مجلة الرسالة/العدد 231/فلسفة التربية

مجلة الرسالة/العدد 231/فلسفة التربية

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 12 - 1937



كما يراها فلاسفة الغرب

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 2 -

(الفلسفة بوجه عام هي المحاولة المتكررة للوصول إلى معرفة

منتظمة مفهومة لصور وعلاقة ومعنى ومحمول الأشياء)

(بولزن

رأيت في المقال السابق ذلك (التقدير النزيه) الذي تقُوّم به الفلسفة عملية التربية، وتبينت إلى أي حد ترتفع التربية بذلك (التقدير) وتسمو على سائر التجارب الإنسانية. وأحب اليوم أن أتنقل بك إلى العلاقة بين الفلسفة والتربية، والى فحوى فلسفة التربية لدى الإنجليز والأمريكيين على الخصوص، تمهيداً للكلام على مسائل أخرى تختص بأغراض التربية ومنهجها، وتطبيقات العلم والديمقراطية عليها.

العلاقة بين الفلسفة والتربية قوية إلى أبعد حد. بل أن (جون ديوي) الفيلسوف الأمريكي الذي يحمل لواء التربية في هذا العصر يذهب إلى القول بأن الفلسفة اليونانية - وهي أول فلسفة دقيقة معروفة - لم تنشأ إلا من ضغط مسائل التربية على عقول المفكرين. وإذن فلم يكن (الطبيعيون الأولون) عنده إلا فصلاً في تأريخ العلم! أما الفسطائيون وسقراط، فأولئك هم الذين اضطرتهم شئون التربية في عهدهم إلى أن (يتفلسفوا)! فكان لنا منهم كلام في التربية تأدى بهم إلى كلام في الفلسفة!!

ومهما يكن من أمر هذه المبالغة الظاهرة في كلام (ديوي) فلا شك أن التربية لا تستطيع أن تستغني قط عن الفلسفة، لا في غاياتها ولا في تقدير وربط نتائج علومها الكثيرة بعضها ببعض. بل نحن إذا نظرنا في مسائل الفلسفة الكبرى وجدنا أن أغلبها يقوم محوراً لعملية التربية ذاتها.

ولقد كانت الفلسفة إلى ما قبل (العلم التجريبي) مجرد نظريات ومبادئ تخوض في متاهات ميتافيزيكية كثيرة. أما اليوم بعد أن نجح هذا العلم في إقناع العالم بنجاحه وجدارته، وبعد أن اتجهت أمريكا على الخصوص اتجاهاً (عملياً) في فهم الكون وتقدير القيم المختلفة للموجودات - فقد أصبحت (الفلسفة) تسير في التربية على الضوء الذي يبعثه العلم ولا تكاد تميل عنه إلا قليلاً، وبالأحرى هي كذلك لدى (جون ديوي) ومدرسته. فهي كما يقولون لا تستطيع أن تفهم الوجود بأكثر مما يسمح به الواقع المحدود!! وهي (في التربية) تأخذ ذلك (الواقع المحدود) من علوم الحياة، ووظائف الأعضاء، والنفس، والاجتماع، وتاريخ الثقافة والسياسة والتربية والفن والدين، ثم تكون منه نظرة كلية فيها شرح وتفسير وتقويم وتشريع!

وإذن ففلسفة التربية في هذا المذهب لا تكاد تعدو أن تكون النظرية العامة التي تجد تطبيقاتها في عملية التربية بجميع نواحيها ذلك أنها تعالج التربية كوظيفة ضرورية غير منفصلة عن الحياة بحكم طبيعة الحياة نفسها، وتنقد وتشرح الطرق والمواد المستعملة في هذه العملية على أساس تلك الوظيفة الآنفة، وتمدنا بالأصول التي تجعل التربية فعالة، وتوضح المبادئ التي تنفث الحياة في مصالح الجماعة والتي تبرر النظام القائم أو لا تبرره، كما تعطي الجماعة ذاتها شعوراً شاملاً قوياً بمعنى الأساليب المختلفة التي تباشرها في تدريب أعضائها، وبأساس هذه الأساليب وقيمتها

ولئن قال قائل أن التفكير غالباً ما يولي هارباً تحت ضغط الحوادث تاركاً العمل للعاطفة، أو الانفعال، أو الضرورة الغالبة بحيث إنا لا نستطيع دائماً (التفلسف) في أساليب حياتنا: فالجواب هو أن التفكير لا يزال بالرغم من ذلك الأداة الوحيدة التي تخرجنا من الأزمات بما يقدمه من حلول ممكنة، ووسائل محتملة، ثم هو وإن كان لا يخلق قيماً جديدة فهو على كل حال يميز بين القيم المختلفة، ويقدم لنا تلك التي توصلنا أكثر من غيرها إلى غايتنا.

وإذن فالتربية القائمة على غير فلسفة تسندها تكون كالساري بالليل من غير دليل، والتربية القائمة على فلسفة خاطئة مصيرها الفشل المحتوم. . .

والأمر في الفرد والمجتمع على السواء. فلكل فرد فلسفته الخاصة في الحياة. ولكل جيل أو مجتمع نظريته العامة التي يطبقها في سلوكه؛ وعلى قدر دقة هذه النظرية وصحتها يكون النجاح أو الفشل، والسعادة أو الشقاء.

كلمة فلسفة التربية الحديثة في اتجاهات اليوم وإذا كان العصر الحاضر يمتاز بثلاث اتجاهات أساسية هي: الديمقراطية، والصناعة والتجارة، والعلم التجريبي، فإن الأستاذ (جون ديوي) عندما يكتب عن (فلسفة التربية) (في دائرة معارف التعليم للأستاذ منرو) لا يكاد يخرج عن هذه الاتجاهات الثلاثة. فنراه من حيث الاتجاه الأول (الديمقراطية) ينادي بتعليم الجميع وبتساويهم في فرصة إظهار كفايتهم الخاصة حتى يمسك فخ التعليم بالذكاء والنبوغ على نحو تعبير (ويلز) القصصي الفيلسوف، كما نراه ينادي باحترام الفرد ولكن على أن يؤدي واجبه في المجتمع وهو راضي مطمئن.

وهو من حيث الاتجاه الثاني (الصناعة والتجارة) يدعو إلى ضرورة إشراك العمل مع النظر في التربية، والى بث روح التعاون بين الطبقات، والى العناية بعلوم الطبيعة وعدم الإفراط في التخصص الذي يجعل من الآلة إلهاً جباراً. هذا إلى جانب غرس الذوق السليم، ومحاربة التبذل والإسفاف والترف المقيت وإضاعة الفراغ في غير متعة بريئة، والى جانب التحذير الدائم من عواقب التعسفات الرأسمالية.

أما من حيث الاتجاه الثالث (اتجاه العلم التجريبي) فنراه يلح في نبذ تلك (السلبية) البغيضة التي قد أوقفنا وما زلنا نوقف فيها الطفل إزاء عملية المعرفة، ويدعو بقوة إلى جعل التعليم عملية (كشف) يدرب فيها الطفل حواسه وقواه العقلية ويمضي فيها كما سيمضي غداً في الحياة، فيفترض الفروض أمام المشكلات ويجرب ويحقق آناً بنفسه وآناً بإرشاد الأستاذ، ذلك إلى حصر الدراسة في المواد التي يحتاج إليها العصر الراهن من ناحية، والكمال الإنساني من ناحية أخرى.

(يتبع)

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية