مجلة الرسالة/العدد 228/فلسفة التربية

مجلة الرسالة/العدد 228/فلسفة التربية

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 11 - 1937



كما يراها فلاسفة الغرب

للأستاذ محمد حسن ظاظا

(نريد أن ننتهي إلى تقدير واف لمعنى التربية التي تضعنا في مركز نفهم فيه الكون ونكشف الدور الذي علينا فيه أن نلعبه، كيما نتبين كيف أنه يجب علينا، وكيف يمكننا أن نقوم بهذا الدور بكل ما نستطيع)

هكذا يقول الأستاذ في كتابه محاولاً أن يلتمس في الفلسفة تفسيراً أو تقويماً لعملية التربية. ذلك أنا سنسأل ما قيمة التربية في الحياة؟ وما قدر عمر المرء بالقياس إلى الأعمار الجيولوجية السحيقة الهائلة؟ وأي ربح يربحه الإنسان من عمله تحت الشمس؟ جيل يعيش وجيل يموت، والأرض باقية فما جدوى ذلك كله؟ لم يجب أن نعيش؟؟ لم نُلزم بالبقاء في عالم لم نسأل عنه قبل مجيئنا إليه ولا نملك فيه حتى حق الموت؟؟! وما هي الصلة بين مركزنا في الحياة وواجبات هذا المركز؟؟

أولئك جميعاً مسائل عسيرة عتيدة يضج منها الجمهور لأنه لا يستطيع الخوض فيها بحكم عقله الذي لا ينحو نحواً كلياً يفسر به الظروف الجزئية ويسمو عليها. لذلك تراه يقول حسبنا أننا نعيش ما دام الواقع أننا نعيش!! وحسبنا أننا نتعلم ونتربى مادام الواقع أننا كذلك؟!! ولكن الفلسفة لا ترضى منه بهذه القناعة ولا تفتأ تقول له: إياك أن تغفل سؤال (لِمَ تعيش)؟ لا لشيء إلا لأنك تعيش!! ذلك أنك تتقدم من غير شك إذا ما سلطت النقد على حياتك ونظرت قبل القفز ثم بعده!! يقول الأستاذ برادلي في أصول المنطق جـ2 ص721 (إن ديانة العمل من أجل العمل فحسب، أو إن كل شيء من أجل العمل، تنتهي حتماً إلى نتيجة مهدومة في العمل نفسه)

وهكذا تقول الفلسفة للجمهور (قصدك الأساسي هو العمل، أما أنا فقصدي النظر؛ ولكن النظر مع ذلك يسير إلى جانب العمل. أنا أغوص، والعمل يستفيد من غوصي، لأنه بي - وبي وحدي - يستطيع أن يفهم لِمَ يعمل ما يعمل). ذلك أن الفلسفة لا تضرب في الهواء ولكنها تحاول أن تحدد الأشياء بحدودها المنطقية معطية إياها نهاياتها الميثافيزيقية؛ وأن العمل نفسه يصير فلسفة إذا ما نقد نفسه. لذلك لا غرو أن قالوا إن العمل الصحيح هو ذلك الذي يشعر بنفسه!!

سيقول العمل - وهو لابد قائل - (ولكن ذلك يضايق!!) وستقول الفلسفة (إنه حقاً يضايق ولكنه بعد ضروري لأن التقدم لم يضر نفسه إلا عن طريق الغرور! لذلك لابد من هاتيك الأسئلة السقراطية الحصيفة العميقة كيما نأمن مغبة الغرور!!)

وهنا سيعجب (العمل) من قول الفلسفة، وسيبسم فتضحك (الفلسفة) وتقول له: (حسناً لقد اقتربنا! إنك قد بدأت تعجب والتعجب أول خطواتي!! وإذن فكْن معي كما يقول المثل الصيني (كل رغيفاً واشتر بالآخر زهرة!!) وتذكر دائماً أنك تكون إياي حينما تنعكس على نفسك فتختبر حقائقها وترتبها وتبوبها وتجعلها منطقية معقولة!!)

وإذن فليست فلسفة التربية أداة لفهمها فحسب؛ وإنما هي أيضاً أداة لنقدها وإصلاحها. وللفلسفة عدة صور أهمها الميثافيزيقا التي تعطينا فكرة جامعة عن الكون. ونحن في التربية إزاء كائنات راقية هي أفراد الإنسان. وعلم النفس لا يكفي قط لفهم هذه الكائنات بجميع علائقها، وإذاً فلابد من ذلك (التقدير الوافي) الذي تقدمه الفلسفة!! فترى ماذا عسى أن يكون ذلك التقدير؟؟

