مجلة الرسالة/العدد 218/خذ الحق واترك الباطل

مجلة الرسالة/العدد 218/خذ الحق واترك الباطل

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 09 - 1937



اليابان والإسلام

المساعي لتحقيق إنشاء الدولة الآسيوية العظمى

مترجمة عن جريدة الوقت الهولندية

لقد عرفت اليابان بشدة تمسكها بلغتها ونزعتها القوية للبقاء على ما قد وجدوا عليه آباءهم خصوصاً فيما يتعلق بدينهم ومعتقداتهم؛ ولكن الذي يبعث على الدهشة والاستغراب هو موقفهم الآن تجاه الدين الإسلامي وانتشاره الرائع في بلادهم. ففي مدة قصيرة جداً صار لهذا الدين اتباع ومعتنقون كثيرون؛ والأغرب من ذلك أن هؤلاء كان جلهم من أهل الوجاهة والسلطة. إن عددهم الآن في الحقيقة لا يستحق أن يقارن بعدد معتنقي الأديان الأخرى، إذ أن البوذويين يبلغون ما يقرب من الأربعين مليوناً، والشنتويين يناهز عددهم الستة عشر مليوناً، ولكن إذا راعينا حداثة دخول هذا الدين بينهم وجدنا أن عددهم لا يستهان به. ولكي نعرف تماماً أهمية هذا الدين عندهم فلنتصفح أوجه الحوادث الأخيرة التي طرأت على تلك الحركة، وبعد ذلك يكون سهلاً علينا أن نستنتج هل كان دخولهم ورغبتهم فيه بدافع الميل الديني الخالص أم كانت هناك أسباب أخرى ألجأتهم إلى ذلك.

إلى منتصف سنة 1934 لم يكن في اليابان أية دعاية إسلامية تستحق الذكر، ولم يكن هنالك أقل رجاء بأن سيكون لذلك الدين ما لنهضته الموجودة الآن. نعم قد سمع من بعض الأجانب تصريحات بوجوب إيجاد تلك الدعاية. فمثلاً من قبل 18 أو 20 سنة مضت تكونت بسعي بعض الترك والتتار والهنود والسوريين وكذلك بعض اليابانيين جمعية جعلت مهمتها نشر الدين الإسلامي في جميع أنحاء آسيا الشرقية، ثم إنه يوجد في الأماكن المجاورة للموانئ مسلمون أجانب جاءوا إليها بقصد التجارة لسبب انتشار تجارة اليابان. وهؤلاء قد بدءوا بالدعوة سرّاً بين أفراد اليابانيين، فأنسلخ كثيرون منهم عن ديانتهم القديمة. وهكذا بقيت هذه الدعاية في طي الخفاء إلى انتهاء سنة 1934. وفي 11 أكتوبر سنة 1934 أفتتح أول مسجد في كوبا، وكان عدد الحاضرين يوم الافتتاح لا يتجاوز ثلاثين رجلاً منهم روسيون وهنود. ولم تتحقق إقامة هذا المسجد إلا بعد أن تقدمت طلبات حارة من جانب المسلمين إلى الحكومة، لأنها في بادئ أمرها رفضت رفضاً باتاً أن يبنى مسجد إسلامي على أرض يابانية بوذوية. وكان ذلك يوماً مشهوداً ألقى فيه رئيس جمعية نشر الديانة الإسلامية السيد ميان عبد العزيز خطبة حماسية. ومن هنا بدأت الدعوة جهراً وظهرت تلك الحركة في أبهى مظاهرها. أما السبب في بناء المسجد في كوبا دون العاصمة فذلك راجع إلى أن المسلمين هنالك كانوا أكثر عدداً ونشاطاً. ومعظم هؤلاء من التتار التركمان الذين فارقوا الأراضي الروسية في إبان مطاردة الروسيين

