مجلة الرسالة/العدد 219/فقيد الأدب السوداني

مجلة الرسالة/العدد 219/فقيد الأدب السوداني

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 09 - 1937



التيجاني يوسف بشير

للأديب المبارك إبراهيم

في أواخر شهر يوليو المنصرم، منيت النهضة الأدبية الحديثة في السودان بخسارة جد فادحة قل أن يأتي الزمان لها بعوض، وذلك بوفاة شاعر هو من أفحل شعراء النهضة، هذا إن لم أقل إنه أرهفهم إحساساً أجمعين!

يعد الفقيد من أصغر شعرائنا المجيدين سناً، إذ كان مولده في مدينة أم درمان عام 1912

وقد تلقى علومه بمعهد أم درمان العلمي؛ وبعد تخرجه ساهم في تحرير جريدة (ملتقى النهرين)، قبل اندماجها في جريدة (حضارة السودان). ثم حرر في مجلة (أم درمان)، ومجلة (الفجر)

وكان الشاعر الشاب يؤمل أن تواتيه الظروف، فينزح إلى القطر المصري الشقيق، للانتظام في أحد معاهده العالية، غير أن جده العاثر لم يمكنه من إدراك هذه البغية

ومن رقيق شعره في الحنين إلى أرض الكنانة: -

عادني من حديثك اليوم يا مصر ... رَئِيٌّ وطوفت بي ذكرى

وهفا باسمك الفؤاد ولجت ... بسمات على المباسم سكرى

إنما مصر والشقيق الأخ السو ... دان كانا لخافق النيل صدرا!

نضر الله وجهها فهي ما تز ... داد إلا بعداً عليّ وعسرا!

والتيجاني لم يكن كأولئك النظامين الذين إذا ما شاءوا أن يؤلفوا القوافي أتوا بالتعابير الجاهزة الجافة، فقوموا قصيدهم منها كما يقوم البناءون البيت أو البناء بقوالب من الطوب. . . كلا لم يكن شاعرنا كأولئك، وإنما كان رحمه الله أشبه ما يكون بالمثال الماهر الذي يعمد إلى المواد الأولية البكر فينحت منها في غير محاكاة، تماثيل هي آية من آيات الفن الخالد على الزمن

وإليك أغرودة من أغاريد الشاعر المرقصة، وقد أسماها (النائم) قال:

أيها النائم في مه ... د أغانيّ ولحني!

هكذا يدفق يا نا ... عس في حسنك ح أنت يا واهب ألحا ... ني ويا ملهم فني

إنما أصنع من كرْم ... ك صهبائي ودني!

يا أمانيّ التي أعب ... دها في كل لون

وأغانيّ التي ألهمه ... املهم جن!

والتي ذوبها المط ... رب في الصوت الأغن

كلما طار بها اللح ... ن وفراها المغني!

خفقت ذات جناحي ... ن: مدوٍ ومرن!

عبرت كل فؤاد ... وتغشت كل أذن!

وكل أثار الفقيد من هذا الضرب الذي يمتاز بالرصانة في الأسلوب، والسمو في الخيال، والتجديد في المعاني

وفن التيجاني في مجموعه، مزاج من الأحاسيس العاطفية المتناهية في الدقة، والتأملات الروحية الفلسفية الصوفية: التي تُرى أن كل الكائنات، كبيرها وصغيرها، جليلها وحقيرها، تحدث عن جلال الخالق عز وجل

وليس أدل على صدق هذا القول من قصيدة شاعرنا التي نشرتها له (الرسالة) في العدد 38 من سنتها الثانية، تحت عنوان (الصوفي المعذب)، وهذه القصيدة تمثله صوفياً من الطراز الأول، ومنها: -

الوجود الحق ما أو ... سع في النفس مداه

والسكون المحض ما أو ... ثق بالروح عراه

كل ما في الكون يمـ ... شي في حناياه الإله

هذه النملة في رقتها ... رجع صداه!

هو يحيا في حواشيـ ... ها وتحيا في ثراه!

