مجلة الرسالة/العدد 219/المحاكمات التاريخية الكبرى
مجلة الرسالة/العدد 219/المحاكمات التاريخية الكبرى
4 - الحركة النهلستية ومصرع القيصر اسكندر الثاني
صفحة رائعة من صحف الثورة على الطغيان
للأستاذ محمد عبد الله عنان
خاتمة البحث
وكانت مرافعة جليابوف عن نفسه خاتمة المناظر العاصفة في تلك القضية الشهيرة. وكان هذا الزعيم الثوري المضطرم حسبما يصفه مكاتب التيمس، يحدج قضاته بنظرات ملتهبة كأنها نظرات وحش يُطَارد، وكانت ألفاظه وعباراته الرنانة تحدث أثرها في المحكمة والنظارة؛ وكلما ضجت الجلسة ألقى على الجمهور نظرته الملتهبة حتى يعود إلى سكينته. ولما انتهى من مرافعته، أذنت المحكمة للمتهمين تباعاً بأن يقول كل منهم كلماته الأخيرة. فكرر كبالتشش أقواله عن نيات حزبه السلمية، وأنهم لم يسفكوا الدم رغبة في السفك، ونوه بأنه قد اخترع جهازاً للطيران يرجو أن ينسب له بعد موته إذا أخرج إلى حيز التطبيق. ونفت صوفيا عن نفسها ما اتهمها به النائب من القسوة وفساد الخلق واحتقار الرأي العام. وحاول ريساكوف أن يكرر نظرياته السياسية؛ وأصر ميخايلوف على نفي اشتراكه في الجريمة
وبذا اختتمت المرافعات في هذه القضية الشهيرة ولم تستغرق في الواقع سوى ثلاثة أيام. وفي صباح يوم 29 مارس أصدرت المحكمة حكمها وهو يقضي بإعدام المتهمين الستة شنقاً. فاستقبل المتهمون مصيرهم في سكينة وثبات. وهل كانوا يتوقعون مصيراً آخر؟ إن الحكم بالإعدام كان قاعدة مقررة في جميع الجرائم السياسية التي جرت في الفترة الأخيرة، ولم يلفت من هذا المصير المروع سوى قلائل من الثوريين الذين اشتروا حياتهم بالاندماج في سلك البوليس السياسي؛ ولم يطعن أحد من الستة المحكوم عليهم في الحكم بطريق النقض، ولكن ريساكوف وميخايلوف رفعا طلباً بالعفو لم تر المحكمة أن تراجع القيصر في شأنه؛ وحاول ريساكوف ليلة التنفيذ أن يلجأ إلى الخطوة الأخيرة فعرض أن يندمج في البوليس السياسي وأن يفتدي حياته بالعمل على مقاومة الإرهاب والمرهبين، وأفض بأسماء وبيانات جديدة عن الثوريين ونظم الحركة الثورية، فلم يقبل طلبه وخاب مسعاه
وقدمت جسيا هلفمان إلى المحكمة بلاغاً قالت فيه أنها حامل لأربعة أشهر، وطلبت إرجاء التنفيذ حتى تضع حملها؛ فانتدبت لفحصها لجنة طبية أيدت دعواها، فقررت المحكمة أن ترجئ التنفيذ حتى تضع حملها ويمضي على وضعها أربعون يوماً
وكان التنفيذ في اليوم الثالث من أبريل سنة 1881 ففي نحو الساعة الثامنة من صباح ذلك اليوم حمل المتهمون الخمسة على عربتين عاليتين إلى ميدان سيمونفسكي حيث نصبت المشنقة وكانت والدة صوفيا قد سعت إلى رؤيتها فلم توفق إلى ذلك إلا عند خروج الموكب من السجن. وكان المتهمون قد ألبسوا أردية سوداء، وأوثق كل منهم في مكانه في العربة، وظهره إلى الخيل وقد وضعت على صدره لوحة كتب عليها بحروف بيضاء ظاهرة: (قاتل الملك) وكان يتبع المحكوم عليهم عربة بها خمسة قسس؛ وكان الموكب رهيباً يحف به حرس قوي من الفرسان والمشاة، وقد اصطف الجند على طول الطريق من السجن حتى ميدان التنفيذ. وكان الميدان غاصاً بعشرات الألوف من النظارة إذ كان تنفيذ الإعدام يجري في ذلك العصر بطريقة علنية؛ وكان الشعب يهرع دائماً إلى رؤية هذه المناظر المؤسية. وفي نحو