بني هذا المسجد الفخم بأموال الأغنياء المتاجرين وشيدت بجانبه مدرسة إسلامية. ثم ظهر من جانب الحكومة أسفها على طول تمنعها من الأذن لهم بذلك. فأرادت أن تبرر موقفها بالعمل مع المسلمين على تعميم هذا الدين في أقرب وقت ممكن. ففي يوم افتتاح ذلك المسجد نشرت إحدى الجرائد اليومية الكبرى (أوسكامينخي) مقالة مسهبة عن انتشار الإسلام في جميع أنحاء المعمورة، وأهابت بالأمة اليابانية أن تضم نفسها إلى هذه الرابطة المتينة. ثم بين الكاتب أن هناك شبهاً في العادات بين المسلمين واليابانيين، من ذلك خلعهم لنعالهم عند دخول الأماكن المقدسة، وغسل القديمن، ثم غسل اليدين قبل كل أكلة. وقد تحاشى الكاتب مقارنة المسائل الجوهرية في هذين الدينين كالتوحيد وتعدد الزوجات وما أشبه ذلك

ثم تأسست في أول سنة 1935 جمعية إسلامية أخرى في عاصمة اليابان. وقد أسست بفضل الترتاري السيد عبد الحي. نالت هذه الجمعية الناشئة مساعدات جمة من عظماء البلاد وأصحاب السلطة فيها، ولم يمض عليها حين من الزمن حتى انضوى الألوف من اليابانيين إلى لوائها، معظمهم من أرباب الوظائف العالية وكبار الرأسماليين وأصحاب الأمر في الجيش. وقد جعلت غايتها درس المدنية الإسلامية ومدنية البلاد الإسلامية العصرية، ثم توثيق عرى المودة بين بلادهم وبين تلك البلاد.

وفي إحدى الحفلات التي أقاموها وحضر فيها أعيان البلاد ووزراؤها ألقى أحد أمراء التتار كلمة بليغة في فضل الإسلام وخاض في موضوع تفسير (ترجمة) القرآن إلى اللغة اليابانية وذكر لهم عظم انتشار الإسلام في الشرق أجمعه (وقد تم الآن هذا التفسير وطبع منه آلاف النسخ التي وزعت على ألوف اليابانيين) ثم ألقى فيلسوفهم أوهارا كلمة بليغة عن هذا الدين الجديد (عندهم) وأشار بصفة خاصة إلى أن الإسلام مع ما فيه من اليسر والبساطة محتو على كثير من الحكم الحقة، وأختتم كلامه بأن قال: (إنه يرى الدين الإسلامي أوفق الديانات وأليقها بالأمة اليابانية)

الحكومة اليابانية الآن تعتبر الدين الإسلامي ديناً معترفاً به اعترافا رسمياً. فقد وعدت تلاميذ المدارس الإسلامية بإمكان التحاقهم بالمعاهد والكليات العلمية التابعة للحكومة، وأذنت للمسلمين بشراء الأراضي لإقامة المعاهد الإسلامية. ولم يقف إحسانها إلى المسلمين عند هذا الحد، بل فرضت لهم مساعدة مالية، وجلبت لهم أساتذة وعلماء من الأزهر الشريف بمصر لتلقين من يحبون من اليابانيين دراسة القرآن؛ ودعت إلى بلادها الدعاة المسلمين للتعاون على إكثار عدد المسلمين الذين قد بلغوا عشرين ألفاً. كل هذا وقع عند انتهاء سنة 1935. وفي شهر إبريل من هذه السنة نفسها شيد بمعاونة الحكومة مسجد آخر في توكيو. وهنا ألقى السيد ميان عبد العزيز خطبة بليغة سياسية جاء فيها قوله: (إن اليابان قد وفقت الآن لسلوك الطريق المؤدي إلى إنشاء الدولة الأسيوية العظمى، وسيكون الإسلام في طليعة هذه الحركة).

لم تكتف الحكومة بكل هذا التنشيط لهذه الحركة الجدية، بل قررت في سنة 1936 عقد مؤتمر إسلامي في توكيو، فكم بهذا قد أسدت إلى الإسلام من خدمات! وقد رفع الشاعر الكبير السيد عبد الرحيم بك قليلات تقريراً ضافياً عما رآه وشاهده أثناء مكثه في تلك البلاد من ازدياد نمو تلك الحركة. من كل هذا نرى دون مبالغة أن البلاد اليابانية حقاً هي الأرض الموعودة للدعاة المسلمين، ونرى أنهم أتوا في الوقت المناسب للقيام بمهامهم. والظاهر أن الحكومة اليابانية تحبذ كل شيء ينتسب إلى الإسلام. وحسبك ما ذكرناه دليلاً

ثم لنر الآن ما هي البواعث على إنماء الحركة الإسلامية في بلاد مثل اليابان؟. أما من ناحية المسلمين فالأمر بين، وذلك سعيهم لتعميم الإسلام في جميع البلاد الآسيوية. وقد ظهرت بوادر هذه الحركة من بعد الحرب العظمى؛ وظاهر هذه الحركة عند العامة مسألة دينية مخضة، ولكن الزعماء يقصدون من ذلك مقصداً آخر سياسياً. فأن الرئيس بقوله: (إن اليابان الآن في طريقها نحو تحقيق إنشاء دولة آسيوية عظمى الخ) قد نحا منحى سياسياً محضاً.

أما الأمة اليابانية فأنها تعلل الباعث لها على ذلك بأنه هو حبها للتسامح مع الأديان، كما صرح ساستها به مراراً ونطقت بذلك قوانينها. فالحكومة تتصنع التظاهر بذلك والساسة البارزون ورجال الحربية وغيرهم يظهرون ميلهم إليه لبساطة تقاليد هذا الدين ويسره متأثرين بقول فيلسوفهم أوهارا عندما أكد لهم ذلك في خطابه:

ولماذا لم تجب الحكومة مطالب المسلمين في بادئ الأمر؟ قد تساءلت عن ذلك الجرائد اليابانية نفسها فأنكرت أولاً أن تحول الأمة نحو الإسلام بسبب إحساس عام طرأ على أفرادها، وكان الذي حملها على ذلك القول هو توجه تلك الأمة بأجمعها نحو ذلك الدين عند افتتاح مسجد كوبا ودرس القيصر نفسه للقرآن. ثم عللته بعد ذلك بأنه إنما هو نتيجة تأثير الدعاية التي قام بها المسلمون القاطنون فيها، ولكن للتأثير عليهم بذلك يلزم مضي وقت طويل، إذ أن اعتناق دين جديد عند اليابانيين أصعب منه عند الأوربيين، فدخولهم فيه لم يكن بسبب شعور قومي عام ولم يكن كذلك بدافع الاعتقاد الديني الخالص.

إذا فكر المرء قليلاً ونظر إلى مطامع اليابان في بلاد الصين وما حواليها من البلدان الآسيوية التي يقطنها 260 مليوناً مسلماً - ويوجد في غرب بلاد الصين 30 مليوناً مسلماً - ثم إلى سياسة المسلمين الذين يدمجون كلمة تعميم الإسلام في كلمة توحيد الآسيويين، وقابل بين هذا وبين محاباة اليابان وتحبيذها لتعاليم محمد ومحاباة زعمائها، وعلاوة على ذلك أن أغلبية المحبذين لها هم من السياسيين البارزين ورجال الحربية والرأسماليين الكبار - لاستنتج معنا أن تلك المحاباة لم يقصد منها إلا تحقيق مطامعهم السياسية وأمانيهم في الإمبراطورية الآسيوية العظمى. ولم يكن اختيارهم للدين الإسلامي لمزية فيه لا توجد في غيره من الأديان، بل إن كل دين عندهم من هذه الوجهة في درجة واحدة، إلا أن الإسلام تميز عن غيره بكثرة المعتنقين؛ واليابان تؤمل بهذا وجود جبهة قوية لها أمام الأشتراكية، ورابطة متينة لبناء الوحدة المزمع إنشاؤها.

أما كون الحكومة في السنتين الأوليين لم توفق إلى تلك النظرية - أو أنها لم ترد الاعتراف بها - فذاك بحث آخر؛ ويحتمل أن يكون لزعماء المسلمين يد في حملها على الاعتراف بنظرية نشر الدين الإسلامي لترويج تجارتها في تركيا وفي أواسط آسيا. وقد وفقت إلى ذلك وقدرت على مزاحمة الصادرات الأوربية ونالت إقبالاً كبيراً من البلاد الإسلامية كبلاد العرب والأفغان وإيران. وما دامت اليابان ترى حاجتها في الإسلام للوصول إلى تلك الأغراض فضررها سيكون بليغاً على الديانة النصرانية.

إن الإسلام يعقد في مساعدات اليابان له أماني ذهبية، واليابان بدورها تنتهز هذه الفرصة لإشباع مطامعها السياسية والتجارية. وقريباً يظهر هل تلك الأمة حقيقة راغبة في اعتناق ذلك الدين، أو يظهر ما أخفته وراء تلك المجاملات.

(المرشد - سورابايا)