مجلة الرسالة/العدد 228/التشريع والقضاء

مجلة الرسالة/العدد 228/التشريع والقضاء

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 11 - 1937



في العهد الفرعوني

للأستاذ عطية مصطفى مشرفة

- 4 -

أما الزواج عندهم فكن نوعين: زواج مدني تكتسب فيه الزوجة بالشراء، وكان شبيهه في روما الزواج المعروف باسم الذي كان خاصاً بالعامة؛ وزواج ديني يعقد على يد أحد الكهنة، وكان يقابله عند الرومان الذي كان قاصراً على الأشراف. وكان المتبع أن يحصل الزواج المدني قبل الزواج الديني الذي يقوم بعقده أحد رجال الدين؛ فكان الزواج بذلك يتم أولا على حسب الأصول القانونية المدنية بطريق الشراء ثم يحصل الزواج الديني بعد ذلك

وكان ينص في عقد الزواج على العلاقة المالية بين الزوجين؛ وكان هذا الاتفاق المكتوب في صلب عقد الزواج لا يخرج عن طريق من ثلاث: أولها أن يفصل مال الزوجة عن مال الزوج، وفي هذه الحالة يكون للزوجة أن تتصرف في مالها دون إجازة زوجها. ثانيهما أن يخصص بعض أو كل أموال الزوجة لمساعدة الزوج للقيام بالإنفاق على الأسرة، وفي هذه الحالة يجب على الزوج ردها بعينها إذا كانت عقاراً أو ردها بقيمها المبينة في صلب عقد الزواج إذا كانت منقولا. وثالثها أن يشترك الزوجان في بعض الأموال أو كلها. وسمح القانون للزوجة بأن تشترط في عقد الزواج أيضاً أن يدفع لها الزوج مبلغاً معينا كغرامة ونفقة لها إذا طلقها الزوج فأعطى لها حق الرهن العام على جميع أموال زوجها ضماناً لما يكون لها من الحقوق عليه. فلما جاء بوخوريس في القرن الثامن قبل الميلاد وضع القوانين التي تعتبر بحق أًصل التشريع الحديث وأعطاه صبغة مدنية بعد أن كانت ذات صبغة دينية. ولقد تأثر بوخوريس عند وضعه شرائعه بقوانين حلفائه الآشوريين والكلدانيين فأخذ عن الكلدانيين مبدأ التعاقد بالكتابة، فبعد أن كان العقد يتم عند قدماء المصريين قبل بوخوريس بقسم وبحضور شهود أصبح لا يجوز إثبات حق مدعي به إذا أنكره المدين إلا إذا ثبت بدليل كتابي، وبذلك أصبح زوال الدين مرهوناً بإعطاء سنده. ثم أوجب تسجيل العقود عند كاتب التسجيل في سجلات مخصوصة نظير رسم معين فأصبح من السهل على أي شخص إثبات صحة سنده

أخذ بوخوريس أيضاً عن الكلدانيين المشتغلين بالتجارة نظام الفوائد فحددها وحرم أن تزيد الفائدة السنوية على ثلث رأس المال، كما حرم أيضاً زيادة الفائدة على ضعف أصل الدين مهما طالت المدة. وحرم بوخوريس الربح المركب، وحرم إكراه المدين الجثماني، وأبطل استرقاق المدين عند عدم الوفاء، وجعل التنفيذ قاصراً على أموال المدين دون شخصه

أما في الأموال فقد اعترف بوخوريس بالملكية العقارية للأفراد بعد أن كان لهم فقط حق الاستغلال دون حق الرقبة؛ وبذلك أباح بتشريعه هذا حق التصرف في الأراضي بعقود عرفية، وبذلك أصبحت تلك الأراضي ضامنة لتعهدات الأشخاص عند عدم وفاء الدين بعد أن كان ضمان الدائن قبل ذلك جثة والد المدين؛ وكان إذا لم يقم المدين بوفاء دينه قبل موته يحرم من ميزة الدفن وحفلاته

أما في الإيجار فقد رتب بوخوريس على عقده أن تصبح جميع أموال المستأجر مرهونة رهناً عاماً لوفاء الأجر المتفق عليه. وألغى بوخوريس الزواج الديني الذي كان يتم على يد الكاهن وأصبح الزواج مدنياً، واكتفى بالرضا فيه ليتم كباقي العقود. وكان للذكر مثل حظ الأنثى في الميراث. وكان لا يجوز للرجل أن يتزوج بأكثر من زوجة. وجعل بوخوريس حق الرهن العام الذي للزوجة على أموال زوجها يتم بقوة القانون دون حاجة للنص عليه في صلب عقد الزواج كما كان متبعاً قبل ذلك