الساعة التاسعة وصل موكب المحكوم عليهم إلى ساحة التنفيذ فأنزلوا من العربات وتلا عليهم سكرتير مجلس الشيوخ الحكم؛ ثم قرعت الطبول إذاناً بالإجراءات الأخيرة، فكشف النظارة رؤوسهم وتقدم القسس من المحكوم عليهم وفي يدهم الصلبان فقبلوها. وأبدى المحكوم عليهم في تلك اللحظات الرهيبة ثباتاً يثير الإعجاب والخشوع إلا ريساكوف فإنه كان مضطرباً ممتقع اللون؛ وبعد إجراء المراسيم الدينية قبل كل صاحبه وودعه الوداع الأخير
وقبل الساعة العاشرة بقليل تقدم الجلاد فرولوف بثوبه الأحمر إلى فرائسه يحيط به معاونوه وألبس المحكوم عليهم الأكفان والقلنسوات. وبدئ التنفيذ بإعدام كبالتشش ثم تلاه ميخايلوف فصوفيا فجليابوف فريساكوف؛ وحدث حين إعدام ميخايلوف أن قطع حبله وسقط على النطع ثلاث مرات قبل أن يزهق، فثار الجمهور لهذا المنظر المروع، وعلت غمغمة السخط والروع. ولكن الجلاد أتم مهمته بهدوء ولم يحدث حادث. وكان هذا آخر إعدام علني في روسيا القيصرية. وكان له في الرأي العام أيما أثر. ووجه كاتب روسيا الأكبر يومئذ الكونت ليون تولستوي إلى القيصر اسكندر الثالث خطاب احتجاج على هذه الفظائع المثيرة
وأما جسيا هلفمان فكان لها قصة أليمة أخرى، ذلك أن حزب إرادة الشعب لجأ إلى الرأي العام الخارجي ليحاول إنقاذ هذه الفتاة المنكودة من براثن الموت، وأذاع شاعر فرنسا وكاتبها الأكبر يومئذ فكتور هوجو في الصحف الفرنسية خطاباً مفتوحاً إلى القيصر يناشده فيه الرأفة بآلام الفتاة؛ ورددت صحافات القارة هذا النداء. وفي الثالث من يوليه سنة 1881 عدلت عقوبة الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. وفي شهر سبتمبر نقلت جسيا إلى مستشفى السجن ووضعت طفلة لم يعرف مصيرها. وتوفيت الأم بعد ذلك بأشهر قلائل في فبراير سنة 1882 من جراح أصابتها وقت الوضع وقيل إنها أحدثت فيها عمداً
هذه صفحة مؤسية مروعة معاً من صحف الثورة على الطغيان، وقد كانت النهلستية بلا ريب من أعظم الحركات التحريرية العنيفة التي عرفها التاريخ، وكانت من أحفلها بمواطن النضال الدموية وكانت القيصرية من جانبها من أشد النظم الطاغية إمعاناً في القسوة والعنف وإخماد النزعات الحرة. وكان هذا النضال الذي يخضب أرض روسيا بدماء الفريقين، ويدفع بآلاف من الشباب المستنير إلى ظلمات السجن والنفي مسألة حياة أو موت للقيصرية ولروسيا الجديدة معاً؛ وقد سار هذا النضال حيناً بعد مصرع اسكندر الثاني ومصرع قاتليه. ولكن القيصرية ضاعفت أهباتها ووسائلها لقمع الإرهاب. ومع أن المرهبين استطاعوا أن ينزلوا بالقيصرية وأعوانها عدة ضربات دموية أخرى وأن يدبروا اعتداءين جديدين على حياة القيصر، فأن القيصرية استطاعت بوسائلها الذريعة أن تمزق شمل الحركة الثورية؛ وركدت ريح النهلستية في أواخر القرن الماضي بعد أن هلكت زهرة دعاتها وأنصارها؛ ثم استعادت شيئاً من نشاطها في أوائل هذا القرن، ولكن القيصرية استطاعت من جانبها أن تجنب العاصفة بتحقيق بعض الإصلاحات الدستورية المنشودة، وإصدار الدستور الروسي الجديد سنة 1906. على أن المثل الثورية التي بعثتها النهلستية في روسيا الجديدة لم تخمد جذوتها بل لبثت على اضطرامها حتى مهدت الحرب الكبرى أخيراً لانفجارها الرائع في سنة 1917. وعندئذ لم تقف العاصفة عند سحق القيصرية وكل نظمها القديمة، بل دكت نظم المجتمع الروسي القديم كله وقامت البلشفية على أنقاضه تطمح إلى إضرام نار الثورة العالمية وتحقيق مثل ماركس ولنين
