مجلة الرسالة/العدد 22/الذوق العام

مجلة الرسالة/العدد 22/الذوق العام

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 12 - 1933



للأستاذ أحمد أمين

يظهر لي أن للأمة ذوقا عاما كما أن لها رأيا عاما وعرفا عاما لكل دائرة اختصاص لا يتعداها. فالرأي العام مداره الآراء والأفكار والمعقولات، والعرف العام، مداره العادات أما الذوق العام فمداره الفن والجمال.

وكما أن هناك قدرا مشترك بين المصريين مثلا في لونهم وتقاطيع وجوههم، وملامحهم، فنستطيع في سهولة ويسر أن نميز المصري من الأجنبي حتى في البلاد الأجنبية، وكما أن هناك قدرا مشتركا في الرأي العام المصري في النواحي السياسية والاجتماعية يميزه من غيره من الرأي العام الأوربي، فكذلك الشأن في الذوق العام.

يتجلى هذا في كل أنواع الفنون كالطعوم، فلكل أمة أنواع من الطعوم تستلذها وتغرم بها، هي نتيجة ذوقها، ومن أجل هذا كان طهي كل أمة يخالف طهي الأمة الأخرى، ولا يقتصر هذا على نوع المأكول بل يتعداه إلى كيفية أعداده، وبذا نستطيع أن نحكم على الأمة بأنها تستجيد كذا من ألوان الطعام وأنواعه، على حين أن الأمة الأخرى لا تستسيغه ولا تتذوقه.

ومثل الطعوم غيرها من الفنون، فالذوق العام المصري يقدر الموسيقى المصرية أكثر مما يقدر الموسيقى الغربية، بل لا يستلذها ولا يرى فيها جمالا، كما أن أكثر الغربيين لا يجد في الموسيقى الشرقية طعما، ولا يقيم لها وزنا.

وكذلك أشكال البناء وما يستجاد منها وما لا يستجاد وأنواع الملابس وألوانها وما يستجمل منها وما يستهجن: كلها خاضعة للذوق العام في الأمة. ولكل أمة في هذه الشؤون ذوقها يميزها من غيرها ويضعها في درجة خاصة من سلم الرقي. وهذا الذوق العام في كل أمة هو الذي يقومّ الأدب ويتذوقه، وهو الذي يجعل لكل أمة أدبا خاصا، فالأدب المصري مثله مثل الطعوم المصرية، والغناء المصري والبناء المصري إنما يتذوقه المصريون بذوقهم الهام ولا يتذوقه الغربيون بذوقهم العام، كما لا يتذوقون طعومنا وغناءنا، فالنوادر المصرية التي تعجب المصري حتى تبعثه على أشد الضحك وأعمقه قد لا تحمل الأجنبي على التبسم، والقصص و (الحواديت) المصرية التي تسترق لب المصري وتستهويه، قد لا يأبه لها الأوربي ولا يعيرها التفاتا إذا ترجمت له، نعم قد يعجب المصري بآيات من الآداب الغربية ولكنه لا يتم له ذلك إلا بعد أن يحور ذوقه ويمرنه تمرينا طويلا على تذوق هذا الأدب، كما يمرن المصري ذوقه على استجادة الموسيقى فيستجيدها بعد طول المران، ولكن هذا ليس من الذوق العام في شيء.

كما لا نستيطع أن ننكر أن هناك نوعا من الأدب عالميا إذا ترجم إلى أية لغة أستجيد كنوع من القصص، ونوع من الأمثال، ولكن سبب ذلك أن هناك قدرا مشتركا بين الأذواق، كما أن هناك قدرا مشتركا بين العقول، فاستجادة المصريين لبعض الأدب الغربي أو الغربيين لبعض الأدب العربي، شأنها شأن اشتراك الناس جميعا في استجادة بعض الطعوم أو بعض قطع الموسيقى، وهذا لا يغير فيما ادعينا شيئا من أن لكل أمة ذوقا عاما خاصا بها.

وهذا الذوق العام للامة يستبد بالأفراد استبدادا لأحد له، فالناس جميعا خاضعون لأنواع شتى من الاستبداد كاستبداد النظم السياسية، واستبداد العقول، واستبداد الرؤساء ولكن هذه كلها محدودة الدائرة، أما استبداد الذوق العام فلا حد له، ولا سلطان يشبه سلطانه، ذلك أنه بجانب الذوق العام للأمة ذوق خاص بالفرد، فكل فرد له ذوقه الخاص يستجيد به بعض الأشياء ولا يستجيد بعضا، ويستحسن به ويستهجن، ويستجمل ويستقبح، ولكنه في ذلك مسلوب الحرية خاضع خضوعا تاما للذوق العام. قد يشتد الحر فلا يطيق الإنسان نفسه، وقد يكون في نوع من اللبس ما يخفف وطأته ويكسر من حدته، ولكن لابد أن تخضع للذوق العام، فتلبس الخناق ورباط الرقبة وما إلى ذلك خضوعا للذوق العام وخشية من استهجانه، فليس إنسان يلبس ما يجب ولا يأكل ما يحب على النمط الذي يحب، ولا يتكلم كما يحب على النمط الذي يحب، إنما هو في كل ذلك عبد أسير ذليل مقيد مغلول، في كل خطوة يخطوها، وفي كل نفس يتنفسه (لقد قيدتنا القوانين بأعمال يجب أن نعملها، وأعمال يجب أن نتجنبها، ولكنها ليست بشيء بجانب أوامر الذوق العام ونواهيه) وعقوبات الذوق العام سريعة فاتكة متنوعة، فهو يعاقب بالاحتقار والازدراء ويعاقب بالنظر الشزر، والكلمة الجارحة القاسية، ويعاقب بالنقد والتجريح، وهو في كل ذلك لا يسمع دفاعا ولا يقبل عذراً، ولا يؤجل عقوبة، ولا يقبل حكمة نقضا وإبراما، ولا يعرف حكما مع إيقاف التنفيذ، لا شيء من ذلك كله ولكن حكمه حكم صارم، قاس ظالم.

وكذلك الشأن في كل نوع من أنواع الفنون، فإذا أشتهر مغن وأعجب ذوق الجمهور فلا حق لك أن تعيبه، وإذا عبته فعبه سرا، وحذار أن تجهز بذلك فيكون دليلا على فساد ذوقك وضعف حسك.

ومثل ذلك في الأدب، إذا قال الناس أن سحبان وائل خطيب يضرب به المثل في البيان، فيقال أفصح من سحبان فقل مثلهم وإن كنت لم تقف على شيء يثبت فصاحته ويبرهن على بلاغته، وأن فتشت عن كل أقواله فلم تجد إلا اسطرا ثلاثة قال فيها أن الدنيا دار بلاغ، والآخرة دار قرار، الخ ولم تستجد هذا فاتهم ذوقك وكرر قولهم: (أبلغ من سحبان)

وإذا قالوا أن من أبلغ خطب العرب خطبة قس بن سادة: أيها الناس اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فأنتفعوا، الخ، فقل كما قالوا إن لم تتذوق وإذا قالوا إن النابغة الذبياني فضل الشعراء بقوله:

هذا غلام حسنٌ وجهه ... مستقبل الخير سريع التمام

للحارث الأكبر والحارث ال ... أصغر والأعرج خير الأنام

ثم لهند ولهند وقد ... أسرع في الخيرات منه أمام

خمسة آباءهمُ وأماتهُم ... همْ خير من يشرب صوب الغمام

ثم قرأتها ولم تشعر لها بطعم، ولم ترعك ألفاظها ومعانيها فقل أن النابغة فضّل الشعراء بها، وإلا أتهمت في ذوقك ورميت بضعف أدبك.

