مجلة الرسالة/العدد 227/التشريع والقضاء في العهد الفرعوني

مجلة الرسالة/العدد 227/التشريع والقضاء في العهد الفرعوني

مجلة الرسالة - العدد 227
التشريع والقضاء في العهد الفرعوني
ملاحظات: بتاريخ: 08 - 11 - 1937



للأستاذ عطية مصطفى مشرفة

- 3 -

كان يفصل في القضاءين المدني والجنائي حتى القرن الثالث عشر ق. م بمصر هيئة واحدة؛ وفي عهد الأسرة التاسعة عشرة وهي من الرمامسة فصل القضاء المدني من القضاء الجنائي وأصبح لكل منهما محكمة خاصة به في الإقليم. وكان يرأس المحكمة المدنية في طيبة رئيس كهنة (آمن) ويجلس معه عشرة من الكهنة، أما المحاكم الجنائية فكان يرأسها (دجا) أي ممثل السلطة التنفيذية في الإقليم ورئيسه، وكان يساعده موظفان كبيران هما بمثابة محلفين، ونائب الملك (نم) الذي كان يمثل النيابة. أما الدعوى المختلطة أي التي تجمع بين طرفين أحدهما مدني والآخر جنائي فكانت المحكمة الجنائية تنظرها مضافاً إليها ثلاثة قضاة مدنيين يكونون في الأكثر من رجال الدين. وعندما تدخل الكهنة في القضاء في القرن الحادي عشر ق. م في عهد الأسرة العشرين زاد نفوذ الإله آمن فاستفتي في المسائل الجنائية ثم عظم نفوذه بمضي الزمن حتى أصبحت فتاوى آمن في خلال حكم الأسرة الحادية والعشرين أحكاماً نافذة في جميع الأقضية التي تعرض عليه جنائية أو مدنية أو تجارية أو إدارية؛ فكان يعرض عليه المتهمون ليفصل في قضاياهم بالوحي المنزل من عنده، وكان يدير الإجراءات بحضرته رئيس الكهنة فيقدم كتابين أحدهما يثبت البراءة والثاني يقرر الإدانة، فإذا وضع الإله إصبعه على الأول بريء المتهم، وإذا وضع الإله إصبعه على الثاني أدين. وأحياناً يحضر المتهم أمام تمثال آمن ثم يذكر رئيس الكهنة الوقائع أمام التمثال عندما ينتهي من ذكر تلك الوقائع يسأل رئيس الكهنة الوثن إن كان المتهم مجرماً أو بريئاً، فإذا هز الإله رأسه بالنفي برئ المتهم، وإن هز الإله رأسه بالإيجاب اعتبر المتهم مجرماً

قال الأستاذ ارون بيفن في كتابه (البطالسة) عن آمن: (وكان الوثن ككل أوثان التنبؤ مجبولاً بحيث يحدث عدداً محدوداً من الإشارات، فيحرك رأسه أو يلوح بذراعيه أو يشير بيديه؛ وكان يعهد إلى كاهن أن يشد الحبل الذي يحرك الوثن ثم ينطق بالنبوءة؛ وكان الجميع يعرفونه معرفة تامة، ولكن لم يدر بخلد أحد أن يتهمه بالغش أو يرميه بالخداع فإ كان عندهم الأداة التي يستخدمها الإله وبالأحرى آلة سيره، وكان الروح يلبسه في برهة خاصة، والروح هو الذي يحرك الصنم ويحرك شفتي الكاهن بما يريد؛ فالكاهن يعير يديه وصوته، ولكن الإله هو الذي يقدر أعماله ويوحي إليه بما يخرج من كلمات) وإذا كان المتهم غير معروف على وجه التحديد عرض المتهمون جميعاً على تمثال آمن الذي يشير بيده إلى المتهم منهم، أو يقول عنه مثلاً (هذا هو السارق). فإذا أنكر المتهم ما اتهمه به آمن أعاد آمن اتهامه، فإذا صمم على الإنكار بعد ذلك سيق إلى السجن وهناك يلقى من العذاب ما يجعله يقر بجرمه، إذ لا يمكن نسبة الكذب إلى الإله آمن. وعند اعترافه بأنه مذنب يساق مرة أخرى إلى آمن الذي يسمع اعترافه ويصادق عليه، وعندئذ يقدم المتهم للمحكمة الجنائية التي تحكم عليه بالعقوبة نتيجة لهذا الاعتراف. غير أن نفوذ الإله آمن قد ضعف في عهد الأسرتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين وهما من اللوبيين وأصبح الرجوع لفتاواه شكلياً بحتاً، ثم استرد بعض نفوذه بين سنتي 721 و 718 ق. م

ولما تبوأ الملك بوخوريس مؤسس الأسرة الرابعة والعشرين عرش مصر أزال التدخل الديني وأعطى للقضاء صبغته المدنية السابقة؛ غير أن استيلاء الأثيوبيين على مصر وانتمائهم لآمن أعاد له سلطته القضائية السابقة ولكنها ضعفت في عهد الملك أمازيس (أحمس الثاني) أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين، وبذلك قضى على سلطة آمن قضاء مطلقاً، وأعاد للقضاء صبغته المدنية التي كان عليها زمن الملك بوخوريس فأعاد أمازيس المحاكم الجنائية والمدنية وفق نظام رمسيس الثاني (رمسيس الأكبر) أي إلى ما كانت عليه المحاكم في القرن الثالث عشر ق. م وبذلك أعيد الاختصاص في المواد الجنائية إلى محكمة دجا وفي المواد المدنية إلى محكمة القضاة الكهنة كما كان متبعاً من قبل. ولم يحرم أمازيس الكهنة من الفصل في القضايا المدنية لسببين: أولهما أن القضايا المدنية تتطلب علماً ومعرفة بالقانون، والثاني أن هذا العلم وتلك المعرفة لم يتوفرا إلا لرجال الدين إذ ذاك، ولكن أمازيس ألغى طريقة الفصل في القضايا بواسطة الوحي الديني، أما القضاء الجنائي فنظراً لبساطته وسهولته بقي الفصل في أموره للملك إما بنفسه وإما بقضاة يعينهم

ولقد فصل قدماء المصريين بين وظيفة القضاء ووظيفة الاتهام إذ ظهر منذ الأسرة الثانية عشرة وظيفة لسان الملك وكان شاغلها بمثابة النائب العام في زماننا؛ وكانت مهمته أن يباشر التحقيق وأن يقيم الدعوة العامة وأن يأمر بالقبض إن وجد لذلك مسوغاً. وكانت له بجانب وظيفته القضائية هذه اختصاصات أخرى مالية وإدارية. وقد أمكننا أن نعرف وظائفه على وجه التحديد في عهد الرمامسة أي في عهد الأسرة التاسعة عشرة. وكانوا يسمونه تارة (لسان الملك) وأخرى (فم الملك) وثالثة (نِمْ) وكما أن للنائب العام في زماننا وكلاء يباشرون الدعوى نيابة عنه في الجهات الأخرى المختلفة كذلك كان (للسان الملك) وكلاء يسمون دِنُو في الأقاليم وكانوا يباشرون الدعوى العامة أمام محاكم الأقاليم الجنائية، وكان عضو النيابة يدخل في صميم تشكيل المحكمة الجنائية عادية كانت أم غير عادية. وكان يثابر على حضور الجلسات، وكان يذكر اسمه عقب القضاة وقبل الكتبة في محاضرهم؛ وكان قدماء المصريين يعترفون للمؤسسات الدينية بالشخصية المعنوية وبذلك سمحوا لها بالتقاضي أمام المحاكم. وكان للمحكوم له أن يحجز على أموال المحكوم عليه. وكان للأفراد حق رفع الجنحة المباشرة إلى المحكمة إذا لم تقم النيابة العمومية أي (لسان الملك) ووكلاؤه برفع دعاويهم

ووجد بكل محكمة قلم لتلقي العرائض وآخر للمحفوظات تحفظ به سجلات الأحكام، وكانت محاضر جلسات المحاكم الجنائية العادية مكتوبة ومطولة تشمل كل التحقيقات من أسئلة وأجوبة واستجوابات وشهادة شهود إلى غير ذلك، وكان يقوم بتدوينها كتبة يدخلون في تشكيل المحكمة

وقد فطن قدماء المصريين إلى ما في المرافعات الشفهية من ضرر قد يصيب العدل في صميمه نتيجة لتأثر القضاة بفصاحة اللسان فمنعوها وجعلوا معظم الإجراءات مكتوبة؛ وكان للمحكمة أن تنتدب الخبراء لمعاينة مكان الحادث أو لإجراء الكشف الطبي على المجني عليهم وفحص المتهمين

وقد أشفق قدماء المصريين على قضاتهم من فصاحة المحامي وحسن دفاعه وسحر بيانه وما قد يؤدي إليه ذلك أحياناً من الإغضاء عن الحق والقانون فلم يقروا نظام المحامين عن الخصوم أمام المحاكم واعتقدوا أنه قد يكون في بلاغتهم وفصاحة لسانهم وحسن منطقهم ما يغشي على الحقيقة فيتأثر القضاة بهم لما في البيان من السحر. وكانت الطلبات تعرض في مذكرات، ولكل من طرفي الخصوم الحق في الرد عليها كتابة، فيشرح المدعي دعواه بالتفصيل في عريضة دعواه ويرفق بها كل مستنداته ثم تعرض تلك العريضة على المدعى عليه ليطلع عليها ويرد عليها بمذكرة مكتوبة معترفاً أو منكراً بعض أو كل ما جاء فيها، ثم تترك الفرصة مرة أخرى للمدعي للرد على ما جاء بمذكرة المدعى عليه ويترك لهذا الأخير فرصة الرد الأخير على المدعي بمذكرة ثانية فكان المدعى عليه هو آخر من يقرأ له القاضي وكان يحصل هذا التبادل في المذكرات قبل الجلسة. ولا تصدر المحكمة حكمها إلا بعد الإطلاع على المستندات المقدمة من طرفي الخصوم ونظر جميع الأوراق المختصة بالدعوى وتمام المداولة واستشارة قوانين الدولة. وكان التأني في إصدار الحكم من أهم صفات القضاة حتى لا تجرهم العجلة إلى السقوط في مهاوي الخطأ. وكانت جلسات المحاكم تعقد علانية ويؤدي الشهود يميناً قبل أداء شهادتهم أمام المحكمة في الدعاوى الجنائية والمدنية. أما صيغة اليمين فهي (أقسم بآمُن وبالملك أن أقرر الحقيقة ولا أقول كذباً؛ فلئن كذبت فلتجدعن أنفي ولتصلمن أذني ولأنفين إلى إتيوبيا أو إلى خارج الحدود) ووجدت السجلات العقارية التي كانت تسترشد بها المحاكم إذا فصلت في نزاع عقاري فإذا شعرت المحكمة بأن المستندات المقدمة من الخصوم والمثبتة للملكية غير كافية لإثبات الحق أمرت بإجراء تحقيق تكميلي تسد به هذا النقص ثم تصدر حكمها مشتملا على خلاصة أقوال الطرفين في النزاع والأسباب ونص الحكم. أما المحكمة الخاصة التي كانت تنظر في القضاء الجنائي غير العادي فكانت تصدر حكمها بغير إعلان الأسباب. وكانت التحقيقات فيها سرية ومحاضرها موجزة. وكانت فكرة العقاب عند قدماء المصريين لا تنطوي على الانتقام الشخصي وكانوا يعتقدون أن حق معاقبة المجرم وتنفيذ العقوبة فيه مفوض إليهم من القوة الإلهية. وقد عرف قدماء المصريين الحبس الاحتياطي وصرحت به قوانينهم