كانت النهلستية حركة فريدة بين الحركات التحريرية. وكانت وسائلها العنيفة من طراز لم يعهد التاريخ كثيراً من أمثاله؛ ذلك أنها جعلت من الثورية ديناً تدين به الشبيبة المستنيرة، ينبث إلى أعمق عقولها وأرواحها، وجعلت من الحرية هيكلاً مقدساً تتفانى هذه الشبيبة في الحج إليه، وتسقط في سبيله صرعى لا تلوى على شيء إلا أن تموت في سبيل العقيدة الجديدة؛ وقد كانت ضحايا النهلستية عظيمة فادحة. ومن الصعب أن نقدم عن هذه الضحايا بياناً شافياً لأن الأساليب الهمجية والرسائل السرية التي كانت تتبعها القيصرية في مقاومة الحركة كانت تحصد المئات والألوف في خفاء وصمت؛ يهلكون ألوفا في أعماق السجون أو في معسكرات الاعتقال النائية في أعماق سيبريا، هذا عدا من حصدتهم المشانق وهم وحدهم ألوف؛ وليس من المبالغة أن نقول إن المناظر الدموية التي يقدمها إلينا كفاح النهلستية، تفوق في روعتها مناظر عصر الإرهاب أبان الثورة الفرنسية؛ ذلك أن الثورة الفرنسية كانت بالرغم من اضطرامها وعنفها قصيرة الأجل محدودة المدى، وكانت آثارها المعنوية تفوق أحداثها المادية بكثير. أما الثورة النهلستية فقد استطاعت نحو أربعين عاماً؛ تضطرم آنا وتخبو آنا، ولكنها لبثت دائماً تلتهم فرائسها من الجانبين. هذا إلى أن نزعة الكفاح في الحركة الثورية الروسية كانت أعرق أصولاً وأبعد مدى. وبينما نرى الثورة الفرنسية تستسلم بعد أعوام قلائل إلى الحركة العسكرية الرجعية وتغدو أداة ذلولاً في يد جندي طموح هو نابليون، إذا بالحركة الثورية الروسية تمضي في طريقها برغم كل مقاومة حتى تفوز بتحقيق كل مثلها وغاياتها. بيد أنه كان ظفرا سلبياً فقط، وكان ظفراً قصير المدى؛ فقد مهدت الحركة النهلستية كما قدمنا إلى الانقلاب العظيم الذي درج زعماؤه وقادته في غمارها وتغذت عقولهم وأرواحهم بتعاليمها ومثلها، وكان ظفر الثورة البلشفية كاملاً شاملاً، ولكن شتان بين تلك المثل الحرة الإصلاحية التي تنشدها النهلستية، وبين ذلك الهدم الشامل الذي انحدرت إليه الثورة البلشفية. أجل سقطت القيصرية صرعى المثل الجديدة وأعلنت سيادة الشعب أو الكتلة العامة في عبارات ضخمة، ونودي بالحريات والحقوق العامة، واستطاعت الثورة الجديدة أن تحتفظ بانتصارها الظافر مدى حين كان شعارها فيه مكافحة الخطر الخارجي؛ ولكنها ما كادت تثبت أقدامها حتى استحالت بسرعة إلى نوع جديد من الطغيان لا يقل في أساليبه ووسائله فظاعة عن أساليب القيصرية ووسائلها؛ ولم تلبث أن غدت سيادة الشعب اسماً بلا مسمى؛ واستطاعت الزعامة الجديدة أن تفرض سلطانها المطلق على ذلك العالم الروسي القديم الذي كان يطمح إلى عالم جديد من النور والحريات المثلى؛ وانتهت الثورة التحريرية بعد كفاح طويل إلى تلك النتيجة المحزنة التي أشرنا إليها في فاتحة هذا البحث. ذلك أن النظم التي تسود روسيا الآن بأسم البلشفية ليست في الواقع إلا صورة من أشنع صور الطغيان الدموي التي عرفها التاريخ
(تم البحث - النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان