مجلة الرسالة/العدد 219/معاملة الناس

مجلة الرسالة/العدد 219/معاملة الناس

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 09 - 1937


للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

لو أني صدقت ما حدثني به شيوخ الجيل الماضي الذين هم في منزلة آبائنا وأعمامنا، وما رووه لي في وصف حياتهم المنقرضة ومعاملاتهم وعلاقاتهم، لكنت حرياً أن أعتقد أن ذاك الجيل الذي انقضى كان أفضل وكان حظه من الرجولة أعظم، ونصيبه من البساطة التي يستقيم بها النظر أوفر وأجزل؛ فقد كان الفقر لا يعيب أحداً في ذلك الزمان. ولا يغري الصديق بالفرار من صديقه أو اجتنابه؛ وكان حسن الأدب والتواضع ولين الجانب لا يعرض المرء للاستخفاف أو قلة المبالاة به؛ وكان للعلم شأنه وكرامته، وكانت المعاملات تقوم على الصدق والثقة ولا تحتاج إلى الصكوك وما إليها؛ وكان الصغير يوقر الكبير، ولا يغمط الكبير فضل الصغير أو يبخسه حقه، إلى آخر ذلك مما لا حاجة إلى التقصي فيه. وقد أدركت بعض ذلك ففي وسعي أن أطمئن إلى الصدق في سائره، فمن ذلك أنه بعد وفاة أبي بشهور ثقيلة، دق علينا الباب رجل من العلماء كان زميلاً لأبي، وقال إن (الأفندي) - يعني والدي فقد اتخذ زي الأفندية في آخر زمانه - ترك معه قبيل وفاته مبلغاً من المال، وإنه لا علم لأحد بذلك، وإنه يخشى أن يزوره الأجل، ودفع إلينا المال ومضى مرتاح الضمير. ولا أدري ما شأن غيري، ولكن الذي أدريه أنه لو ائتمنني أحد على مال له لكان حقيقاً أن ييأس من رده!

وقد وجدت بالتجربة أنه لا كرامة لمن لا مال له، وأن صاحب المال، وإن كان قد جمعه بشر الوسائل وأرذلها وأسفلها، قد يغتابه الناس ويبسطون فيه ألسنتهم ولكنهم لا يلقونه بغير الحفاوة ولا يبدون له غير التعظيم والتوقير، وأن من شاء أن يضمن إكبار الناس له فليشعرهم بالاستغناء عنهم، وأن الناس ينزلونك حيث أنزلت نفسك، ولا يخطر لهم أن يرفعوك عنه، فإذا كنت معهم عف اللسان مكفوف السلاطة مأمون الغضب، لم يهابوك ولم يبالوك، ولم يتقوا أن يسيئوا إليك وإن كانوا يرون منك أنك تكره أن تسيء إلى نملة؛ وقد يظهرون لك الاحترام ولكنهم يعدون ذلك فضلاً منهم وإيثاراً للصنع الجميل، لا حقاً لك عليهم. أما إذا كانوا يعرفون أن أدبَك لا يمنعك أن تهيج بهم وأن لينك قد ينقلب صلابة وعنفاً، ورقة ملمسك خليقة أن تحور شوكاً حاداً كشوك القنفد، إذا خطر لهم أن يجاوزو معك الحدود التي ترسمها لهم في علاقتك بهم، وتفرضها عليهم، فأيقن أنهم لا يكونون معك في حال من الأحوال إلا على ما تحب وترضى، وقد يسخطون عليك في سريرتهم ويكتمونك ما ينطوون عليه لك من المقت والحقد، ولكن هذا لا قيمة له، فأن الخوف من عصفك بهم يظل يقيك أذاهم. وماذا يضيرك أن يجدوا ويضطغنوا إذا كانوا لا يجرءون أن يكشفوا لك عن هذه الصفحة المستورة؟؟ وإنك لتعلم أنهم ينافقون ويبدون غير ما يبطنون، ولكن الحيلة في ذلك قليلة، والشأن شأنهم لا شأنك، وعلى أنه ما داعي الغيظ والنقمة؟ وما موجب الكراهية والمقت؟ وما الحاجة إلى النفاق؟ إن كل ما تبغيه منهم أن يجنبوا الإساءة إليك كما تجنبها إليهم، فإذا بدءوك بذلك فانهم الظالمون، والشاعر القديم يقول:

لا تطمعوا أن تهينونا، ونكرمَكم ... وأن نكفّ الأذى عنكم، وتؤذونا!

فإذا كانوا يأبون إلا أن ينتحلوا الحق في الإساءة بلا مسوغ، فذنبهم على جنبهم. وتالله ما أسرع ما يرتد الناس إلى الواجب وحسن الأدب إذا رأوا منك تمرداً على سوء الخلق وقلة الحياء!! كان كبير من الكبراء يدخل حيث أكون، فيمر بي وكأني قطعة أثاث، وكنت ألقاه كثيراً، فحملت هذا في أول الأمر على الذهول أو نحوه، ولكنه تكرر وباخ وتبينت فيه سخافة الكبرياء والنفخة الكذابة، فقلت: أكيل له بصاعه، وصرت أتعمد أن أدخل عليه وهو مع الناس فأحييهم وأهمله، وأتخطاه بيدي وعيني كأنه ليس هناك، ولم يكن له غير هذه النفخة، فلما خرقت القربة المنفوخة، لم يبق شيء، فلم يطق صبراً، وأقبل يوماً فهممت أن أشيح بوجهي عنه، فإذا هو يطوقني بذراعيه!!

وليست هذه المبادئ التي يُلقنها التلاميذ في المدارس، ولكنها هي المبادئ التي ألقنها ابني، وأحرص على أن يفهمها ويعمل بها، وقليل من رياضة النفس عليها تكفيه، لا مثلي، فقد نشأت على غير ذلك واعتدت خلافه، فخيب الناس والدنيا أملي في كل ناحية، وأحدثوا لي رجات نفسية أتلفت أعصابي. وكنت أعتقد مثلاً أن في وسعي أن أسير في الحياة من غير أن أسيء إلى أحد أو أخشى أن يسيء إلي أحدٌ، وأن عليَّ أن أعطي الناس حقوقهم في صراحة وبأخلاص، وأن لي أن أثق أن سيعطيني الناس حقي ولا يقصرون في أدائه إلي كاملاً؛ فإذا الأمر على خلاف ذلك ونقيضه. أنا أكف أذاي عن الناس، ولكنهم هم لا يعنون بمثل ذلك، حتى لصرت مضطراً أن أحتال لاتقاء أذى الناس، وأنا أؤدي للغير حقه غير منقوص، ولا أبخل عليه بالإسراف في الأداء، ولكنه هو لا يخطر له أن لي حقاً يؤدى، أو كرامة تحفظ، لا لسبب إلا أني لا أتقحم على الناس ولا أركبهم بالغطرسة، ولا ألح عليهم ببيان ما يجب لي، ومن هنا تغير رأيي في كل ما نشأت عليه، وأدركت أنه لا يوافق هذا الزمان؛ وتغير سلوكي مع الناس، واختلفت سيرتي وتربيتي لأبنائي، وما زلت أجنب أن أبدأ بعدوان، فما لهذا معنى، ولكني لا أتردد في دفع الأذى، ولهذا مزيته، وتلك أن ترغم الناس على أن يكونوا خيّرين!

إبراهيم عبد القادر المازني