مجلة الرسالة/العدد 223/الهيكل

مجلة الرسالة/العدد 223/الهيكل

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 10 - 1937



لشاعر الحب والجمال لامارتين

ترجمة السيد عارف قياسة

(مهداة إلى أستاذنا الزيات اعترافاً بما لترجمته من فضل على

المترجمين)

(عارف)

(ولج الشاعر ذات مساء بيعة قرية، فإذا ضوء خافق ينير ظلمتها، وإذا نفسه الطاهرة تجيش بالخواطر، وإذا قلبه الخاشع يفيض بالشعر، وإذا هو يخرج من البيعة ويمتشق يراعته ويسجل هذه القصيدة في صفحة الخلود):

ما أحيلاه حين يصعد الشفق إلى القبة الزرقاء، وقد سبق محفة الليل الهادئة الوادعة، وحين يتنازع النور والظلام عرش الغبراء. ما أحيلاه إذا ما ضرب في أعماق الوادي، والقلب عامر بالتقوى، زاخر بالورع، مولياً وجهه شطر الهيكل القروي حيث تخلع الطبيعة على أروقته الساذجة ثوباً من الأشنة، وحيث تزال الحجب وتكشف الأغطية، وحيث تتحدث السماء إلى قلوب طفحت بالتقوى

تحية أيتها الغابة المقدسة! تحية يا أيها الحقل الذي رفرف الحمام فوقه، يا حارس أجداث القرية! إني لأبارك أرماسك المتواضعة في غدوي ورواحي. ويح الأولى مشوا على رفات العباد اختيالا! جثوت على ركبتي أمام قبورهم إجلالا وقد رنت أقدامي في صخرة الهيكل. الليل ساج داج، والضوء خافت مرتعش في المحراب، ينبعث من سراج وهاج، تألق قرب (المذابح) المقدسة، سراج يتلألأ حين يبسط الكرى أجنحته على الكون رمز الإحسان الساهر، ماسحِ مدامع البؤساء، وجامع آهات الأشقياء

دلفت إلى الهيكل، فلم يرن أذني غير اهتزاز فِنائه تحت وقع أقدامي الموزونة. أيتها الجدران المباركة! أيتها المذابح المقدسة! إِني لفريد وحيد، وإن نفسي لتود لو سكبت أمامكن آلامها الممضة، وغرامها المضني، وأودعت السماء كلمات خفية، ستدرك كنهها هي وحدها، وستسمعنها أنتن وحدكن ولكن لِمَ أزهف إلى تلك المذابح غير هياب ولا وجل؟ أي ربي العظيم! إني لأجرؤ أن أحمل في هذا الهيكل الخاشع قلباً يرمضه الألم، ويضنيه الغرام. رحماك ربي! إني لأحس بالرعدة تسري في كياني! اغفر ما اجترحت في بيتك من خطايا وآثام. كلا! إن نار الجوى التي تلتهمني لا تصبغ وجهي بحمرة الإثم. الحب طاهر ما أذكت الفضيلة لظاه، نقي نقاوة من أخلصت لها الوداد. إن غرامي ليلذع قلبي ولكن بجذوة مقدسة، فالصبر يشرفه والشقاء ينقيه ويطهره

لقد ذكرته إلى الغبراء، وإلى الطبيعة الحسناء؛ ذكرته أمام مذابحك المقدسة في غير وجل ولا إشفاق، وإني لأجرؤ على ذكره أمام عظمتك أيها الرب القدير! أجل! لقد تمتمت شفاهي بأسم إلفير برغم ما قذفه هيكله من الروع في فؤادي. إن ذلك الاسم الحبيب الذي تعيده الأجداث إلى الأجداث، وتهمس به الأموات في آذان الأموات، ليكدر سكون المقبرة الرهيب كما يكدره شقي زفر آهة معولة

تحية أيتها الرموس المقرورة! تحية أيتها المنازل المقدسة! لقد أعاد صدى الليل سويعاتنا السعيدة واويقاتنا الحبيبة حين أذريت دمعي أمامكن. شاهدت السماء مدامعي المسفوحة فقرت عيني وطابت نفسي

لعل (إلفير) التي تساهر وحيدة صورتي الحبيبة، تدلف في تلك اللحظة إلى معبد داج، مخضلة العينين بالدموع، وتجثو أمام المذابح القفرة تودع آلامها وأشجانها كما أودعت آلامي وأشجاني

حماة (سوريا)

عارف قياسة