مجلة الرسالة/العدد 232/أثر حروب محمد علي في الأدبي الألماني والفرنسي

مجلة الرسالة/العدد 232/أثر حروب محمد علي في الأدبي الألماني والفرنسي

مجلة الرسالة - العدد 232
أثر حروب محمد علي في الأدبي الألماني والفرنسي
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 12 - 1937



للأديب السوداني المبارك إبراهيم

لم يكد يتولى محمد علي الكبير حكم القطر المصري باسم الدولة العلية، في أوائل القرن التاسع عشر، حتى بات يتحين الفرص لبسط ظله على الأقطار المجاورة. ففي عام 1818 م انتصر على الوهابيين في الأراضي الحجازية. وفي عام 1821 م وحد بين شطري وادي النيل بضم السودان لمصر، وفي عام 1832 م كانت بلاد الشام تدين بالطاعة والولاء لمحمد علي

وعندما توترت العلاقات بينه وبين حكومة الباب العالي سير جيوشه ليغزو تركيا ويخضعها لسلطانه، بدلا من أن يظل هو خاضعا لسلطانها! ففي ديسمبر 1832 هزمت الجيوش المصرية الجيوش التركية هزيمة منكرة، وباتت على مسير بضعة أيام من استامبول عاصمة سلاطين آل عثمان!

لقد كان طموح محمد علي إلى السيطرة والحكم لا يقف عند حد، إذ كان يتوق إلى إنشاء إمبراطورية مصرية مترامية الأطراف لا تغيب عنها الشمس! على أن هذا التوسع الاستعماري من جانب محمد علي لم يرق الأسد البريطاني، فوقف في طريق محمد علي يزمجر غاضباً ويكشر عن أنيابه ويلوح بذيله! وتحت ضغط الظروف القاهرة اضطرت جيوش محمد أن تنسحب من الأراضي التركية قبل أن يهاجمها هذا الليث الإنجليزي الهصور، وغيره من دول أوروبا التي لا يرضيها تقدم الحكام الشرقيين في الميادين السياسية والحربية، وبهذا التدخل من قبل الدول الأوربية بات الرجل المريض (تركيا) في مأمن من مداهمة محمد علي له والإجهاز عليه لان هذه الدول الأوربية كانت تطمح في الاستيلاء على تركة الرجل المريض (الأراضي التركية) واقتسامها فيما بينها. وقد وضعت هذا الدول أيديها فعلا على معظم هذه الأملاك التركية

وفي عام 1840 م ابرم الأسد البريطاني والدب الروسي، والنسر البروسي، اتفاقية سياسية تدعى اتفاقية لندن، فكان فيها القضاء المبرم على الإمبراطورية المصرية التي كان يحلم بإنشائها ذلك الحاكم الشرقي العصامي العظيم محمد علي. إذ قسرته هذا الاتفاقية التي تآمرت فيها هذه الدول عليه أن يتخلى عن الولايات التركية التي استولى عليه في بلاد الشام وشبه جزيرة العرب

هذا، ولما كانت فرنسا صديقة لمحمد علي، تقف إلى جانبه وتشد أزره، فقد سلبتها هذه الاتفاقية هي أيضا حقها في الشاطئ الأيسر من نهر الرين، ومنحته لألمانيا فعسكرت فيه بعض كتائبها

ومن جراء هذه الاتفاقية التي أضاعت جزءا من أملاك فرنسا تحمس الرأي السياسي العام في باريس، حتى أن الملك لويس فيليب نفسه صرح بأنه مضطر إلى لبس القبعة الحمراء، وأن ينزع عن النمر كمامته. وهو يعني بذلك المناداة بالثورة الحربية في وجه ألمانيا

وبعد هذا التمهيد نقول: إن هذه الأزمة السياسية الدولية التي سببتها حروب محمد علي قد دعت إلى صراع أدبي عنيف بين أدباء ألمانيا وفرنسا ترك أثراً حياً في الشعر الألماني والفرنسي