بعض نماذج من التشريعات المصرية المدنية والجنائية في

قوانينهم

قلنا إن ديودورس الصقلي امتدح القوانين المصرية، وقال إنها جديرة بالإعجاب وإن العالم أعجب بها فعلاً. ويؤسفنا أن نقول أن هذه القوانين التي بهرت العالم برقيها والتي غذته بمبادئها ما زالت دراستها مهملة في بلادنا. وإنه ليعز علينا أن نعترف بأنه على الرغم من أهميتها التاريخية والفنية لم نعثر في بحثنا إلا على بعض المصادر الأوروبية والعربية التي بحثت فيها. جمع (تحوت) إله القانون القوانين المختلفة بعد أن وضعها لقدماء المصريين، وكان ذلك في سنة 4241ق. م؛ إلا أن هذه القوانين قد بعثرت وشتت أغلبها بعد ذلك، ولم يتمكن من جمعها إلا الملك بوخوريس الذي عدلها وأفرغها في مجموعة واحدة نظم بها الأحوال الشخصية والمعاملات المدنية. كانت التعهدات على اختلاف أنواعها قبل الملك بوخوريس تحصل مشافهة إذ لم تكن كافة العقود تحصل بالكتابة وإنما كانت تتم بيمين أو (صنك) يصدر من المتعهد للمتعهد له بأنه سيؤدي إليه ما اتفقا عليه، ثم أطلق لفظ (صنك) بعد ذلك على العقد نفسه. ونحن نرجح بأن لفظ (سند) هي بعينها (صنك) المصرية القديمة. وكان يشترط حضور عدد من الشهود ذكوراً كانوا أم إناثا حتى يمكن إثبات العقد. ولم يكن من الجائز تعدد أحد طرفي العقد عندهم فإذا تعدد اعتبروا شخصاً واحداً، ويقولون (تكلم فلان وفلان بفم واحد أو بلسان واحد) وكان لا يترتب على العقد الالتزام من طرف واحد؛ وكان إذا تخلف المتعهد عن الوفاء بما التزم به أكره على الأداء بالعقاب البدني مع الحكم عليه بغرامة تعادل نصف قيمة الحق المدعى به؛ ولم يكن التقادم معروفاً في القانون المصري القديم قبل عهد الملك بوخوريس

قلنا إن الأصل في العقود ولاسيما البيع وهو من أهمها أن لا يكون البائع والمشتري أكثر من واحد، لأن تعدد طرفي العقد لم يعترف به قانونهم فكان إذا تعدد البائعون اعتبروا متضامنين فيما بينهم، وإذا تعدد المشترون وكانوا من عائلة واحدة صار أرشدهم وكيلاً عنهم. وكان يترتب على البيع المنعقد باليمين أمام الشهود أن يلتزم البائع بتعهدين أولهما تسليم سندات الملكية وثانيهما منع كل تعرض للمشتري. واشترطوا ذكر هذين التعهدين صراحة في العقد بادئ ذي بدء ثم عدلوا عن ذكرهما صراحة في العقد عندما كثر استعمالهما وأصبحا يفهمان ضمناً في العقد. وقسم القانون المصري القديم الأموال إلى منقولة وثابتة، وقسم الأموال المنقولة إلى جامدة وحية. وكانت تلك الأموال بجميع أقسامها السالفة الذكر ملكاً لملك مصر يمنحها لمن يشاء؛ وقد احتفظ الملك في الأموال الثابتة بحق الرقبة وأعطى حق الاستغلال لمن يشاء من رعيته (يتبع)

عطية مصطفى مشرفة