وكذلك فأخضع دائما لحكمهم وذوقهم، فمن قالوا فيه أنه إمام الأدب أو سيد الشعراء غير مدافع، أو قالوا أنه شاعر متكلف، أو أديب متخلف، فإياك أن تحدثك نفسك بأن تقلب أوضاعهم أو تخالف إجماعهم.

هكذا استبداد الذوق العام، ولست تستطيع الخروج عليه وإعلان استقلال ذوقك عنه إلا بثورة عنيفة على الذوق وتعرض لكل أنواع العقوبات الذوقية.

ثم أن كل ما ترى في الأمة من مظاهر القبح وإقراره فعلته ضعف الذوق العام، فإذا رأيت الأمة تصدِف عما في بلادها من ازدهار، ولا يخفق قلبها لرؤية جمالها وجمال طبيعتها، ولا تتغزل في محاسنها، فأعلم أن سبب ذلك ضعف الذوق العام، وإذا رأيت الأمة لا تقدس النظافة ولا تشمئز من القذارة اشمئزازها من أبغض شيء وأقبحه، فلعل ذلك بضعف الذوق العام، وإذا رأيتنا في المجتمعات لا نرعى نظاما ولا ننصت لفن أو ممثل ولا نتقيد بأدب اللياقة فقل أنه ضعف الذوق العام وهكذا.

ومن الغريب أن هذا الذوق العام الذي يستبد بي في مأكلي وملبسي ومسمعي وأدبي (كما رأيت) لا يستبد في هذه الأشياء، ولا يبدي أي سلطان على هذا النوع من الضعف، فهو لا يحتقر المرء لايقوّم الزهر، ولا يزدري من يسيء في المجتمعات العامة، ولكن يزدريني إذا خرجت من غير طربوش أو رباط رقبة في يوم حار، وسبب ذلك أن الذوق العام لا يعاقب إلا على ما يتذوق، وفي دائرة ما يفهم، فهو إذا قوم مناظر الطبيعة عاقب من لم يتذوقها، وإذا أدرك جمال النظام وآداب المجتمعات عاقب من مسها بسوء، ولما يصل إلى هذه الدرجة.

وبعد فشأن الذوق العام شأن الرأي العام كلاهما قابل للإصلاح والرقي، فالرأي العام ضعيف وسخيف إذا صدر عن أمة جاهلة، ويرقى الرأي العام بانتشار الثقافة وتعميم التربية، ويدل تاريخ كل أمة على أنها في أول أمرها لا يكون لها رأي عام، ثم تمنح أفراد قليلين أقوياء، زعماء مثقفين يوفقون في دعوتهم فيخلقون رأيا عاما، وأن هؤلاء، القادة يجب أن يُسبقوا بنوع من الثقافة العامة في الأمة حتى تستطيع أن تفهم قادتها وآراءهم، فيأتي هؤلاء القادة ويكوّنون إرادة عامة للأمة، ويؤلفون بين اتجاهاتها ويكونون منها وحدة. ومما نأسف له أن مجهودات كبيرة بذلت في ترقية الثقافة العقلية، وبرامج كثيرة وضعت في تعميم التربية العقلية وفي تكوين الرأي العام، ولكن لم توضع برامج لتربية الذوق العام، ولا بذل مجهود في ترقيته ورفع مستواه، فكانا لنا زعماء سياسيون وزعماء عقليون ولكن لم يكن لنا زعماء ذوقيون.

وفي ظني أن الذين يبحثون في ترقية الفنون عامة من موسيقى ونقش وتصوير وأدب مخطئون كل الخطأ، لأنهم يحاولون أن يصلحوا النتائج من غير أن يصلحوا المقدمات، فليس الفنان في الأمة الا صدى لذوقها العام، فإذا صح الذوق صح الفن وإلا فلا ليس الفن والأدب من جنس النباتات التي تنبت من تلقاء نفسها. ولا هو مما يظهر مصادفة واتفاقا وإنما هو نتيجة لازمة لعوامل طبيعية سأحاول أن أبينها في مقال تال.

أحمد أمين