مجلة الرسالة/العدد 22/الأساليب

مجلة الرسالة/العدد 22/الأساليب

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 12 - 1933



للأستاذ أمين الخولي

المدرس بكلية الآداب

في مصر اليوم أساليب تمتاز بامتياز البيئات، وتختلف باختلاف الثقافات، ويذهب كل أناس بأسلوبهم لا يعدلون به أسلوبا، ولا يرضون منه بديلا، بل لا يرون له مثيلا؛ ونحن بين ذلك كله في حيرة مما نأخذ وندع.

وما أعني الأساليب الأدبية ولا الأنماط الفنية، فلعل الأمر في ذلك هين يسير، إنما أعني أساليب التفكير وطرائق التعقل ومذاهب الناس في تقرير الحقائق، وتقبل ما يقبلون منها ورفض ما يرفضون في مصر اليوم بيئات فكرية متعددة، وطرائق تهذيب مختلفة الأصول متباعدة الأسس، حتى لترى المسلمات المقررة عند فريق، تنكر في عنف بل في سخرية أحيانا عند آخرين، ونحن على هذا في مفترق طرق متشابكة؛ وشباننا الآخذون سبل الحياة في حيرة، لا يجدون معالم واضحة، ولا يدرون أين يذهبون، وحين يلتمس أولئك الشبان الحقيقة من هدأة إدلاء يحملون الأقلام في هذا البلد لا يجدون إلا من يداوى الاختلاف بالفرقة؛ ولا تستقر الحياة الفكرية لأمة هذا شأنها. وإذا كانت مصر قد خلصت من تعدد العناصر، وتكاثر اللغات؛ واختلاف الأديان والنحل فأنها لما تظفر بوحدة المزاج النفسي، وتجانس الأسلوب الفكري؛ وليس ذلك على أمة ناهضة بايسر خطرا وأهون شأنا من النواحي الأخرى في الاختلاف.

وما جردت اليوم قلمي لأكتب سداً لفراغ أو تلبية لطلب كأكثر ما يكتب الآن، بل تأثرا بحالة أشهدها كل يوم حين أغدو وأروح بين الجامعتين الأزهرية والمصرية، وأعانيها كلر يوم مع هؤلاء الشبان الذين لا يكاد يهون معهم التفاهم المنظم، بل يشق ويعسر إن لم أقل يستحيل. أرى في الجامعتين محافظين مسرفين، ومجددين مسرفين، وقد أرى هؤلاء، حيث لا يتوقع أن أراهم، وأجد أولئك حيث لا يدور بخلدي أن تقع عيني عليهم، كما أرى في الناحتين من لم يتجددوا ولم يحافظوا، ولكل أسلوب فكري مضطرب فاسد ينتهي به إلى نتائج تزيد مسافة الخلف بينه وبين الآخرين. وما إدخال القارئ في حاجة إلى شيء من المثال على ذلك، فهو وأجده حيث يرسل بصره، ويصيخ بإذنه جليا واضحا في صحافتن اليومية والأسبوعية والشهرية، وفي أنديتنا ومجامعنا، وفي المناقشة تجري بين متعلمين في أي مكان؛ وهي حال لا ينخدع عنها أحد مهما تجاهلها؛ يشعر بها كل ذي أسلوب من تلك الأساليب فتجد صداها في أسف صاحب القديم أسفا عميقا على ما يكون من طيش أولئك الذين لا يبرءون عن الهوى والنزف، ولا يعفون من الاتهام في دينهم ووطنيتهم. كما تجد صورة ذلك الافتراق في ضجر المشتطين وتبرمهم بتلك التقهقرات التي تصيب التدرج العقلي، وتعوق الحرية الفكرية؛ وفي سخطهم على هاتيك الرجعات التي تنتكس بها النهضة ; وكما تجد هذا الافتراق في الأساليب عند المترددين بين الطريقين المحاولين التوسط، حين يقصون من الجديد ويمطون في القديم، يرجون أن يتقابل هذا وذاك ويتوافقا؛ في كل هؤلاء تجد أساليب من التفكير مختلفة، فتشعر في ألم باضطراب كياننا الفكري، وتجد هذا الاضطراب يزداد شدة وخطورة، حين تتحكم في التفكير نزوة سياسية، أو يصل أصحاب الرأي حبلهم باعتبارات دينية، عند ذلك يشتد اضطراب أسلوب الفكر حتى يصير قلقا مزعجا وانتكاسا عجيبا، والويل كل الويل للحقيقة؛ بل الويل كله لشبابنا خاصة حين يضيع منه جيل وجيل ضحية هذا الاضطراب، وحين يقبع الخائفون من هوى السياسة، ومجازفة أهل الدين، فيسكتون طمعا في السلامة؛ أو يروجون لما هو في سريرتهم خطأ بل ضلال. فتضيع الحقيقة ويضيع الشبان قربانا لهذا الحذر وحب السلامة.