من ذلك نعلم أن اصطلاحات بوخوريس التشريعية شملت الأموال والأحوال الشخصية والالتزامات، وبذلك أوجد للمصريين قانوناً عادلاً للتجارة والمعاملة. ويؤسفنا أن نقول: إن هذه الاصطلاحات التشريعية التي قام بها هذا الملك لم تبق طويلاً لأنه فقد عرشه بعد نحو سبع سنوات فاستولى الأثيوبيون على مصر وأسسوا بها الأسرة الخامسة بعد العشرين. وكان أول عمل لهم أن أبطلوا العمل بشرائع بوخوريس وألغوا الملكية الفردية العقارية ومنحوها للإله آمن؛ وبذا اقتصرت ملكية الأفراد على حق الاستغلال دون الرقبة، وسمح لهم بأن يتصرفوا داخل دائرة أسرتهم فقط وبعد موافقة كهنة آمن لهذا التصرف في مقايضة أرض بأرض. ولما ظهر الملك أمازيس أو أحمس الثاني - وهو من ملوك الأسرة السادسة بعد العشرين - حتم على كل مصري أن يثبت في آخر كل سنة اسمه ولقبه وصناعته وسبل تعيشه في سجل وضع خصيصاً لهذا الأمر في محكمة الجهة القاطن بها؛ وهذا النظام المبني على تقسيم العمل وارتباط المصري بمكان نشأته كان سبباً في تماسك أفراد الأمة ورقيها اجتماعياً واقتصادياً وصناعياً. وكان عاملاً قوياً في توزيع الفلاحين على الأراضي الزراعية

تأثرت شريعة أمازيس بالشريعة الإسرائيلية بعض الشيء فأخذت جزءاً كبيراً من مبادئها عن اليهود الماليين الذين كانوا مقيمين بمصر إذ ذاك

أرجع أمازيس العمل بقانون بوخوريس فأباح لأصحاب الأراضي حق التصرف التام في أراضيهم بأن أعطاهم حق ملكيتها التامة ثم أرجع مبدأ ثبوت العقود بالكتابة واحتفظ بحد الفوائد القانونية التي قررها تشريع بوخوريس، وجعل الالتزام بعقد ملزم لطرف واحد، وأدخل طريقة الإشهاد في الميزان في سائر العقود الناقلة للملكية وفيها البيع، فكانت تطبق على المنقولات الجامدة، المراد نقل ملكيتها، وعلى المنقولات الحية كالحيوانات والعبيد كما طبقت على العقارات لصبغة شكلية كما كانت تطبق أيضاً في التبني، وكان يجب لإتمام العقد من وجود ميزان وقطعة من النحاس والعين المراد نقل ملكيتها، فيحضر طرفا العقد والشهود، وهنا يمسك المشتري بالعين المراد نقل ملكيتها مقرراً أنه اشتراها بالثمن المقدر بالميزان، ثم يضرب الميزان بقطعة النحاس مشيراً بذلك إلى وزن الثمن. لذلك كان الميزان يستخدم لغرضين: أولهما وزن العين، وثانيهما وزن الثمن؛ وكان يحرر بهذه الإجراءات عقد كتابي

وكان يطبق في الزواج إجراءات الإشهاد بالميزان؛ وكان الزواج يتم بطريق الشراء، إلا أن الزواج الديني لم يلغ بتولي أمازيس، إذ ركن إليه نفر من المصريين المتعبدين. وبذلك بقى الزواج الديني أيضاً بجانب الزواج المدني في حكم أمازيس ردحاً من الزمن

ولقد فقدت الزوجة المركز الممتاز الذي كان لها في القانون القديم وقانون بوخوريس إذ أصبحت في قانون أمازيس هي وأموالها ملكا للزوج تحت تأثير الشريعة اليهودية. من هذا نرى أن أمازيس قد هذب القوانين المصرية وأفرغها بعد أن نقح قوانين بوخوريس في مجموعة سميت بمجموعة قوانين أمازيس سنة 554 ق. م

وفي عهد الأسرة الثامنة بعد العشرين تولى الملك أمرنوت أو أمرنوس أو نفيريت واستمر فيه حتى سنة 399 ق. م فأمر بتشكيل لجنة لتعديل مجموعة شرائع بوخوريس وتنقيحها فأدخلت اللجنة عليها التعديلات الآتية: وهي أن جعلت سريان الفوائد تبتدئ من يوم حلول ميعاد الدفع، واعترفت بعقد الرهن (الغاروقة) الذي فيه يعطي المدين عقاره للدائن يستغله وينتفع به لنفسه لحين تمام وفاء الدين. وقد استمر العمل بهذه المجموعة المعدلة بمصر أثناء المدة الباقية من العهد الفرعوني. أما قوانين قدماء المصريين الجنائية فقد صاغوها في مواد كفلت لهم استتاب الأمن واطمئنان الشعب وقطع دابر البطالة ومنع الغش والتدليس إلى غير ذلك؛ وذلك بالضرب على أيدي المفسدين ومعاقبة المجرمين بالعقاب الرادع الزاجر، فكانوا يحكمون بالإعدام بقطع الرأس أو بالشنق على كل من يحلف يميناً كاذبة أمام المحاكم، وعلى كل من يقتل نفساً عمداً بغير حق مع سبق الإصرار سواء أكان المجني عليه حراً أم عبداً، وعلى كل من رأى إنساناً يشرف على الهلاك وكان في مقدوره أن ينجيه ولم يفعل، وعلى كل من قدر على تخليص المقتول من القاتل أو القتلة بدون حق ولم يخلصه، وعلى كل من ظهر أنه يعيش بطريق غير شرعي

وكان يحكم بالعذاب ثم بالحرق حياً على كل من يقتل أحد أبويه عمداً، فتقطع أصابعه أولا ثم يحرق. وكان الحكم لا ينفذ على الحبلى حتى تضع حملها لئلا يعاقب الطفل البريء، وبذلك سنوا لنا حكمة أن العقاب قاصر على المجرم لا يتعداه إلى غيره

وكانوا يبيحون إقامة الحدود على الأموات كما تقام على الأحياء فيمنعون من أتى جرماً ومات قبل تنفيذ الحكم عليه من الدفن مع الاحترام

وكانوا يحكمون بالجلد على كل من سب غيره أو وشى به. وكان جزاء الآباء والأمهات الذين يقتلون أولادهم ذكوراً كانوا أم إناثاً معانقة الجثة والبقاء بجانبها ثلاثة أيام بلياليها تحت رقابة الحراس العموميين

وكانوا يحكمون بسل لسان من يهدي عدواً مهاجماً إلى السبل أو يطلعه على أسرار وطنه ومواضع الضعف فيه. وكانوا يقطعون يد من يطفف الميزان والكيل، أو من يزيف النقود، أو يقلد خاتم الأهالي والسلطان، أو يزور في العقود العرفية أو الأوراق الرسمية. وكانوا يقصرون العقوبة على العضو الذي قام بعمل الجريمة

وكان يشَهَّر على رؤوس الأشهاد بكل ولد لم يقم بالإنفاق على أبويه العاجزين عن الكسب، وليس للولد على الوالدين مثل ذلك. ويحكم بالتشهير أيضاً على كل جندي فر يوم الزحف أمام العدو، وعلى كل من لا ينفذ أوامر رؤسائه. وكان لمن حكم بتجريده من شرفه وفضيحته أن يسترد شرفه واعتباره، وبذلك تنمحي العقوبة نهائياً إذا قام بأعمال مجيدة بعد ذلك لوطنه في ميدان القتال

وكان عقوبة كل من به عاهة تمنعه من إنقاذ شخص قتله آخرون أمامه ولم يبلغ الجهات المختصة عن الجريمة ومرتكبيها منع الطعام عنه ثلاثة أيام وجلده. وكان يحكم بهاتين العقوبتين معاً أيضاً على كل من كلف بالإرشاد عن قطاع الطرق وتسليمهم للمحكمة ولم يفعل ذلك. وكان يحكم على المدعي بالباطل على غيره بنفس الحكم الذي يحكم به على المتهم لو صحت الجريمة. وكان يحكم على كل من حلف من المتهمين أو الشهود بالإله آمن وبالملك بأن يقول الصدق ولم يقله بجدع الأنف وصلْم الأذنين وبالنفي في أثيوبيا أو إلى ما وراء حدود المملكة

وكان لآمُنْ أن يحكم بفقدان الشرف وما يترتب عليه الحرمان من الوظائف العامة

(تم البحث)

عطية مصطفى مشرفة