قالوا إن الشاعر الألماني بيكر كان جالساً ذات يوم مع أصدقاء له في إحدى الحانات، يشرب الجعة ويطالع الصحف السياسية الواردة من فرنسا. وبعد أن رجع الشاعر إلى داره نظم وهو تحت تأثير نشوة الخمر وحماسة السياسة، قصيدته (أنشودة الرين) فما كادت تنشر حتى لحنت وراح يترنم بها الألمان في غدواتهم وروحاتهم

والقصيدة هي:

لم ينالوا الرين ذلك النهر الألماني الحر

وإن كانوا يطلبونه بنعيبهم كالغربان الجشعة!

لن ينالوه ما دام يترقرق ساكنا في ثوبه الأخضر!

وما دام هناك مجداف يضرب في مياهه!

وما دامت الصخور قائمة وسط مجراه!

وما دامت الكاتدرائيات الشاهقة تعكس خيالها في مرآته!

لن ينالوا الرين ذلك النهر الألماني الحر

لن ينالوه ما دام الفتيان الحديدو القلوب يغازلون الفتيات الممشوقات القوام!

وما دامت هناك سمكة تسبح في أعماقه!

وما دام على شفاء المنشدين أنشودة تردد! لن ينالوا الرين ذلك النهر الألماني الحر

لن ينالوه حتى تدفن عظام آخر رجل في طيات أمواجه!

ولما ذاق الشاعر الألماني بيكر حلاوت الشهرة عقب ذيوع هذه الأنشودة بعث بنسخة منها إلى شاعر فرنسا الكبير: لامارتين، وكان ذلك منه على سبيل الأدب والتحدي معاً!

غير أن لامارتين كان داعية سلم ووئام ولم يكن في يوم من الأيام بوقاً للحرب والخصام؛ وكان يقول: أنا ابن الإنسانية قبل أن أكون ابن فرنسا؛ ولتهلك أمتي إذا كان في هلاكها حياة الإنسانية

ولهذا جاءت قصيدته في الرد على الشاعر الألماني تفيض بروح المحبة والسلام وقد دعاها فعلاً: (مارسيليز السلام) ومنها:

يا نهر الرين يا نيل الغرب!

يا كأس تستقي منها الأمم!

سر حراً متكبراً في مجراك بين عرض شاطئيك!

واحمل في طياتك مطامع الشعوب الساكنة المرتوية من مائك الشيم!

لن يدنس بعد اليوم بلور مياهك دم الفرنسي الأحمر، ولا دم الجرماني الأزرق كما أن

البارود لن يقوض بعد اليوم الجسور الممتدة فوقك بين الشعبين كاليد الممتدة لمصافحة!

سر في مجراك يا نهر ولا تبال إذا كان الذين تحملهم أو ترويهم هم قاطني شاطئك

الشرقي أو الغربي. وطن كل إنسان هو الإقليم الذي يمتد إليه عقله، فأنا مواطن لكل إنسان يفكر، فالحقيقة هي بلادي!

النسر والثور يشربان من مياهك فليقترب إذن الإنسان وليشربا من مياهك!

وعندما نشر رد لامارتين هذا على أنشودة الشاعر الألماني قابله الشعب الفرنسي بشيء من الفتور عظيم وذلك لخلوه التام من الروح الحربي والحاسة الوطنية، حتى أن فريقاً من النقاد اتهم لامارتين ظلماً بعدم الإخلاص للوطن في حين أن الشاعر معروف بوطنيته الصادقة، ولكنه كان يمقت الدعاية للحرب وإراقة الدماء البريئة، وترميل النساء، وتيتيم الأطفال وتخريب المدن الجميلة العامرة

ولقد كانت الصالونات الأدبية في باريس في ذلك الأوان لا حديث لها إلا (أنشودة الرين) لبيكر، و (مارسيليز السلام) للامارتين

وكان صالون مدام جيرارون غاصاً ذات يوم برهط من أدباء فرنسا وعلى رأسهم الشاعر الشهير: الفرد دي موسيه، وكان الحديث يدور رد لامارتين، فأنبرت ربت الصالون تقول:

لا مشاحة في أن قصيدة لامارتين آية في البلاغة ولكنني كنت أوثر رداً اكثر إيلاماً منها، فأنا متطرفة في الوطنية، ولا تزال عقيدة الوطن راسخة في ذهني وكم كنت أود لو تصدى واحد من شعرائنا لذلك الشاعر الألماني المتحمس، فكال له الصاع صاعين! فقال لها الفرد دي موسيه: وأنا على رأيك يا سيدتي. وهنا صاح به الحاضرون: عليك بالرد إذن. . . عليك بالرد، وقد أحاطوا به ملحين. ثم اقتادوه إلى حديقة لدار، وأوصدوا باب الصالون دونه، بعد أن زوده بالورق والقلم، ولفافتين من التبغ! ولم يمص إلا وقت وجيز حتى أتوا إليه فوجدوه قد احرق اللفافتين ونظم القصيدة التالية في الرد على نشيد الرين وهي: -

قد نلنا الرين نهركم الألماني!

وقد وسعه جام من جاماتنا!

فهل لأنشودة يسير بها القوم هازجين أن تمحو الأثر العظيم الذي تركته حوافر جيادنا

المصبوغة بنجيع دمائكم؟!

قد نلنا الرين نهركم الألماني!

فان في أحشائه جرح يسيل دامياً من عهد ما مزق (كونديه) القائد الفرنسي الظافر ثوبه

الأخضر!

ولا شك في أن الأبناء لمارون حيث مر الآباء!

قد نلنا الرين نهركم الألماني!

أين كانت فضائلكم الجرمانية يوم كان بابليون القدير يبسط ظل سلطانه على سهولكم؟!

وأين وقع آخر عظم من عظام رجالكم؟!

قد نلنا الرين نهركم الألماني!

فان كنتم نسيتم تاريخكم، فإن بناتكم اكثر احتفاظا بذكرانا منكم، فقد صببنا في كؤوسنا

نبيذكم الأبيض!

قد نلنا الرين نهركم الألماني! وإذا كان الرين لكم فاغسلوا فيه ثيابكم

وإذا ما تكلمتم عنه فاخفضوا الصوت، فكم كنتم من غربان في اليوم العصيب حول النسر

المحتضر: بابليون

فليتدفق نهركم الألماني بسلام

ولتنعكس خور كاتدرائياتكم الغوطية في مياهه!

ولكن أحذروا، فإن أناشيدكم الخمرية قد توقظ الأموات من رقادها الدموي!

فما كاد موسيه ينتهي من إنشاد قصيدته النارية على السامعين حتى دوى المكان بالتصفيق وتعالى هتاف الاستحسان والتقريظ

وعندما تلقت القصيدة الصحف الفرنسية نشرتها في أمكنه بارزة، مشفوعة بالتهليل والتكبير

وقد ازداد بسببها هياج الرأي العام في فرنسا وألمانيا

وكان من الضباط الألمان من أرسلوا إلى الشاعر الفرنسي دي موسيه رسائل يدعونه فيها للمبارزة!

ولكن دي موسيه أجاب: إذا لم يكن من المبارزة بد، فهو لا يبارز إلا رصيفه الشاعر الألماني بيكر. ولكن بيكر لم يلبي الدعوة

ويقال أن هذا الصراع الأدبي بين شعراء فرنسا وألمانيا في عام 1840 م كان من ضمن الشرر الذي أشعل نار الحرب بين الشعبين بعد مضي ثلاثين سنة، عام 1870م، وهي الحرب المعروفة في تاريخ أوربا بحرب السبعين.

أم درمان السودان

المبارك إبراهيم