل الرافعي إلى الشهرة وذيوع الصيت أن يقرأ هذا المقال.

وبعد فإن فيه شيئاً من أخلاق الرافعي المزهوّ بنفسه، المعتدّ بعلمه، القوّي بإيمانه، المتقحِّم على مواطن الهلاك؛ الرافعي القزم الضعيف الذي وقف على السفح تعتمد خاصرته على راحته وهو ينظر إلى فوق ليقول للشعراء العمالقة على القمة: انزلوا إليّ أو أصعد إليكم فأرميكم إلى بطن الوادي أشلاء ممزقة ليس فيها عضو إلى عضو ولا يسمع لكم صريخ. . . .!

الرافعي. . .؟ لقد كان الرافعي طويل اللسان من أول يوم. . .!؟

(سيدي بشر)

محمد سعيد العريان