تبحث الفلسفة كما قدمنا في (الكليات)، وترى (الكل) ممثلاً في الجزء كما نرى الحيوان المنقرض في هيكله العظمي، والإنسان جزء من الكون. وكل أجزاء الكون ترتبط وتندمج في وحدته الكلية. والتربية من أهم تجارب الإنسان إن لم تكن أهمها جميعاً. وسؤال الفلسفة هنا هو ماذا تقوم عليه التربية من أصول، وما قيمة هذه الأصول؟؟ ذلك أن التربية أسلوب زمني يعمل لإعداد الفرد كيما يحقق نوعه بإخراج ملكاته من القوة إلى الفعل، والارتفاع به من الواقع إلى المثل الأعلى؛ ولما كانت أغلب تجارب الإنسان تقع في حيز الزمن؛ ولما كان الزمن يقص علينا قصة المجهول على لسان التطور الذي ما فتئ يعمل في الكون منذ السديم الأول إلى اليوم؛ ولما كانت التربية هي تطور في الفرد مع شعور بهذا التطور؛ ولما كانت سلسلة التطور تمتد في مجرى الزمن وتمتد حتى المطلق - أقول لما كان كل ذلك - فيما يلوح - حقاً، فإنه يرجح لدى الأستاذ هرن صاحب كتاب (فلسفة التربية) أن قصة الإنسان تتطور نحو الكمال، وأن التربية هي وسيلة ذلك التطور. وإذا صح ما يقوله (هيجل) من أن تجارب الإنسان الزمنية ليست إلا مظهراً (للدائم الخالد)، صح أن التربية من أهم هذه التجارب. .!!

وتعترف الفلسفة بالعقل البشري كآخر منحة للجسم العضوي في تطوره؛ وكوسيلة للخروج من اللاشعور إلى الشعور؛ ولذلك نراها تضع يدها عليه لترقيه وتنميه معتبرة إياه أعظم أنواع الحقيقة الزمنية. ويقول هاملتون (ليس في الدنيا أعظم من الإنسان، وليس في الإنسان أعظم من العقل). ولكن من أين أتى هذا العقل؟ أمن العدم؟ أم من شيء غير عقلي؟ لابد من القول هنا (بعقل تام) قائم خلف عقلنا المحدود، وهذا العقل التام هو السبب الأول لمركز التربية في الإنسان - وهو العقل - بل وهو الضامن كما يقول ديكارت (الموضوعية) الحقائق العقلية ذاتها!

وتكون التربية على ذلك تحقيق للإنسانية بجهد خاص قوامه الشعور بالنفس؛ ولكن ما طبيعة هذا الجهد وما صلته بالكون؟

سبق أن الإنسان جزء من كل؛ ويتبع ذلك أنه محدود في شعوره بنفسه لأنه جزء فحسب؛ هذا بينا الكل الذي يحوي الإنسان ويحوي غيره يجب أن يكون مطلق الشعور بنفسه وذو نشاط ذاتي دائب. . . وهذا الكل هو الله

ولما كان الإنسان عقلا بالقوة يتحقق بالفعل بالجهد أو بالنشاط الذاتي، ولما كانت التربية هي ذلك الجهد نفسه أو ذلك النشاط الذاتي؛ كانت عمليتها تقرب حتما ما بين الإنسان وخالقه

وإذا أخذنا بمذهب الحلول قلنا إن الله تعالى مصدر ما في الكون من قوة وحركة ونشاط. وإذن تكون المادة نشاط في نظر العالم الطبيعي، ويكون هذا النشاط درجة من الشعور في نظر الفيلسوف. ويكون الله على ذلك هو وحدة الكون الشاعرة التي تحيا الطبيعة فيها والإنسان. يقول القديس بطرس: (إننا نعيش ونتحرك ونأخذ كياننا فيه)؛ ويكون زمن التربية على ذلك هو فترة تحقيق الناشئ لأحد مظاهر الله. وذلك التحقيق يسر الله من غير ما شك. يقول فيختة (التربية تكميل خالد وطريق لجعل الجزء كلاَّ، إذ الحقيقة الكلية هي الكون أو الله. والحقيقة الزمنية هي الصيرورة. ومن أساليب الصيرورة ذلك الأسلوب الذي يصير به الإنسان ما هو عليه في الأبد. والحياة الأبدية هي أن يكون الإنسان على نحو الله) وخلاصة القول أن التربية تقوم على أن أصل الإنسان هو الله، وأن الإنسان حر الطبيعة خالد المصير؛ وأن أساس التنشئة في الناحية البيولوجية هو ملاءمة الإنسان بين نفسه وبين البيئات المتطورة المتجددة؛ وأساسها في الناحية الفسيولوجية هو العناية بالجسد وتجميله لأنه هيكل الروح المقدس؛ وفي الناحية النفسية هو أنه لا حد لنمو العقل فلنسم به إلى المطلق؛ وفي الناحية الاجتماعية هو أن الله يظهر نفسه في الزمان خلال مثل الإنسان العليا من خير وحق وجمال، وإذا فليكن لهذا الثالوث قداسته واتزانه في حياتنا. . .

ويكون التعريف الجامع المانع للتربية في نظر الأستاذ هورن هو (أنها الطريق الأبدي للملاءمة العليا بين الإنسان الكامل جسما وعاطفة وعقلا، وبين الله ممثلا في البيئة الزمنية للإنسان)

هذا هو تفسير الفلسفة لعملية التربية. أفلا ترى أنه يرفعها ويقدسها ويجعلها جديرة منا بكل إجلال، ومن الدولة بكل عناية وتقدير؟؟

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية