مجلة الرسالة/العدد 227/إلام يسير العالم؟

مجلة الرسالة/العدد 227/إلام يسير العالم؟

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 11 - 1937



طريق الحرب وطريق السلام

بقلم باحث دبلوماسي كبير

إلام يسير العالم؟ هل يوفق إلى التغلب على أزماته واضطراباته الحاضرة أم يسير حتماً إلى حرب جديدة تغمره بالويل؟ هذا سؤال يتردد اليوم على ألسنة جميع الأمم والأفراد؛ ولكن أشد المتفائلين لا يسعه إلا أن يسلم بأن العالم يجوز حالة من القلق والفوضى لا تبعث إلى الطمأنينة والرضى، بل نستطيع أن نقول إن العالم يسير اليوم إلى مستقبل محفوف بالنذر والمخاطر؛ فأينما سرحنا البصر ألقينا الأمم تجيش بالخصومات والمشاكل الداخلية والخارجية وتعاني متاعب العطلة والفاقة والأزمات الطاحنة، وتسودها حالة ظاهرة من القلق والتشاؤم؛ وفي أمم عدة تقوم نظم عنيفة طاغية تضطرم بروح الثورة على كل النظم والمبادئ القائمة، وعلى كل العهود الدولية، وتسحق في الداخل كل الحقوق والحريات العامة وتسلب الفرد كل المزايا والخواص الإنسانية، وتعد الشعوب لمعارك دموية تخوضها في سبيل أحلام ومطامع غامضة من السلطان والسيادة. وفي أكثر من ميدان تضطرم اليوم حروب عنيفة قاسية، تجني شر الجنايات على شعوب آمنة مسالمة، وتحصد أرواح البشر بأروع الأساليب والصور، ولا يجد المضرمون لنارها وازعاً يردهم عن جرائمهم لأنهم لا يؤمنون إلا بالقوة الهمجية وخصومهم ليسوا مثلهم على استعداد للالتجاء إليها

هذه هي صورة العالم اليوم، وهي صورة تحمل على التشاؤم أكثر مما تحمل على التفاؤل، فلم يبلغ العالم منذ الحرب الكبرى ما يبلغه اليوم من الاضطرام والاضطراب والفوضى؛ وكل ما هنالك يدل على أنه يجتاز مقدمات العاصفة كما كان يجوزها في سنتي 1913 - 1914، ولأسباب تشبه في معظمها تلك التي أدت إلى الانفجار في سنة 1914؛ ذلك أن الحرب الكبرى قامت لعاملين أساسيين هما الخصومات العنصرية والمطامع والمنافسات الاستعمارية، وتلك الخصومات والمطامع والمنافسات هي التي تثير اليوم معظم الأزمات الدولية، وإليها يرجع بالأخص ما يعانيه العالم اليوم من أسباب القلق والاضطراب والفوضى؛ فالحرب في الشرق الأقصى بين الصين واليابان، والحرب الأهلية الأسبانية وما يترتب عليهما من أزمات خطيرة تهدد سلام العالم؛ والمنافسة الشائكة بين إيطاليا وإنكلت على سيادة البحر الأبيض المتوسط؛ وما تدعيه إيطاليا وألمانيا كل لنفسها من حقوق استعمارية، وما يحفزهما إلى المبالغة في التسلح والاستعداد للحرب: كل ذلك يرجع إلى شهوة التوسع والاستعمار، وإلى المنافسة الاقتصادية والاستعمارية بين أمم كإيطاليا وألمانيا واليابان ترى أنها حرمت دون حق من نصيبها المشروع في أسلاب الأمم الضعيفة وميادين الاستعمار الشاسعة وبين أمم مثل إنكلترا وفرنسا تتمتع كلتاهما بأملاك استعمارية ضخمة وموارد اقتصادية عظيمة، وتحرص كل الحرص على ما بيدها من هذا التراث الذي ترمقه الأمم الأخرى بعين الحفيظة والجشع، وإلى هذا العامل الاستعماري يرجع أيضاً ما تعانيه الأمم المغلوبة من الآلام والمتاعب المادية والمعنوية؛ فالاضطرابات الدموية التي تجيش بها فلسطين منذ أشهر، والحركات القومية التي تجيش بها تونس والجزائر ومراكش، وما تنزله الأمم الغالبة بهذه الأمم المغلوبة من ضروب القمع المنظم احتفاظاً بسلطانها وسيادتها، إنما هي أيضاً وليدة هذه الشهوة الاستعمارية التي لا تخبو، والتي لا تعرف حقاً ولا عدالة ولا أي اعتبار إنساني