لقد أخشى أن يتلكأ قلمي أو يتوقف حين ثارت ذكرى هذه التهديدات، فيؤثر الإخلاد الوديع إلى الهدوء؛ لكني حامله على إلا يفعل، وماض في نقد تلك الأساليب مهما غضب أصحابها ومصطنعوها مبتغيا وجه الحقيقة وحدها. غير ملوث ما أقول بشيء من هذه المهاترة التي تسود جو المناقشات عندنا فتكون شرا على شر.

في مصر نفر أسلوبهم الفكري أن يضعوا العقل في مكان الإنسان من يد الموت كما يشبهه طرفة بن العبد في قوله:

لعمرك أن الموت ما أخطأ الفتى ... لكأ لطول المرخى وثنياه باليد

يجول العقل في مسارح الكون على أن يظل حبله في يدهم، أويد الدين كما يفهمونه هم لا كما هو في طبيعته وحقيقته، فحيث خلوه سرح، وحيث كفوه انكف، وحيثما هزوا حبله فهو خاطئ. وتقول لهم أن عنيتهم بهذا التحكم في العقل أنه عاجز عن استكناه كل شيء والنفاذ إلى صميم الحقائق كلها فنحن معكم، لكن دعوا العقل يشعر من نفسه بهذا العجز، ولا تفرضوا عليه العجز فرضا وسيطرة؛ بل دعوه يعرفه، بالتجربة، فيأبون إلا أخذه بالحبل. وتنبئهم أن مسالك العقل في الوصول إلى الحقائق مختلفة، ومنا ما لا سبيل إلى رد نتائجه، ولا حيلة في نقضها، فهو حين يعتمد التجربة ويحدث عن واقع لا خير لكم في مناقشته، ولا سبيل لكم إلى كفه وأن تفعلوا فهو متمرد يخشى عليكم خطره، فيأبون ألا الحبل. تتحدث إليهم مثلا عند تدرج المعارف البشرية وترقيها وما يشاهد من مظاهر ذلك البارزة في طبقات الناس، فيجابهونك بأن آدم أبو البشر قد علمه الله الأسماء (وعلمه الله المسميات أيضا) وهو رسوله، فليس يصح بعد ذلك ما تقولون من هذا التدرج. وليس الأمر عندهم إلا أن رأس الدنيا في قدمها وعقلها في عقبها؛ ولا يجديك أن تفرق بين الخيرية الخلقية النفسية، والمعرفة العلمية؛ ومهما تساهلت أو تنازلت لا تصل منهم إلى رضا واطمئنان. يسمعون أن الكائن المادي والمعنوي يتأثر ببيئته؛ ويتبادل التأثير مع جميع ما حوله؛ فلا يرضون أن يكون الفقه الإسلامي مثلا قد جرى عليه ذلك وإصابته هذه الفضيحة! ويضربون الأرض برءوسهم معلنين أنهم لن يسمحوا بأن يقال ذلك.

مثل هذا الأسلوب خاطئ. يضيع ما يريد الدين أن يخفف به غلواء العقل ونزقه، ويزج أصحابه بالدين فيما ليس من شأنه؛ ويضيعون معالم الأشياء، وحدود الحقائق ليوجدوا تحكما في العقول البشرية، ويبنوا لها محابس ويضعوا عليها إغلاقا؛ وقد طبعها الله وثابة نفاذة متغلغلة محلقة.

وفي مصر قوم أسلوبهم أن يرسلوا العقل، أو قل يرسلون أنفسهم إرسالا، فيقولون بالظنة، ويحكمون بالشبهة، ويقطعون بالبداء، ويجزمون باللمحة؛ هذا إذا كان الحكم لهم، فأن كان من غيرهم طلبوا من الدليل ما لا يطلب، وجعلوا العقلي التجريبي ; في موضع الظني، فتارة يقلبون الحقيقة، فكما يسمون النتيجة التجريبية علما، يسمون النتيجة النظرية علما، ويسمون الفرض الاضطراري علما، ويسون الحل المؤقت الذي يبعثه العجز عن الحقيقة الصحيحة علما، فيزعمون أن ذلك كله من مملكة العقل التي هو فيها حر مسيطر ليس لأحد أن يحد من سلطته. يريدون أن تكون الحقيقة الطبيعية، والنتيجة الرياضية، والرواية التاريخية والخاطرة الفنية، كل أولئك عقليات علميات لا فارق بينها؛ ولها جميعا أن تضرب وجه الدين، وتصفع قفاه ساخرة في غير حياء ولا تقدير حتى لآداب اللياقة؛ وطورا على أساس هذه التسوية الغريبة يرون أن العلم إذا لم يلمس وجود شيء فليس موجودا ولا يصح لعاقل أن يتحدث عنه، ومادام الإله لم يختبر في المعمل فلا معبود ولا دين؛ يشكون والشك حق فطري لا ينكر عليهم؛ لكنهم لا يلتمسون الأدلة كما هي الخطوة الأولى بعد الشك، بل يطرحون ما شكوا فيه ويهملونه. وكذلك يفعلون حين يشتبهون ويقوى في تقديرهم الاشتباه، فيعدون اشتباههم آية عجز كل محاولة للإثبات، وفشل كل دليل، فيطمئنون إلى بطلان ما اشتبهوا فيه؛ وتقول لهم ان الأسلوب التجريبي لا يقبل مادون التجربة مادامت مستطاعة، فاحتكموا إليه متى أمكن، وهاتوه إذا ما ادعيتم؛ أولا فأحسنوا تقدير ما دونه من الأدلة فأساليب البحث مختلفة، ولكل فرع أسلوبه؛ ونحن في أساس التجمع، ونظامه، والشريع له، وفي حقبة الحق، وخيرية الخير، وغير ذلك لا نملك التجربةولا المعادلة الرياضية فنثبت بما عداها ونسلم؛ فلا هم مثبتون بالتجربة إذا ادعوا، ولا هم قابلون من غيرهم مثل دليلهم إذا أدعى؛ وتحدثهم عن أن بطلان الدليل لا يستلزم بطلان المدلول، وأن ما تجهل أكثر مما تعلم فيسخرون بهذه العبارات القديمة؛ ويناقضون أنفسهم في تقرير ما يرفضون مثله، ورفضمثل الذي يقررون.

ذلك أسلوب خاطئ؛ لا يحدد قيم المعلومات، ولا يطلب لكل دعوى دليل مثلها، ويضيع معالم الحقائق في النفس، فيخضع الإنسان للفرض والظن إخضاعه إياه للمجرب المطرد فيفسد التقدير، ويسلح أعداد الحرية الفكرية بأغلاط أولئك المتحررين خطأ، ويضيع هيبة العلم. ويعكر ما بينه وبين الدين، بل ما بين العلم والأخلاق مما له أثره العنيف الخطر في حياة الجماعة.

في مصر من أسلوبهم أن يهجموا على مخالفهم في الفكرة قبل تأييد فكرتهم؛ ولو كان هذا المخالف يتناول الموضوع من غير الناحية التي يتناولونه هم منها، وبطريق غير طريقهم؛ فتراهم يوازنون بين الفكرتين ويفاضلون بين الرأيين؛ ولما يبحثوا أو لابد لهم بأن يبحثوا إلا واحدا منهما؛ بل هم لم يفرغوا بعد من بحثهم وتأييد رأيهم، ويزيدون ذلك بالا يجعلوا الموازنة علمية، بل يقلبونها موازنة خلقية أو فنية، فلا يبينون الخطأ ولكن يقولون هذا تغرير أو هذا سخيف وما إلى ذلك مما يغضب ويؤلم، دون أن يقدم نحو الصواب أو يؤخر. تكون مسألة بحثهم تاريخية او أدبية أو هبها عالمية بحتة قد تولوا درسها على أساس لهم في ذلك فانتهوا إلى نتيجة ما، فهم لا يشتغلون بتقريرها وتأييدها، وتقوية مواضع الضعف فيها، على ما تتطلبه أمانة البحث، ويقضى به نظام الإحصاء والتفرد، بل يدعون ذلك إلى الاشتغال بأن ما تقره ناحية أخرى أو باحث آخر ليس إلا تضلاً مثلا، أو هو خداع أو ما أشبه؛ وهذه الناحية وذاك الباحث قد عرض للموضوع بغير طريقتهم وعلى غير اساسهم، ويزيد النار تأججا أن يكون الموضوع مما للعقيدة مثلا به صلة؛ فنحن نعرف أن الوشائج متصلة بين الدين والفن، وبين الدين والعلم في أشياء كثيرة؛ فالأنبياء والرسل مثلا من حق التاريخ، والقرآن من متناول الأدب والتاريخ فلا جدوى على الحقيقة مطلقا في أن ينتهي باحث في مثل هذه الأشياء إلى رأى استقرائي أو حكم تاريخي فيكون همه تأكيد أن غيره من كلام الدينيين خداع أو اتجار أو نحو ذلك مما يعزز حكما ولا يدعم رأيا؛ بل لا ينفي عنه مظاهر ضعفه على حين يثير المعتقدين في غير طائل؛ ويفقد الحقيقة فرص الظهور والاتضاح، ولو قرر ما يقرر من ذلك في أسلوب سليم وبحث مستقيم ثم لوح ملوح بمخالفة ذلك للدين، لوجب عندي أن يترك لأهل الدين أمر التوفيق او التأويل؛ أو مالهم مخلص فحمل كل عبئه. ولو رؤى وصل الناحتين لا بد مع التزام حدود التخصص، والاحترام الحقيقي للحرية العقلية للزم السعي أولا إلى رال الدين بهذه الشبهة يسألون كشفها ويكلفون دفعها، فعليهم في ذلك واجبهم يحسنونه أو يحرجون بعجزهم، ويمضي العالم او المؤرخ أو الأديب وقد سلم له أنصاره ووقته وبحثه لا يخسر في ذلك شيئا على غير جدوى، ولا يثير إلا مخالفة عاقلة قد تكشف له عن نقص في رأيه أو تثبيت صحته حين تتهاوى السبة عنه.

تلك أساليب بحث وضروب تفكير لها خطرها في تمزيق وحدة الشبان وإفساد الجيل، وقطع أواصر التآلف النفسي والتمازج الروحي قطعاً يعوق التعاون الاجتماعي الذي يتطلبه الوطن ملحا من هذا الجيل، فليست الخسارة من وراء اختلاف تلك الأساليب عقلية فحسب، ولا فنية فحسب، ولا خلقية فحسب، ولا إجماعية فحسب، بل هي كل أولئك مجتمعة، وما أهولها!!

وفي مصر أساليب أخرى فكرية أفردها بمقال آخر؟ أمين الخولي