وهي إن أسلمت الرو ... ح تلقتها يداه!

لم تمت فيها حياة الله ... إن كنت تراه!

وله من نفس القصيدة، وكأني به كان يصور شعوره عند دنو الساعة الأخيرة:

أذني. . . لا ينفذ اليو ... م بها غير العويل نظري. . . يقصر عن كل ... دقيق وجليل

غاب يا نفسي إشرا ... قك والفجر الجميل

واستحال الماء فاستحـ - جر في كل مسيل

يرجع اللحن إلى أو ... تاره بعد قليل!

وكان حب الشاعر المفرط للبحث والتنقيب في أمهات الكتب الأدبية والفلسفية يحمله على أن يقطع ليالي برمتها ساهراً: يقلب صفحات كتبه تارة، وصفحات أفكاره تارة أخرى، أو يغازل عرائس أشعاره وقوافيه، البارعات الجمال، ذلك دون أن يقيم لصحته وزناً، أو يعطي جسمه الضاوي راحته من الهجود وفي ذلك يقول: -

ويح نفسي تنام من دونها الأنـ ... فس شوطاً وما تهم بشوط!

أنا والنجم ساهران نعد الصبح ... خيطاً من الشعاع لخيط!

كم صباح نسجته أنا والنجـ ... م وأرسلت شمسه من محطي!

وكان من جراء هذه الجهود المتواصلة التي كان يبذلها الشاعر في الانكباب على الدرس والتحصيل أن أصيب بداء (السل) الذي أودى بحياته في أقل من نصف عام. فرجع هذا اللحن الجميل إلى أوتاره، على حد تعبير الشاعر. والشاعر لما يزل في ريعان الشباب، ولما يتجاوز الخامسة والعشرين

هذا وقد خلف الشاعر ديوان شعره، الذي كان يعده للطبع بعنوان (إشراقة). وقد قدم له بقصيدة شيقة جاء فيها:

قطرات من الندى رقراقه ... يشرق البشر دونها والطلاقة

قطرات من الصبا والشباب الغض (م) ... منسابة به منساقه

ورذاذ من روحي الهائم الولهان (م) ... أمكنت في الزمان وثاقه!

قطرات من التأمل حيرى ... مطرقات على الدجى براقه

يترسلن في جوانب آفاقي (م) ... شعاعاً أسميته (إشراقه)

في سنة 1027، نشرت له مجلة (البلاغ الأسبوعي) أولى قصائده، وهو يومذاك طالب حديث السن في الخامسة عشرة من عمره، ومطلعها: -

تبدي الصدود وإنني أهواها ... حسناء ما عرف الهوى لولاها! وأما آخر ما نظمه الشاعر وهو على فراش الموت، فقصيدة بليغة مؤثرة، يخاطب فيها صديقه الشاعر السوداني المشهور: محمود أنيس. وفيما يلي جانب منها: -

أرأيت الصديق يأكله الدا ... ء ويشوي عظامه المحراق؟

جف من عوده الندى فتعرى ... وتنفت من حوله الأوراق!

وأنا اليوم لا حراك كأن قد ... شد في مكمن القوى أوثاق

بت استنشق الهواء اقتساراً ... نفس ضيق وصدر مطاق

وحنايا معروقة، وعيون، ... غائرات، ورجفة، ومحاق!

مالنا دون ذا احتيال فإن الله (م) ... في علمه الشئون الدقاق!

كيف أجزيك يا (أنيس) ومالي ... من يد بالجزاء مثلي تساق

فالقريض الذي تقدر لا أعلم (م) ... إن كان في الجزاء يستشاق

فاحتفظها ذكرى فإن مت فأقرأ ... بينها الحب ما عليه مذاق

أو حيينا فسوف نقرأ فيها ... فترة لا أعادها الخلاق!

ألا رحم الله فقيد الأدب السوداني، فلو عاش لغدت له شهرة مدوية بين قراء العربية في شرقنا العزيز.

(أم درمان سودان)

المبارك إبراهيم