ولقد كان غزو إيطاليا للحبشة إحدى هذه الفورات الاستعمارية البربرية، كما كان غزو اليابان من قبل لولاية منشوريا الصينية، وكما هو اليوم شأنها في الحرب التي تشهرها على الصين دون رأفة ولا هوادة؛ ولم يكن موقف الأمم الأخرى بالأمس إزاء الاعتداء على الحبشة، أو موقفها اليوم إزاء الاعتداء على الصين إلا وجهاً آخر من وجوه المأساة، فهذه الأمم لا تحاول أن تعترض سبيل الأمم المعتدية لأنها تؤمن دونها بالحق وترغب في الذود عنه، ولكن لأنها تخشى أن تظفر الأمم المعتدية دونها بمغانم وأسلاب استعمارية جديدة تزيد في ثروتها وقوتها وخطرها

هذا عن العامل الاستعماري؛ وأما العامل العنصري فيرجع إليه أيضاً قسط كبير في إثارة الخصومات والقلاقل الدولية. ولقد كانت الخصومة السلافية الجرمانية من أهم العوامل التي عاونت إضرام نار الحرب الكبرى؛ أما اليوم فهنالك الدعوة الآرية أو دعوة الأجناس الرفيعة والأجناس المنحطة التي تشهرها ألمانيا الهتلرية في وجه العالم؛ وهنالك الخصومة الآرية اليهودية التي تذكي ضرامها بكل ما وسعت؛ ثم هنالك مشكلة الأقليات القومية التي تتخذ في أوربا الوسطى صوراً حادة تبث الحقد والحقيقة بين الأمم والعناصر المتجاورة، وتنذر بتكدير السلم من آن لآخر

بيد أنه يوجد في المعترك الدولي الحاضر عامل جوهري آخر لم يعرفه العالم قبل الحرب الكبرى؛ وذلك هو الخصومة المضطرمة بين جبهتين مختلفتين من النظم والمبادئ السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ فالنضال بين الفاشيستية والديموقراطية يشغل اليوم فراغاً كبيراً في المعترك الدولي، ويثير أزمات دولية خطيرة تنذر بتقويض صرح السلم بين آونة وأخرى. والفاشيستية تذكي الأحقاد القومية والجنسية بصورة عنيفة تثير أعصاب الأمم المختلفة وتحول دون تفاهمها، وتعمل بكل ما وسعت لتمزيق العهود الدولية، وتدعيم نظرية القوة الغاشمة، وجعل الحرب هي المثل الأعلى للأمم؛ وهي بذلك تحمل أكبر تبعة في خلق الأزمة الدولية الحاضرة، وإثارة القلق الذي يساور جميع الأمم، وتكدير جو السلام، والتمهيد بحركاتها وتهديداتها العسكرية لجر حرب جديدة تبدو نذرها في الأفق حيناً بعد حين

هذه الصورة المضطربة المروعة لأحوال العالم رسمها الرئيس روزفلت في خطابه الذي ألقاه أخيراً في شيكاغو وحمل فيه على (نظم الإرهاب والانتهاك) التي فرضتها بعض الحكومات على العالم منذ بضعة أعوام، وعلى تدخل هذه الحكومات تدخلاً غير مشروع في الشئون الداخلية لبعض الأمم الأخرى؛ وعلى غزو الأراضي الأجنبية انتهاكاً للمعاهدات والعهود الدولية؛ وتساءل الرئيس روزفلت: كيف يقال إننا في أوقات سلم والغواصات تتربص بالسفن الآمنة فتغرقها دون سبب ودون إنذار، والقنابل تلقى على المسالمين الآمنين ومنهم نساء وأطفال أبرياء دون حرب ودون مبرر من أي نوع. هنالك أمم تزعم أنها تطلب الحرية وتقدسها ولكنها تنكرها على الأمم الأخرى؛ وهنالك شعوب بريئة تضحي لتحقيق شهوة سلطان وسيادة لا تبررها أي عدالة أو أي اعتبار إنساني؛ ومع ذلك فإن هؤلاء الذين يلعبون بالنار ويعملون على تكدير السلم لا يبلغون في رأي الرئيس روزفلت أكثر من عشرة في المائة من مجموع شعوب العالم. وأما التسعون في المائة الباقية فهي شعوب ترغب في السلام، وتستطيع بل يجب عليها أن تجد الوسيلة لكي تحقق رغبتها في صون السلام، وأنه يستحيل عندئذ على أية أمة مسالمة أن تلوذ بالعزلة والحياد من حالة الفوضى والاضطراب الدولي التي يخلقها انتهاك الحقوق

