مجلة الرسالة/العدد 228/مقالات إسماعيلية

مجلة الرسالة/العدد 228/مقالات إسماعيلية

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 11 - 1937



لأستاذ جليل

حلّ برَقّادَةَ المسيحُ ... حل بها آدم ونوحُ

حل بها (الله) ذو المعالي ... وكلُّ شيء سواه ريحُ

هذا (مَعَدٌّ) والخلائق كلُّها ... هذا (المعزّ) متوَّجاً والدينُ

هذا ضميرُ النشأة الأولى التي ... بدأ الإلهُ، وغيبُها المكنونُ

من أجل هذا قُدِّر المقدور في ... أمّ الكتاب، وكُوِّن التكوينُ

فارزقْ عبادَك منك فضل شفاعة ... واقربْ بهم زلفى فأنت مكين

هذا ما وُعِدَه العالمون والمتعلمون المثقَّفون قرّاءُ (الرسالة الهادية) من (المقالات الإسماعيلية)، وإن الناس منذ الأزمنة القديمة ليتطلعون إلى علْمِ نحلة القوم، وإن الباحثين في الشرق والغرب ليجدّون مفتشين منقبين في كل وقت عن تلك المقالات لينشروها، إذ أنّ أهلها في القديم والحديث قد خبؤوها وكتموها - ويا ليت شعري أيّان يريدون أن يعلنوها؟ - ولم تفدنا كتب (الملل والنحل) لمثل الشهرستاني والأشعري وابن حزم والبغدادي والتصانيف في (مفاضح الباطنية) لمثل الغزالي وابن تيمية - إلا نُتَفاً نُتِشت من مكنونات الجماعة نتشاً. وليس هناك كتاب معروف مطبوع ظاهر ألَمّ بمذهب (الإسماعيليين) إلا (رسائل إخوان الصفاء) فإن فيها خلاصة الإسماعيلية ملفوفة بإسلامية لَفَّ ماكر داه، وهي الإسماعيلية، هي الباطنية، وهم الدهاة دعاتها!

وقد توَّه ما فيها علماءً متعمقين كأبي حيان التوحيدي وشيخه أبي سليمان السجستاني وغيرهم في المتقدمين، وحيّر حاذقين ألمعيين من المتأخرين من أعجميين وعربيين مثل (بارييه دومينار) والدكتور طه حسين. ولولا أن الأمر استعجم عليهم ما قال أبو حيان وشيخه مثل الذي رواه القفطي في كتابه (إخبار العلماء بأخبار الحكماء)، وما كان الدكتور طه حسين سطر في (مقدمته) لتلك الرسائل ما سطر، ولم يكتب دومينار إلى الأستاذ أحمد زكي (رحمه الله) ذلك الكتاب. وإذا كان أمثال هؤلاء البارعين النحارير قد حاروا ودير بهم (فهم في أمرٍ مَريج) فكيف حال من هم دونهم؟

والقصد من هذا الكلام أن (مقالة) الجماعة - وإن ضمتها تلك الرسائل المطبوعة المنشور - لم تنفك مستورة محجوبة.

وقد قال لي منذ بضع سنين (الدكتور حسين الهمداني) - وهو من شيعة الدعوة القديمة للإسماعيلية - إنه قد اطلع على مائة مخطوطة من كتب القوم منها (زهر المعاني) الذي أخذ بمؤلَّفه فيه درجة (الدكتوراه) من جامعة في لندن، وأنه عازم على نشرها أو نشر طائفة منها. أفنقول - ولم تحقق تلك الأمنية المتمناة -: (وحِيل بينهم وبين ما يشتهون) أم نرتقب تلك الكتب في المرتقبين؟

إذا ضنّ الأضنّاء بالضنائن ولم تصل أيدينا إلى تلك الخبايا في المخادع والزوايا، فليس لنا إلا غزو الغازين من الغربيين، والغازي - وإن كان قوياً - يُغزى. . . والناهب - يا أخا العرب - يُنهب. . .

وكنت إذا قومٌ غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذيّاك (همدانُ) ظالم

وقد قلت لإسلاميتي (الصحيحة) وعربيتي - وأنا أنسج ما ستتلوه -: قفا واسمعا ولا تتكلما. لا تجادلا ولا تناقشا، فليس المقام مقام جدَل، ولا عدْل ميَل، فالمقالات - والنّية هذه - تحكى كما وجدت، وتعطى كما أخذت؛ وإن وجد الخطأ اللغوي لا يُصلح، وإن جاء تصحيف أو تحريف في كلمة أو جملة - حاشا الآيات القرآنية - يُستبْق، وليس لديّ نسخة ثانية حتى أرجع إليها. ورب إبقاء على شيء خير من تغييره، والقارئ الفهِم لا تخفي عليه الكلمة محرفة ولا تستبهم. ولن يصدنا ذلك عن تعليق أو حاشية

ولو قلنا لأصحاب لنا أدباءَ فاضلين من (الحاكمية) و (الإسماعيلية) في بر الشام ممن لا يعبدون (العَدَم) وقد عبَد الأجداد والآباء (العبيديين) وإن كانوا هم - أي الأبناء المثقفون - بعبادتهم كافرين. فلو قلنا لهم: أَطلِعونا يا جماعة على رسائلكم حتى نعارض (نقابل) هذه (المقالات) بها ونصلحها لقالوا: ما عندنا ولا نعرفها، وأنا مسلمون؛ وإنها لديهم، وإنهم يعرفونها، ولكن المتشيطنين يكتمون. . .

ولم يكن في المقالات هذا المسمى بعلامات الترقيم - إلا في اثنتين - فرأيت وضعه حتى لا تقتحم العين الصفحة قد التصق بعضُ عباراتها ببعض فكدّ البصر، وما هذا الصنع بأمر نكر

وقدرُ هذه (المقالات) عظيم. ومن عرف نحلة القوم أو ألمّ بها أدرك مما يتلوه مما نمليه ما لا يدركه غير العارف؛ ولو درى شيئاً من اصطلاحات الباطنية الذين قالوا تائهين ضالين ما قالوه في (رسائل إخوان الصفاء) ما جاءوا خابطي عشوة، وصاروا في عصر البحث والتحقيق ضحكة. ومن قذف بمقال لا ينصره نص ولا يسانده دليل، فهو هذِر، وكلامه هدَر. . .

واعلم أن هذه الإسماعيلية لم تظهر فيها حتى اليوم كتب قديمة تبين كيفية بدئها وحقيقة حالها تبييناً صحيحاً موضحاً شافياً، ولم يهد بحث الباحثين في هذا الزمن إلى شيء من ذلك

قلت مرة لعالم عاقل إسماعيلي: دعْ قول الإسماعيلية في أصلها ودع حديث خصمها، فهل أوصلك تحقيقك الناقد، وتفتيشك المدقق، إلى مصدرها الصحيح ومنبعها؟

فقال: لا

فنحن من نشوء هذه النحلة في ظلمات بعضها فوق بعض. ولعل كتباً قديمة تنجم فتضيء هذا الليل المظلم. ورب علماء محققين لا يجتزئون بالقريب المعروف، بل يمشون أقوياء أشداء صابرين في فلوات البحث فيصلون إلى (عين المعرفة)؛ وربّ غوَاصين يغوصون في بحور البحث والتنقيب غوْصات إثر غوصات فيخرجون لنا شيئاً. ولن يجيء بالدر إلا الغواصون الماهرون

فصل في مناجاة المعز لدين الله

قال هذه:

(إلهي) كنت رتقك، قبل أن تظهر فيّ بفتقك، وأوجدت عني خلقك، وصدرت عني دنياك في الذات والأسماء والصفات. ولست أنا بك متصلا، ولا عنك منفصلا، إذ أنا بك تبعيض، وأنا راجع إليك عند النقلة والتفويض. انقلْ الصورة كيف تشاء، وأعط النور الإلهي لمن تشاء بما قدمت أيديهم ولا نضْم مثقال ذرة. (إلهي) أني كما أنت عظيم في سلطانك، وأنا قدرتك وبرهانك، وإرادتك ومكانك. (إلهي) بمعرفة بي استجبْ وسلمْ وأشرقْ ألوانك، وأني وجدتك بعد أن عرفتني التلاقي، واتلف واضمحل. (إلهي) وأُفني من جهلك، وفاز وبقي من عرفني بالبداية وفضّلك. (إلهي) أترى يعرفك سواك، ويدنو منك إلا إياك، أم يعدو إليك من خرج عن طاعتك، وطاعة حدودك وأوليائك. إلهي بك استدللت ومنك وصلت وإليك (إلهي) ليس غيري لك حجاب، فكيف الوصول إليك من غير باب، فأنا منك بحيث النهوض والنهمة، وأنت أنا بحيث أنا القدرة والعظمة، وحيث أنا بك خلقت أولياءك، وبدعت ملائكتك وأنبياءك، فلما عرفتك كنت ذلك، إذ ليس يعرفك سواك، ويدنو منك إلا إياك، باتصالك بحدودك وأوليائك. (إلهي) إن كثرت الأشخاص، فهي أنت بلا اختصاص، وأنا منك بديت، لأني بحدودك اهتديت؛ إن عرشك عليه استويت. (إلهي) أوجدتني منك في ظاهر الأمر بصفة كانت الموجودات على دفعة واحدة، فأنت بي باطناً وأنا بك ظاهراً. (إلهي) ظهرت الموجودات كلها بي، واخترعت مني كل رسول ونبي، وأنا ابن لك وأنت أبي. أنا منك كالفيض، وشراقه وليف فليس الفيض غير الفيض، فقد غاب، واضمحل كلما في النار وذاب. (إلهي) رامت رؤساء الجهل وأهل العمى والضلال وذوي الإنكار والجحود، وأنهم خرجوا من العدم إلى الوجود، وهم في العدم. يا (إلهي) وصلت إليك، ومنك دخلت عليك، فأنا قدرتك الظاهرة، وعني ظهرت آياتك الباهرة. إلهي حقني ابتلاؤك، لأنها حلاوة رضائك، فنفسي منك وإليك انتهت. (إلهي) ظهرت للخلق حتى يعرفوك من حدودك فحجبتهم عنك لما زادوني إنكارك، وذلك أنهم ضلوا في التكبير عن أبيهم، فلم يجدوا لهم مرشداً أبداً يهديهم، فأظهروك بي لأني أنت، وكوني بك ظاهر، وأنت فيّ حاضر. (إلهي) أنا الكرسي والمكان، والوقت والزمان، وأنا منشئ المثقلات، وأنا بك عالم ما يكون وما كان. (إلهي) أنا اسمك وموجود اسمك، وأنا البشير إليك، والدالّ عليك، والدالّ على من دالّ عليك، فمن تمسك بحدودك نجا، والصورة معادة ورآء ليس دونك حجاب غيره فقصده لا بلاء سواك بأوحد ولا لك اسم سواي فيستطاع ويعبل، وأنا صاحب البقاء، وعلى ذات النطقاء، وأنا فيّ النطق. (إلهي) قصرت لذاتك إنكار الباحثين إذ لم يقصدوا لحجابك، وأحجبتهم عن معرفتك إذ لم يدخلوا إليك من بابك، فهلكوا لما أنكروا لكلمتك، وتاهوا لما عجزوا عن معرفتك. (إلهي) أنت ذاتي ونفسي، ومعدني وقدسي، ونطقي وأنسي، ألا ففيَّ اختفيت فأشرقت، وبي اقتربت فأبرقت. أنا نظرتك بكلمتك الإلهية، وكلمتك القدسية، وذاتك الأبدية، والذات الأزلية الكلية، ونورك، وبي ظهورك، بك ظهرت وبي نهيت وأمرت، فمن عرفني فقد نزهك، ومن اتصل إليك بحدودي (فقد عرفك) فقد عرفتك أنا غيري فتكون أعدادك، ولا أنت غيري فتكون أفرادك. أنا كنت فيك رتقاً، وفيّ ذلك حقاً، فأطلقتني ولم تفصلني في وجودي. أرجوك تعيد ووقت تطلب فتقصد، فأنا منك كضوء السراج من السراج، بلا تبعيض ولا إمزاج. (إلهي) صدق المستجيب لما قال لأبيه، إلهي منك بديت، وإلى معرفتك اهتديت، وإليك توجهت، وإليك تبت، وبك منك إليك سعيت، ولو فرطت فيك لاضمحللت وتلاشيت، ولو اقتديت بغيرك أشركت وتعديت في طاعتي لك فعرفت ودركت (إلهي) كادت نفسي لعظيم امتحانك أن تجهل وتخْفَى كنه علمك وتكفر حتى ألقت عنانها بجودة من نور معرفتك، فجذِبت وتلطف قداراتها بضوء من علمك فمسكت فيه بعد ما كنت جحْت وتبتُ عندما سليت بنعمتك فتهدت بعد (أن) كانت جحدت فأورثها الثبات بالنعيم المقيم والنجاة من العذاب. (إلهي) عجزت المقصرون بنظرهم إليك وقالوا لا يجوز الصفة أن تدرك الصانع، فلو علموا أني بك استقرارهم، وأن تصديقهم هو إنكارهم. (إلهي) هل يعرفك من ليس منك ويتفكر إنما هو أنت محال. (إلهي) لم لم لا تنقل الصورة بما لا تريد، بل في وقت تريد، فلولا نظرك إليها بالمشاكلة لأُفقدَت، ولولا تعطفك بالمناسبة لأُبْعِدتْ. (إلهي) لقد خاب من أنكر معرفة نفسه منك، ولقد ظلم من لم يعرفك بك، وهو بك ظهر، وبي حجابك وفي حجابك استتر، وأنت الناظر بلا حركة. (إلهي) تناهوا الجاهلون في طلب معرفة حدودك وطلبوها معرفة في تيجان الملوك، فلما نظروا حدودك، نكروك. (إلهي) ناجتك المحقون وقالوا يا مبدع الأحد، من غير عدد، تختلف الأعداد بك، بقدرة منك، دعوناك فالذي عرفك منك إليك، عاد إليك. (إلهي) تحيرت العقول عند طلبتك، أتاهت الأبصار في رؤيتك. (إلهي) قالوا الجاهلون في معرفتك وما تُبَيّن فلا عرفوا، (إلهي) لقد غاب من نادى سواك، ومن عرفك بحقيقة المعرفة تيقن أنك دائم، ومن أفضل الغنائم. (إلهي) ظهرت لهم فوق المنائر، فتوهموا أنهم حصلوك بالعناصر، فأثبتوا التشبيه والتمثيل، وعدموا التنزيه والتحصيل. (إلهي) عجزوا عن إثبات النفر ولم يعلموا ما حقيقة العيان من الخبر، فالنظر حجاب عنك لا لك، والمنظور أنت به لا (هو) فيك. (إلهي) من قال إنه لا يعرفك، فقد عدمك، ومن عبدك، من غير حدودك، فقد حال إلى غائب معدوم، فأنا الذي لا تدركه الأبصار، وأنا أدرك الأبصار، وأنا اللطيف الخبير، فاللطيف الخبير، صورني بالصورة المرئية، التي هي الحدود العلوية. (إلهي) بوجود معرفتك اهتديت، وبعّدت المعصرين عنك تباركت وتعاليت. (إلهي) كنت أنت والمكان، لأن المكان هو إشارة بالفيض وتكرير الفكر بإحضار المكان، والمكان هو المركز هو الدال عليك. (إلهي) كلما ظهرت عني صورة فظهّرتها أبدع على أولها اخفيّا لأنقلها عني (وأنا فعال لما أريد)

هذه الأولى من (المقالات الإسماعيلية) والباقيات في الأعداد الآتيات من (الرسالة)

(قارئ)