مجلة الرسالة/العدد 231/للأدب والتاريخ

مجلة الرسالة/العدد 231/للأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 12 - 1937



مصطفى صادق الرافعي 1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 16 -

(لا يصح الحب بين أثنين إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر: يا أنا. . . ومن هذه الناحية كان البغض بين الحبيبين - حين يقع - أعنف ما في الخصومة، إذ هو تقاتل روحين على تحليل أجزائهما الممتزجة. وأكبر خصيمين في عالم النفس (هما) متحابان تباغضاً. . .)

(الرافعي)

السحاب الأحمر

ترى ماذا كتبت إليه صاحبته بعد ما قرأت رسائل الأحزان فأثارت نفسه بعد هدأتها وردته من الغيظ والحنق إلى أن يقول: (يا هذه لا أدري ما تقولين؛ ولكن الحقيقة التي أعرفها: أن نفس المرأة إذا اتسخت كان كلامها في حاجة إلى أن يغسل بالماء والصابون وهيهات. .!) ويقول: (يجب على المدارس حين تعلم الفتاة كيف تتكلم أن تعلمها أيضاً كيف تسكت عن بعض كلامها)؟

من لي بأن أعرف ما كان وقع رسائل الأحزان في نفسها ما وردت به؟

إنه يتحدث في السحاب الأحمر عن التهمة والظنون، والكلام الذي لا يغسله الماء والصابون، والنجمة الهاوية، وخداع النظر في الحب، وفساد الرأي في الهوى، وطيش القلب في الاستسلام، ثم. . . ثم يحاول أن يعتذر. . .!

هنا الحلقة المفقودة في تأريخ هذا الحب، فلست أدعي المعرفة؛ ولقد كنت مع الرافعي مرة في مكتبه وبيننا السحاب الأحمر يقرأ لي بعض فصوله، فأشرت إليه عند فقرة من الكلام ليجيبني عن سؤال يكشف عن شئ من خبرها ومن خبره؛ فوضع الكتاب إلى جانبه وحدق في طويلاً ثم سكت، وسبحت خواطره إلى عالم بعيد، وراحت أصابعه تعبث بما على المكتب من أشيائه، ثم قال: (أرأيت القلم الذي تراءى لي السحاب الأحمر في نصابه بين عيني والمصباح. . .؟) ثم دس يده في درج المكتب فأخرجه ودفعه إلي وهو يقول: (ضع النصاب بين عينيك والمصباح وأنظر. ألست ترى سحاباً يترقرق بالدم كأن قلباً جريحاً ينزف؟ في شعاعه هذا النور تراءت لي هذه الخواطر التي تقرؤها في السحاب الأحمر. . .) ثم عاد إلى الصمت ولم أعد إلى السؤال. . .

أحسب أن الرافعي حين أنشأ السحاب الأحمر كان في حالة عصبية قلقة لست أعرف مأتاها ومردها، ولكن فصول الكتاب تتحدث عن خبرها في شئ من الغموض والإبهام.

لقد أنشأ الرافعي رسائل الأحزان ليكون رسالة إليها يتحدث فيها عن حبه وآلامه؛ ولست أشك أن صاحبته حين تأدَّت إليها رسائله قد فهمت ما يعنيه وعرفت ذات صدره، وأحسبها - وهي الأديبة الشاعرة - قد سرها أن تكون هي فلك الوحي لما في رسائل الأحزان من كل معنى جميل. أفتراها قد بدا لها أن تهيجه بالدلال والإغراء وقسوة العتب وتصنع الغضب لتفتنه وتزيده وحياً وشعراً وحكمة. . .؟

إن كانت هذه رسالتها إليه فما أراها قد بلغت بها إلا أن هاجت كبرياءه وأثارت نفسه، فكتب كتابه ولكن لغير ما أرادت وما قصدت إليه. . .

يقوم السحاب الأحمر على سبب واحد، يدور حول فلسفة البغض، وطيش الحب، ولؤم المرأة. . .!

على أن كل ما فيه لا يشير إلا لمعنى واحد: وهو أن قلباً وقع في أسر الحب يحاول الفكاك فلا يستطيعه؛ فما يملك إلا أن يصيح بملء ما فيه: إني أبغضك أيتها. . . أيتها المحبوبة!

وكما يفزع الشخص إذا حزبه أمره إلى أصدقائه يستعينهم ويستلهمهم الرأي في بلواه، كذلك فزع الرافعي في السحاب الأحمر، ولكن إلى أصدقاء من غير عالمه يستعينهم على أمره؛ فهذا صديقه الشيخ علي صاحب المساكين، وهذا صفيه وصاحب نشأته الشيخ أحمد الرافعي؛ وذلك أستاذه ومثله العالي في دينه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده؛ وهذه أم ضل ولداها الحبيبان، وتلك زوج يفارقها زوجها الحبيب إلى السجن؛ وهذا، وهذه، وتلك، يحدثونه جميعاً حديثهم عن الحب في رأى العين، وفي رأى القلب، وفي رأى العقل، ويحدثهم حديثه. . . فما تلمح من أحاديث هؤلاء جميعاً إلا أن الرافعي في جهاد عنيف بين قلبه وعقله، يريد أن يثبت الغلبة لعقله على هواه ليخرج من أمر صاحبته برأيه وفكره وكبريائه، ثم لا تكون الغلبة في النهاية إلا للحب على رأيه وفكره وكبريائه.

على أن كتاب السحاب الأحمر ليس كله خالصاً لصاحبته وأن يكن من وحيها؛ ذلك أن نسقه العجيب، ومحاولة الرافعي به أن ينصرف عنها، قد شرع له في الكتاب مسالك من القول لم تكن مما يقتضيه ما بينه وبين صاحبته.

في الفصل الأول من السحاب الأحمر، يتحدث الرافعي عن فتاة (عرفها قديماً في ربوة من لبنان، ينتهي الوصف إلى جمالها ثم يقف!) وهو يعني صاحبته التي أملت عليه (حديث القمر) وإنك لتقرأ حديثه عنها، ووصفه لها، وما كان من أثرها في نفسه؛ فتسأل نفسك: أي شئ رده إلى هذه الذكرى البعيدة فأيقظها في نفسه بعد اثنتي عشرة سنة محا الزمان بها في قلبه وأثبت؟ فلا تلبث أن تجد الجواب في الأسطر الأخيرة من هذا الفصل:

(إن من النساء ما يفهم ثم يعلو في معاليه الجميلة إلى أن يمتنع، ومن النساء ما يفهم ثم يسفل في معانيه الخسيسة أن يبتذل. . .

(إن من المرأة ما يحب إلى أن يلتحق بالإيمان، ومن المرأة ما يكره إلى أن يلتحق بالكفر. . .

(من المرأة حلو لذيذ يؤكل منه بلا شبع، ومن المرأة مر كريه يشبع منه بلا أكل. . .!)

أتراه بهذا يوازن بين واحدة وواحدة، ليقول لهذه: أن تلك كانت خيراً منك؟ وهل تحسبه كان يعتقد ذلك؟ أما أنا فاعرف من أخلاق الرافعي أن هذا معنى لم يكن يعنيه، ولكنها مساومة في الحب يريد بها أن يهيج غيرة صاحبته ليردها إليه، أو أنه أراد أن ينقذ كبريائه فيزعم لصاحبته أنه لم يكن يعنيها برسائل الأحزان، لأن هنالك أخرى. . .

وتقرأ (النجمة الهاوية) في الفصل الثاني، فتسمعه يقول: (تتم آمالنا حين لا نؤمل!) فما تشك أن هناك رسالة إليها، رسالة يمليها الحب المغيظ المحنق، يحاول فيها أن يوهمها أنها لم تعد شيئاً في نفسه، وأنه قد تمت آماله واستراحت نفسه فليس له فيها أمل ولا يتعلق بها رجاء؛ ثم يستطرد في معاني البغض والهجر والقطيعة بأسلوب قاسٍ عنيف، ولكن قلبه العاشق المفتون ينبض في كلماته؛ فما ينتهي الفصل حتى يستعلن حبه من وراء كلمات البغض وهو يقول: (أشأم النساء على نفسها من لا تحب ولا تبغض، وأشأمهن على الناس من إذا عدت مبغضيها لا تعد إلا الذين أحبوها. . .!) وأنني لأعرف الرافعي وأستمع إلى همسات قلبه، فهل ترى ترجمة هذه العبارة إلا أنه يقول: (إنني أحبك يا أشأم النساء!)؟

اقرأ في آخر هذا الفصل الصاخب قوله:

يا من على الحب ينسانا ونذكره ... لسوف تذكرنا يوماً وننساكا

إن الظلام الذي يجلوك يا قمرٌ ... له صباح متى تدركه أخفاكا

ويتحدث في الفصل الثالث عن السجين تحمله عربة السجناء إلى قضائه، وزوجته التي تحبه تشيعه بنظراتها الجازعة؛ فتعرف من وصفه لساعة الفراق بين الزوجين الحبيبين، أي خاطرة في الحب ألهمته هذا الفصل البديع، وكأنك تسمع الرافعي يتحدث فيه عن نفسه مما فعل به الفراق: (ما الفراق إلا أن تشعر الأرواح المفارقة أحبتها بمس الفناء لأن أرواحاً أخرى فارقتها؛ ففي الموت يمس وجودنا ليتحطم، وفي الفراق يمس ليلتوي؛ وكأن الذي يقبض الروح في كفه حين موتها، هو الذي يلمسها عند الفراق بأطراف أصابعه!

(وإنما الحبيب وجود حبيبه لأن فيه عواطفه؛ فعند الفراق تنتزع قطعة من وجودنا فنرجع باكين ونجلس في كل مكان محزونين كأن في القلوب معنى من المناحة على معنى من الموت. . .

(. . . ترى العمر يتسلل يوماً فيوماً ولا نشعر به، ولكن متى فارقنا من نحبهم نبه القلب فينا بغتة معنى الزمن الراحل، فكان من الفراق على نفوسنا انفجار كتطاير عدة سنين من الحياة. . .)

ويتحدث في الفصلين الرابع والخامس عن تجارة الحب، وعن المنافق، فتلمح من وراء حديثه معنى لا يريد أن يفصح عنه، وإنه لبسبب مما كان بينه وبين صاحبته؛ أفتراه يشير به إلى شئ من أسباب القطيعة؟

وفي الفصل السادس يتحدث عن حب الأم في قصة والدة ضل ولداها الصغيران ثم اهتدت إليهما:

(الحب! ما الحب إلا لهفة تهدر هديرها في الدم، وما خلقت لهفة الحب أول ما خلقت إلا في قلب الأم على طفلها. . . حب الأم في التسمية كالشجرة: تغرس من عود ضعيف، ثم لا تزال بها الفصول وآثارها، ولا تزال تتمكن بجذورها وتمتد بفروعها حتى تكتمل شجرة بعد أن تفنى عداد أوراقها ليالي وأياماً. وحب العاشقين كالثمرة: ما أسرع ما تنبت، وما أسرع ما تنضج، وما أسرع ما تقطف؛ ولكنها تنسى الشفاه التي تذوقها ذلك التاريخ الطويل من عمل الأرض والشمس والماء في الشجرة القائمة.

(لا لذة في الشجرة ولكنها مع ذلك هي الباقية وهي المنتجة، ولا بقاء للثمرة ولكنها على ذلك هي الحلوة وهي اللذيذة وهي المنفردة باسمها.

(وهكذا الرجل أغواه الشيطان في السماء بثمرة فنسى الله حيناً، ويغويه الحب في الأرض بثمرة أخرى فينسى معها الأم أحياناً!).

وتراه في فصول الثلاثة الباقية كأنما يحاول أن يروض نفسه على السلوان، ويقنعها بأن الحب ليس هو رجولة الرجل، وليس هو إنسانية الإنسان، وليس هو كل ما في الحياة من لذة ومتاع، في كلام يجريه على ألسنة شيوخه وأصدقائه: الشيخ علي، والشيخ أحمد، والشيخ محمد عبده؛ يحاورهم ويحاورونه، فنستمع في هذا الحوار إلى النجوى بينه وبين نفسه، والى الصراع بين عقله وهواه.

إن الرافعي بكبريائه وخلقه ودينه واعتداده بنفسه، لم يخلق للحب! ولكنه أحب؛ فمن ذلك كان حبه سلسلة من الآلام، وصراعاً دائماً بين طبيعته التي هو بها هو، وفطرته التي هو بها إنسان. وإنك لتلمح هذا الصراع الدائم في كل فصل من فصول السحاب الأحمر.

وفي كتاب السحاب الأحمر، تقرأ رأي الرافعي في القضاء والقدر؛ وإنه ليشعرك برأيه ذلك مقدار ما فعل به الحب وما فل من إرادته، فتراه يؤمن بأن الإنسان في دنياه ليس له كسب ولا اختيار فيما يعمل، ولكنه قضاء مقدور عليه منذ الأزل لا طاقة له على الفكاك منه؛ وإنه على ذلك لموقن بأن لله حكمه فيما قضى وقدر وإن دقت حكمته على الإفهام:

(ألا يا ماء البحر، ما أنت على أرض من الملح؛ فبماذا أصبحت زعاقاً لا تحلو ولا تساغ ولا تشرب؟ إنك لست على أرض من الملح ولكنك يا ماء البحر ذابت فيك الحكمة الملحة. . .!).

قلت في مقالي السابق: إن رسائل الأحزان عند أكثر قراء العربية هو شئ من البيان المصنوع تكلفه كاتبه ليحاول به أن يستحدث فناً في العربية لم يوفق إلى تجويده. . . لأنه بقية قصة لم تنشر معه - هي قصة غرام الرافعي - فجاء كما تأكل النار كتاباً من عيون الكتب فما تبقى منه إلا على الهامش والتعليق وصلب الكتاب رماد في بقايا النار.

أما السحاب الأحمر فهو كتاب كامل. احذف منه فصلاً أو فصلين في أوله، وشيئاً من فضول القول في سائره، تجد فناً في العربية لا يقدر عليه إلا الرافعي، فجرده من قصته أو أنسبه إليها فأنك واجد فيه أدباً يستحق الخلود، وبياناً يزهي على البيان، وشعراً وحكمة ما زال الأدباء يدورون عليها حتى وجدوها في أدب الرافعي.

في رسائل الأحزان أراد الرافعي أن تعرف صاحبته من حاله ومن خبره ما أراد، فأغراها بالترفع والدلال عليه. وفي السحاب الأحمر حاول أن يشعرها أنه قد فرغ من أمرها وفرغت من أمره فمالها عنده إلا البغض والإهمال، وماله عندها إلا اللهفة على ما كان من أيامه. أفتراه في السحاب الأحمر قد بلغ ما أراد؟

هيهات أن يخفى الهوى!

استمع إليه يحاول أن يهيج فيها الغيرة ويبعث اللهفة ويوقظ الحنين ويؤرث البغضاء ويثير الندم؛ فلا يكاد يبلغ آخر الرسالة حتى ينسى ما قصد إليه ليدع لقلبه أن يقول:

وبلى على متدلِّل ... ما تنقضي عني فنونهْ

كيف السُّلُوُّ وفي فؤا ... دي لا تفارقني عيونهْ؟!

يرحمك الله يا صديقي!

(شبرا)

محمد سعيد العريان