مجلة الرسالة/العدد 225/دراسات في الأدب الإنكليزي

مجلة الرسالة/العدد 225/دراسات في الأدب الإنكليزي

مجلة الرسالة - العدد 225
دراسات في الأدب الإنكليزي
ملاحظات: بتاريخ: 25 - 10 - 1937



جون ملتون

للأستاذ خليل جمعة الطوال

تمهيد

لقد كانت إنكلترا قبل الحكم الأليزبثي غارقة في بحر خضم من الحروب الدينية والمنازعات المذهبية، وكان أدباؤها منقسمين إلى عديد البطانات السياسية المتضادة التي كانت لا تفتأ تتناحر فيما بينها على اجتناب حبل الرأي في الأمة، ومقاليد الأمور في الحكومة، والمراكز الملحوظة في السيادة، وصرفتهم هذه الحروب الدينية السياسية عن طبيعتهم، واجتاحتهم إلى ميادينها الدامية، كما يجتاح السيل الأتيُّ قطعة من الخشب، أو قصبة من القش. فلا عجب إذا تضيفت شمس الشعر - في إنكلترا - للمغيب، ولا عجب أيضاً إذا تعطلت في الناس أخيلتهم المتوثبة، ومشاعرهم المشبوبة، وصدورهم المليئة بالأحاسيس الوثابة، والعواطف الجياشة، إذ ليس في البيئة السياسية ثمة ما يغذي هذه الأمور، أو يثير أسبابها ويوقد جذوتها

وما هو إلا أن اعتلت اليصابات سدة العرش، وتسنمت عاليها وتقلدت بيدها الحديدية زمام المملكة وأعنتها، حتى سارت في خطتها على المبادئ القويمة اللاحزبية، فأباحت الناس على مختلف طبقاتهم ومللهم الحرية المطلقة في معتقداتهم، فخمد بذلك روح التناحر المذهبي - ولو إلى حين - وانفرط عقد هذه البطانات السياسية المتضادة، إذ قطع التسامح الديني الذي أوجدته اليصابات أسباب تضادها، فاستيقظت مشاعر الشعراء وعواطفهم على هدوء ريح هذا التعصب المذهبي الممقوت، وأخذت أخيلتهم المتوثبة تتحرر من أصفادها وقيودها التي كبلتها بها البيئة السياسية مدة من الزمن ليست بالقصيرة. وقد ساعد على هذه النهضة المباركة ذوق الملكة الأدبي، إذ استدنت الأدباء إلى قصرها وقربت الشعراء من بلاطها، فكان عملها هذا وتشجيعها للأدباء بمثابة التعويض العادل للآداب عما خسرته تحت نقع تلك الحروب المذهبية - السالفة الذكر - التي خلقها تكالب الكاثوليك والبروتستنت على السيادة وما هي إلا فترة من الزمن حتى توفيت اليصابات، فأخذ الأدباء عامة، والشعراء خاصة، ينحتون سبلهم الوعرة في صخر السياسة الأصم بكل عناء وجهد، إذ كان موتها كالريح الهادئة أذكت سعير تلك النار المذهبية الخامدة، فعادت النفوس إلى شنشنتها القديمة من التخاذل والانقسام الديني. والتف الأدباء ثانية، كل حول بطانة خاصة، يناصرها في الجهر والخفاء، ويذود عنها بلسانه وقلمه، وإذ كان الدين علة هذا الانقسام وسبب تحزب هذه الأحزاب، فقد كان نتاج الأدباء إذ ذاك، متسماً بالميزات الدينية، والمظاهر الحزبية. وخير من نلتمس هاتين الظاهرتين بوضوح وجلاء في آثاره (جون ملتون) وهو الذي سنعرض لدراسته في هذه الكلمة العجلى

شخصيته وحياته

لملتون شخصية فذة محاطة بستر كثيف من الغموض والإبهام، ليس من الهين علينا خرقه؛ يدل على ذلك: تشعب الأحكام فيه، وتباين وجهات النظر إليه، وتناصر الآراء عليه. فبينا نرى المعجبين بسمو شخصيته، والمفتونين بسحر شاعريته، يوغلون في تقديسه وتبجيله، ويبوؤونه وشكسبير سناماً واحداً من الشهرة والعظمة ولا يرون (لفردوسه) في الشعر مثيلاً إلا بالرجوع إلى الإلياذة والأوذيسة - إذ بالكثيرين من خصومه يجردونه من جميع مواهب الشاعرية السامية، ويجهدون الفكر في تسقط سقطاته، وتقصي هفواته، والإحاطة بكل ما من شأنه أن ينتقص من شاعريته وينال من شخصيته. أما الفريق الأول فزعيمهم (وليم هزلت)، وأما الفريق الثاني فعلى رأسهم (جونسون)؛ ولا تظهر الحقيقة بين حالتي الإغراق في الإعجاب، والتحذلق في التغرض إلا مجسمة مكبرة، ومشوهة ملفقة، فلا عجب إذا قلنا إن ملتون كان ولم يزل غامض الشخصية، مكتوم الطوية. ونحن إذ نعرض له بمثل هذه الكلمة العجلى، فلسنا ندعي أن فيها فصل الخطاب الذي لا يرد، ولا التوفيق بين مختلف هذه الأقوال المتبلبلة والأحكام المتشعبة، وإنما نريد توجيه اهتمام الناقدين، وجهود الباحثين إليه، وعرض مختلف المقالات فيه، تاركين - ما أمكن - للقارئ الكريم الحرية في إمازة غثِّها من سمينها

ولد ملتون في (برودستريت) بلندن، وكان والده كاتباً؛ وإذ كان من أهل اليسر والرخاء فقد كان شديد الرغبة في تعليمه تعليماً جامعياً عالياً. ولقد كانت طفولته النادرة تنبئ بما سيكون له من المجد المخبوء في جوف المستقبل، وليس أدل على طموحه وعبقريته وتحفزه للوثوب إلى قمة المجد من تلك المقطوعات الشعرية الجميلة التي نظمها وهو لا يزال بعد في ربيع صباه، تائهاً بكبرياء فتونه

كان ملتون طويل القامة، ساهمَ الوجه، شتيت الثغر، أبلج الحاجبين، ذا عينين نجلاوين، أشم الأنف، سخامي الشعر رجلَه، مليح الفم، معتدل الأعضاء، وكان (كما يروى عنه) بارع الجمال، تعشق منظره العين، وترتاح لحديثه النفس، وهو - إلى جانب ذلك كله، مزهوّ بنفسه معجب بخلقه، ومعتد بذكائه، تشهد بذلك آثاره العديدة، وأساليبه الشعرية المستعصية؛ وما أسلوب الشاعر في قصيدته إلا صورة لطبعه، ومرآة لأخلاقه

مكث ملتون في بيت والده في (هارتون) حتى منتصف العقد الثاني من عمره، حيث عاش تحت كنفه عيشة مترفة رخية، لا ترنق صفوها الأكدار والأحزان، ولا تعبث بهنائها الهموم والأشجان، فشب محباً للحرية، وما من شيء يضع في جذوة نفسه المتوقدة، أو يقل من شباة عزيمته المتحفزة، وإذ ليس من شاغل يشغله بأمور عيشه، فقد كان منصرفاً إلى افتعال الشعر والعبث به، وإلى احتذاء أساليب أفذاذ الشعراء في القريض. وفي عام 1624 أدخله والده مدرسة في كمبردج، فأقبل على الدرس لا يلوي عنه إلا حين يجهده الفكر، فنال بذلك استحسان معلميه ومديح عارفيه، إذ بزّ جميع أقرانه، واشتهر بين سائر لداته بذكائه اللامع، وفطنته المتوقدة. وفي عام 1632 أنهى علومه الجامعية ونال درجة السامية فغادر كمبردج راجعاً إلى بيته في هارتون، حيث أكب على مطالعة الآداب الكلاسيكية مدة خمس سنوات تمكن في خلالها من الإحاطة بجميع ما فيها من رائع النثر وجيد الشعر. أما اللغة الإنكليزية، فقد بلغ اطلاعه عليها حدّ الإحاطة بجميع أوابدها المستعصية. وليس أدل على ذلك من مطالعة ملحمته الشهيرة المعروفة (بالفردوس المفقود) إذ تحتاج في كل صفحة إلى الاستعانة بالمعجم عشرات المرات

وبعد أن قضى في هارتون خمس سنوات في الجد والمطالعة، أخذ يطوف في أنحاء أوربا، ويتنقل بين مدنها العامرة وعواصمها الزاهرة، فتلقحت بذلك عبقريته بعناصر أدبية جديدة، وتجلت مواهبه عن جراثيم شعرية سامية، لطفت من عرام نفسه، وليّنت شيئاً من حرونة طبعه، وزادت في قيمة إنتاجه. ففي عام 1638 ذهب إلى إيطالية، وكانت إذ ذاك كعبة الأدب، ومثابة الفن، وقبلة الشعراء والمتأدبين، يحجون إليها في كل عام ليردوا شرعة آدابها الرائعة، وليروِّحوا عن أنفسهم من عنائها، وذلك بالتمتع بسمائها الصافية، وأشجارها الباسقة، ومناظرها المتناسقة. وقد زار من مدن إيطالية فلورنسة، واجتمع فيها غير مرة بأعظم علمائها وهو غاليلو، ومنها عرج على رومة وهي العاصمة، والمثابة العزيزة لسائر أنواع الفن؛ ثم سار منها إلى نابولي، وهناك قرع سمعه نبأ الحروب الداخلية التي شبت في إنكلترا عن اصطدام حق الملوك الإلهي برغبة الشعب الملحة في الحصول على حقوقهم كاملة غير منقوصة، ولهذا فإنه لم يتم رحلته بل رجع إلى وطنه وهو يقول: إنه لمن المزري بالرجل أن ينشد الراحة في السفر، بينما مواطنوه يجالدون في سبيل حريتهم