وصوت الرئيس روزفلت هو صوت الأمم الديموقراطية؛ والدول التي يعنيها، وهي المنتهكة للحقوق والمعاهدات، المقدمة على تكدير السلم وعلى الفتك بالآمنين والمسالمين، هي الدول الفاشستية والاستعمارية، أو بعبارة أخرى هي ألمانيا وإيطاليا واليابان؛ ولكن الديموقراطية أبدت في الأعوام الأخيرة كثيراً من ضروب الضعف والتردد، وبالغت في التمسك بالألفاظ والوعود، ولم تحاول أن تؤيد كلمتها بوسائل فعالة إزاء العابثين بالحقوق والمنتهكين لحريات الأمم؛ واستطاع هؤلاء بما رأوا من أحجام الدول الديموقراطية وتخاذلها أن يقدموا على تنفيذ مشاريعهم بجرأة لا مثيل لها؛ فقد ذهبت الحبشة ضحية لتهاون الديموقراطية ووعودها الخلابة، واستولت عليها إيطاليا في غمر النار والدم بينما كانت عصبة الأمم والدول الديموقراطية من حولها تردد أنشودة الحق والمعاهدات والعقوبات الاقتصادية؛ وذهبت أسبانيا الجمهورية فريسة الدسائس الفاشستية وما زالت تعاني أكثر من عام أهوال حرب أهلية لم تقصدها، ولم يثر ضرامها ويمدها بالوقود سوى أولئك الذين يرون أن يشقوا إلى أطماعهم طريق النار والدم؛ وهاهي ذي اليابان تتوغل في الصين وتثخن في جنباتها وتفني جيوشها وشعوبها دون إعلان حرب ودون مبرر سوى ما ترمي إليه من تحقيق شهوتها الاستعمارية؛ كل ذلك والدول الديموقراطية تقنع بالاحتجاجات اللفظية وعقد لجان عدم التدخل والمؤتمرات التي لا طائل تحتها

والخلاصة أن الفاشستية المضطرمة تجيش بمشاريعها وتعمل لتحقيق شهوتها في الاستعمار والسيادة غير مكترثة لما تهدد به سلام العالم من الأزمات والأخطار؛ ذلك أنها لا ترى أمامها سوى طريق العنف والدم؛ والديموقراطية من جانبها تلوذ بالأحجام والمطاولة وتؤثر التراجع على الاصطدام الخطر؛ ذلك أنها ترغب عن الحرب وتفتدي سلامها بكل ما وسعت؛ ولكن النضال يصل اليوم إلى ذروته، ولابد أن تضطر الديموقراطية عاجلاً إلى العمل إذا لم ترد أن تفلت القيادة من يدها وتغدو تحت رحمة الفاشستية المتوثبة. فماذا يكون مصير السلام يومئذ؟ وهل يؤدي الاصطدام إلى الانفجار الخطر، أم تستطيع الديموقراطية بما تملك من وسائل الضغط المادي والمعنوي أن تقف هذا التيار المتوثب في الوقت المناسب فتنقذ بذلك سلامها وسلام العالم؟ يقول لنا العلامة فيريرو، وهو من ثقات التاريخ والسياسة: إن ما تعانيه أوربا الآن من الاضطراب والفوضى يشبه ما عانته منهما على أثر عقد معاهدة فينا عقب سقوط نابوليون؛ ومعاهدة فرساي تشبه معاهدة فينا في فساد الأسس والمبادئ التي قامت عليها؛ وإن الأزمات والأخطار العسكرية التي تواجهها أوربا ترجع إلى ما يسميه فيريرو (باستعمار الخوف)؛ فإن إيطاليا واليابان تنحدر كل منهما من مغامرة إلى أخرى للاحتفاظ بما كسبته من الأراضي من طريق غير مشروع على نحو ما كان يفعل نابوليون عقب كل انتصار من الاندفاع في مغامرة جديدة للاحتفاظ بثمرة انتصاره. ويرى فيريرو أن ألمانيا التي استطاعت حتى الآن أن تجتنب هذه المغامرات يمكن أن تعد عاملاً جوهرياً في تأييد السلم إذا رأت أن تجانب هذا التيار المتوثب وأن تضع يدها في يد الديموقراطية الغربية؛ أما إذا اندفعت ألمانيا في هذا التيار فويل للسلام عندئذ. هذا ما يراه العلامة فيريرو، ونحن معه في أن الخطر على السلام إنما يرجع بالأخص إلى نزعات الفاشستية ومطامعها الاستعمارية، وأن مستقبل السلام منوط بموقف الديموقراطية، فإذا هي يئست من الحلول والوسائل السلمية، واستطاعت عندئذ أن تعتزم أمرها، وأن تقابل الوعيد بالوعيد والضغط بمثله تؤيده استعداداتها ومواردها الضخمة، فإن تيار الفاشستية لا يلبث أن ينكشف ويخبو. وفي رأينا أن الساعة قد حلت لأن تسلك الديموقراطية هذا المسلك؛ وفي يقيننا أنها فاعلة بلا ريب.

(* * *)