مجلة الرسالة/العدد 222/الأزهريون والخدمة العسكرية

مجلة الرسالة/العدد 222/الأزهريون والخدمة العسكرية

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 10 - 1937



للدكتور محمد عبد الله ماضي

في الأيام الأخيرة قامت ضجة حول ما أشيع من عزم وزارة الحربية المصرية على وضع تشريع يقضي بتجنيد حملة القرآن الشريف، وطلبة العلم بالمعاهد الدينية، حتى إن بعض الهيئات المحترمة قررت استنكار هذا الأمر، ورأت فيه ما لا يتناسب وحرمة الدين، وما يتنافى مع تكريم أهله. ولعل لأصحاب هذا الرأي بعض العذر، ولعل لديهم من القرائن البعيدة عن جوهر الموضوع وما حملهم على الاستنكار، وجعلهم يرون في مثل هذا التشريع مساساً بكرامة الدين وأهله؛ ولكني أريد هنا أن أحاول معالجة موضوع التجنيد العام في ذاته، وأن أبين رأي الإسلام فيه

ولابد لنا أن نعرف أولاً أن غزيرة الكفاح من الغرائز البشرية ذات الأثر الفعال في حياة الأفراد، وفي نظام الجماعات وتكوينها؛ ولقد كان هذا الأثر واضحاً في كل العصور، وفي جميع تطورات الجماعة من البسيطة الهمجية إلى الراقية المتحضرة. فالكفاح الدائم بين الأفراد والجماعات من سنن الطبيعة وقوانينها مادامت الطبيعة وما عاش الإنسان؛ وهو الوسيلة لبقاء الأصلح، وفناء العاجز الضعيف؛ وهو إذاً سبيل الحياة الدائمة المتواصلة، كما يقول نوفيكوف وبقية أصحاب نظرية الكفاح من علماء الاجتماع

والحرب نوع من أنواع الكفاح القاسية التي نراها لا تزال تتكرر في مختلف العصور بالرغم من بغض الناس لها، وبالرغم مما تجره وراءها من ويلات. وإن الدعوة إلى السلام الدائم بين جماعات الشعوب أمر محمود، ولكنه لا يغير من الواقع شيئاً، وحلم لذيذ لم نر إلى الآن أن الوقائع التاريخية والحوادث الاجتماعية تساعد على تحقيقه. ففي الحوادث التي وقعت في السنوات الأخيرة بين الشعوب المنتسبة إلى عصبة الأمم - حصن الدعوة إلى السلام الدائم - وفيما تكرر ويتكرر من اعتداء قويهم على الضعيف منهم ما يبين لنا أن دعاة السلم لم يتعدوا في دعوتهم حدود القول، ولم يأتوا بشيء عملي لتحقيق ما يدعون إليه

فلا غرابة إذن إذا كنا نرى الأمم القوية في كل العصور تنادي بالسلام وهي تستعد للحرب؛ أما الشعوب الضعيفة فإنها تتخدر أعصابها بالدعاية إلى السلم، وتصم آذانها عن نداء الواجب صيحة السلام التي يرسلها القوى المدججة بالسلاح معمياً، حتى لا تزال هذ الضعيفة في عمى عن الحقائق، فريسة له، عاجزة عن الدفاع عن نفسها أمام هجماته، وميداناً لتحقيق مطامعه. والشعوب الحية العزيزة، التي تشعر بالكرامة، وتأبى الضيم والمذلة على استعداد دائم للدفاع عن نفسها، ورد اعتداء المعتدي، فهي تأخذ أفرادها بالمران على الأعمال الحربية، تقوي أجسامهم، وتربي العزة في نفوسهم، وتحبب إليهم التضحية بالنفس والنفيس في سبيل دفع الاعتداء عن أمتهم، ورد المهانة وسلامة الكرامة، والاحتفاظ بالحرية. فالروح العسكرية، وتربية الشعب تربية عسكرية أمر لابد منه لكل أمة تريد أن تعيش مرفوعة الرأس، عزيزة الجانب بين الأمم؛ أمر لابد منه لأشعار أفراد الشعب بمعنى العزة والكرامة، وحتى يؤمنوا بأن الموت العزيز خير من الحياة الذليلة

هكذا صنعت وتصنع الأمم الحية الكريمة، وهكذا كان شأن الأمة الإسلامية في مبدئها، وفي العصر الذي كان المسلمون يعملون فيه بتعاليم الإسلام الصحيحة قبل أن تختلط بالمبادئ الدخيلة التي أعطيت صبغة الإسلام وهي ليست منه في شيء. فكما تأمر مبادئ الإسلام بتعليم النشء وتثقيفه، فهي تأمر أيضاً بأخذه بأنواع الرياضة، وتدريبه على فنون الحرب. وقد جاء في الحديث الشريف (حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمي) وفي التعليق على حديث (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي) يقول صاحب نيل الأوطار: وكرر ذلك للترغيب في تعلمه (الرمي) وإعداد آلاته؛ وفيه دليل على مشروعية الاشتغال بتعليم آلات الجهاد، والتمرن فيها، والعناية في إعدادها، ليتمرن بذلك على الجهاد ويتدرب فيه، ويروض أعضاءه

وليكن لنا في رسول الله أسوة حسنة، وهو المثل الأعلى للرجولة الكاملة، فلقد ساهم عليه السلام بنفسه في كثير من أنواع الرياضة، والتمرينات الحربية، فسابق في العدو، ورمى، وصارع؛ ولقد شاهد اللعب بالحراب، واشترك في سباق الخيل. كان يفعل كل هذا، ويأمر به، ويشجع عليه أفراد أمته، حتى النساء منهم، فلقد كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها جريا على الأقدام، فمرة تسبقه ومرة يسبقها. أرأيت كيف أن هذا لا ينافي الوقار والشرف والعلم والفضل وعلو السن؟! هذا هو حكم الإسلام في الرياضة البدنية؛ وهذا هو حكم الإسلام في الخدمة العسكرية، وتعليم أفراد الأمة فنون الحرب، وأخذهم بآداب الجندية

ولم تزل الشعوب قوية عزيزة الجانب حتى أخذت روح الجندية تضعف في نفوس أفرادها، وأخذ استعدادهم للدفاع عن حمامهم يضعف ويقل؛ فأخذ العدو يهاجم بما لا حول لهم به ولا قوة، حتى وصلت بهم الحال إلى ما هم عليه من الضعف، وحتى استعبدهم الغير؛ وما فتئت الدول المستعمرة في العصور الأخيرة تعمل على قتل روح الجندية، روح القوة والرجولة في الأمم الإسلامية المغلوبة على أمرها، لتطول مدة حكمها لها، ولتأمن جانبهم في الدفاع عن أنفسهم. عملت على هذا، ووضعت لتنفيذه خططاً مدبرة محكمة، كان من أشدها خطراً عندنا في مصر قانون البدل والإعفاء من الخدمة العسكرية؛ إذ ظن المعفون خطأ أن في ذلك ميزة لهم وشرفاً اكتسبوه؛ وكانت نتيجة هذا الأجراء المدبر أن انحصرت الخدمة العسكرية في أفراد الطبقة الفقيرة الجاهلة من الشعب؛ وعومل هؤلاء أثناء تأدية الخدمة من رؤسائهم معاملة إذلال وقهر، غرست في نفوسهم البغض لما هم فيه، وقتلت فيهم الروح المعنوية التي لابد لها منها لانتصار الجنود إذا اشتدت الخطوب، ووقع القتال؛ هذه الروح المعنوية التي جعلت العشرين من جند النبي وأصحابه يغلبون مائتين، والمائة يغلبون ألفين

هذه العوامل وغيرها ولدت في نفوس الشعب عندنا بغض الخدمة العسكرية وتحقيرها، حينما تفخر الشعوب الحية بها وتعتز؛ وبهذا فقد شبابنا كثيراً من معاني القوة والرجولة. ومن عجائب الدهر أن تجعل الخدمة العسكرية عقوبة للطالب الأزهري يعاقب بها إذا رأى ولاة الأمور خروجه عن النظام، وقرروا إنزال العقاب به؛ فهم حينئذ يمحون اسماه من سجلات الطلبة الأزهريين ويبلغون الجهات المختصة لتحرمه من امتياز الإعفاء من الخدمة، وتعاقبه فتجعله يؤدي الخدمة العسكرية - كما وقع ذلك في بعض عصور الأزهر الغابرة -

ألا إن هذا عكس الحقائق، ووضع للأمور في غير نصابها؛ هذه الروح يجب أن تزول، وأن يحل محلها روح الشعور بأن الجندية شرف لا عقوبة

الواجب على أولي الأمر بعد أن حصلنا على معاهدة الاستقلال، وأطلقت يدنا من عقالها في كثير من الشئون أن يصلحوا ما أفسده الدهر من أمر الخدمة العسكرية في بلادنا. وإذا أراد أن يسلم لنا شرفنا فلنعمل على تربية روح العزة والكرامة، ولنتعهد روح الرجولة بما ينميها في نفوس الأفراد، فيجب أن تكون الخدمة العسكرية عامة إجبارية على كل من يصلح لها من أبناء الشعب بلا تفريق بين طبقة وطبقة، وبغير تمييز بين أهل حرفة دون حرفة، ليشعر أبناء الشعب جميعاً بالأخوة والمساواة، وليدخلوا جميعاً مدرسة الرجولة

وعلى جميع طبقات الأمة أن ينادوا بهذا، ويطالبوا ولاة الأمور بتنفيذه؛ وعلى حملة القرآن الشريف، والأزهريين منهم خاصة - من أصحاب الامتياز المزعوم - أن يطالبوا أولي الأمر مع المطالبين، بل في مقدمتهم بالتجنيد الإجباري العام، فإنهم أبناء الأمة، وعليهم أن يشركوا إعداد أنفسهم للدفاع عنها إذا دعا الداعي. ولهم أن يفخروا بشرف الانخراط في سلك الجندية، فلقد حان الوقت ليخرج الأزهريون من عزلتهم، وليأخذوا أنفسهم بتعاليم الإسلام الصحيحة، وينفوا ما زيف عليهم منها

فليس من الإسلام أن حملة القرآن الشريف، وطلبة الأزهر يعفون من خدمة العسكرية، فالإسلام دين الرجولة يمقت كل ما يمت إلى التخنث بصلة؛ وليس من الإسلام هذا الوقار المزعوم الذي يتخيله العامة عندنا في المشية المتثاقلة المتئدة البعيدة عن النشاط وخفة الحركة، فلقد كان النبي عليه السلام يسير ملقياً جسمه إلى الأمام مسرع الخطو ثابته.

محمد عبد الله ماضي

دكتور في التاريخ والاجتماع وعضو بعثة تخليد ذكرى الشيخ

محمد عبده بألمانيا