ملتون والسياسة

وبرجوع ملتون من رحلته تبتدئ حياته السياسية، وهي دور مليء بالجهود الجبارة والأحداث الخطيرة؛ ولئن كان إذ ذاك مأخوذاً بنزق الشباب وتهور العاطفة إلا أنه أظهر في ميدان السياسة من الحنكة والدهاء والمرونة الدبلوماسية ما لا طاقة على مثله إلا لذوي النبوغ والعبقرية. كان حبل السياسة إذ ذاك مضطرباً بين حق الملوك الإلهي وبين ديمقراطية الشعب؛ وأحياناً بين البروتستنتية المصلحة، والكاثوليكية المبالغة في المحافظة على تقاليدها - ولو بليت - وكان ملتون خصم الملكية اللدود، وعدو البابوية الأزرق، فلا عجب إذا انهال عليهما بكثير من الامتهان والزراية، أو تسقط لهما كل ما من شأنه أن يحط من جلالهما أو ينال من عظمتهما

لقد ناهض الملكية كثيراً، وقاومها مقاومة غماء الجبين، حتى أنه لم يدع سانحة تمر إلا اهتبلها مندداً بعيوبها ومثالبها، شاهراً ظلمها ومساوئها؛ كما ناصر الطهريين كثيراً في تقويض دعائم الكاثوليكية. والطهريون في ثورتهم على الكاثوليكية ومن ورائها الملكية، أشبه ما يكونون في التاريخ العربي بالخوارج في ثورتهم على العلويين أولاً والأمويين ثانياً؛ ووجه الشبه بينهما اختلاط الدين بالسياسة في مبادئهما. وما مبادئ الطهريين التي هبوا متشمرين للنضال السياسي في تحقيقها، إلا صورة من المبادئ الوهابية في جزيرة العرب. ولقد كانت الدعوة الطهرية في بادئ أمرها دينية محضة، أي كدعوة الخوارج إبان خروجهم على عليّ، ولكنها - كمثيلتها - لم تلبث أمام أرستقراطية الملوك أن تنكرت لهم، واصطبغت لمجالدتهم بالصبغة السياسية، فقد ناهض الطهريون الملوك مناهضة عنيفة، وأنكروا عليهم حقهم الإلهي في السيادة والسلطة، وانتزعوا لفظه من أفواههم بعد أن كانوا يتشدقون بمضغه تشدق من يمضغ لقمة دسمة. وما انتصار النظام الدستوري في إنكلترا وانهيار دعائم الملكية إلا رمزاً لانتصار المبادئ الديمقراطية على الأرستقراطية، بل صورة لانتصار الطهريين على جميع منافسيهم، ذلك الانتصار الذي أملى على ملتون ملحمته الشهيرة المعروفة بالفردوس المفقود، وهي صورة حية لما كان عليه الدين إذ ذاك من التبلبل والانقسام، تطلعنا على مدى ما وصل إليه الطهريون في جهادهم لتدعيم أسس حرية الشعب الدينية والسياسية تلك الحرية التي أنجبت أمثال دن، وبنيان، وملتون

ومن كتابات ملتون السياسية رسالته المعروفة: وقد كتبها عام 1649 دفاعاً عن إعدام الملك - ذلك الإعدام الشنيع الذي صوره فيما بعد بصورة ترتعد منها الفرائص وتقشعر لها الأبدان في كراسته المعروفة

وإذ كان ملتون ظهيراً لكرمويل ومساعداً له ضد الملكية الظالمة، فقد عينه هذا بعد تسنمه سدة الحكم بمدة وجيزة - أي عام 1649 - ترجماناً له في قسم السكرتارية اللاتينية، وكان عمله ترجمة جميع الدواوين والرسائل إلى اللغة اللاتينية، إذ كانت اللاتينية إذ ذاك هي اللغة السياسية الوحيدة المتفق عليها بين جميع دول أوربا

(يتبع)

خليل جمعة الطوال