مجلة الرسالة/العدد 232/مجادلة طريفة واقعة حول
مجلة الرسالة/العدد 232/مجادلة طريفة واقعة حول
معجزات الإسلام
للأستاذ خليل جمعة الطوال
هل تطلبون من المختار معجزة ... يكفيه شعب من الأحداث أحياه
وكيف ساس رعاة الإبل مملكة ... ما ساسها قيصر من قبل أو شاه
(غنيم)
استويت إلى مكتبي المتواضع، وفي النية أن اكتب فصلا (للرسالة الغراء) عن نخاسة الأعراض وتجارة الزواج في شرق الأردن؛ وفيما أنا أفكر في عناصر الموضوع وطريقة الدخول إليه واستجمع له الخواطر الشاردة، والأفكار الطافية فوق هموم العيش والإفلاس، إذ بطارق يقرع على الباب ثلاث قرعات متوالية، ثم يقتحم الغرفة بدون استئذان ويجلس بالقرب مني على مقعد خشبي قديم أشبه ما يكون بمقاعد مقهى العتالين في باب العامود. وكانت بادرة الفكر أن أحوله عن هذا المقعد الوضيع الذي لا يتفق ومكانة الزوار، ولكنه تشدد عليّ وأبى إلا أن يلازم مكانه الذي ظل جالساً فيه وكأنما يستجمع قواه ليقفز
كان طوالاً أجناً، ياسر الوجه، أترم الثنية اليسرى، متغطرفاً وعواعاً، قد تفشغ الشيب في لمته وذقنه الحليق، توضحته فتبينت في أسارير وجهه قصة طويلة، إلا أنها خفية المعنى، عديمة الإبانة، غامضة الإشارة فألقيت عليه تحية المساء ثم سكت عله يبدأ الحديث ولكنه ظل مبرطما، ينكث السجادة بعصاه دون أن ينبس ببنت شفة فتنهمت كعادتي؛ فحدجني بنظرة شزرة حسبت فيها سخط الإنس والجن ثم اخذ يتثاءب ويتمطى فكأنما كان يحمل حملاً ثقيلاً أزيح عنه بالتثاؤب، إذ انبسطت أسارير وجهه، وزال برطامه، ولكنه ظل مع ذلك مطرقاً لا يتكلم فاستثقلت جلسته - كما قد يستثقل القارئ هذا الحديث - وقلت لنفسي لا بد من أن استدرجه إلى الحديث وإلا فهذا المجلس المكروه إن طال سيضيق عطني ويستفز كامن عصبيتي، فاهتبلت فرصة تثاؤبه وابتدرته بالحديث قائلاً:
- الحمد لله على سلامة الشيخ
- وهل يعرف المتعلم رباً فيحمده؟. . . أنت ملحد. . . كافر. . . درزي لا دين لك - (فتذكرت الحكمة القائلة: داروا سفهاءكم) درزي. . .! أليس للدرزي دين. . .! يا شيخ كيف تتهمني بالكفر؟
- كيف أكفرك. . .! ألست مسيحياً أباً عن جد؟
- بلا! وليت ذلك لم يكن؛ إذن لكنت حراً في نوع صوفيتي مع الله؟ وفي تكوين عقيدتي بالله. . .!
- أفلا تعتقد بقول المسيح: من ليس معي فهو علي؛ وبقوله يخاطب الكهنة: من سمع منكم فقد سمع مني، ومن احتقركم فقد احتقرني؟ ثم الست الزاعم بان الإكليروس هم انكشارية الدين المأجورون؟ وذلك نصرة لبدعة فاسدة ادعاها رجل كاذب يدعى محمد. قل لي هل يستوي النور والظلام؟
- لا. لا يستويان
- فكيف إذن تجمع بين المسيح - الذي هو طريق الحق والحياة - ومحمد؟ وكيف تدافع عن محمد وأنت من جند المسيح؟
- يا سيدي!. . . قل لي أمن الإيمان أن نمتهن بقية العقائد؟. . . ثم ما رأيك في الشريعة الموسوية؟. . أليست - في حكمك - شريعة كاذبة لأنها ليست من تشريع المسيح؟. . وهل كان الرسل لينسخ اللاحق منهم شريعة السابق أم ليكملها؟ وهل فاتك قول المسيح ما جئت لأنقض بل لأتمم؟. . فموسى ومحمد إذن حكمهما من حيث الصدق والكذب واحد
- حاشا! حاشا أن اعتقد ذلك فشتان بين موسى كليم الله الذي أنقذ أمته وجعل العصا في يد فرعون حية، وأخرج من الصخر الأصم مياهاً نقية، وبين محمد - نبيك - الذي لم تؤثر عنه مكرمة، ولا سمعت له معجزة
- وأية مكرمة افضل من إخراج محمد قومه من حظيرة الشرك إلى حظيرة التوحيد؟
- ليته لم يفعل ذلك. إذن لسهل على المسيحية أن ترد هذه الخراف الضالة إلى قطيعها
- ولم تردها الآن مادامت ضالة عن القطيع!. . .
- هيهات ذلك، هيهات أن يفلت الحمل من مخلب الذئب
- بل هيهات أن يسلم الذئب من رصاصة الراعي وعصاه، وان يصل الباطل إلى قمة الحق وذراها. والآن دعنا نحسم هذا الجدل العنيف، وقل لي ما الذي تشترطه على محمد لتتم له النبوة؟
- الأمر واضح فلا نبوة بغير معجزة
- وأنا معك في ذلك، وإلا لادعى النبوة كل مشعوذ، ولصار الناس جميعهم أنبياء. والآن أعرني سمعك لأبين لك معجزة الإسلام
لقد كان العرب في جاهليتهم يعبدون إما الأصنام التي كانوا يقيمونها من بعض الحجارة والمعادن، وإما بعض مظاهر الطبيعة المتعددة كالشمس والهواء والبحر والسماء، ولكن العربي المتبدي لم يكن يقدم لآلهته هذه التي راح يلتجئ إليها كلما حز به أمر أو داهمه خطر الذبائح والقرابين، ولا كان يقيم لها الشعائر الدينية والمراسيم، كما كان يفعل الآشوريون والفينيقيون ومن إليهم، بل لم يكن يتحرج عن إهانتها وتحطيمها ولا سيما إذا استقسم عندها بأقداحه فخرج منها ما يكره - كما فعل امرؤ القيس بن حجر الكندي - ذلك لان العربي في الجاهلية كان قلما يهتم بما وراء الطبيعة
ولقد تسربت إليهودية والمسيحية إلى جزيرة العرب فارتدتا عنها بالإخفاق والفشل ذلك لان أحلام الأولى وأمالها، وأسرار الثانية ومعمياتها؛ فمن إله متأنس، إلى رب مصلوب إلى أقانيم ثلاثة بجوهر واحد إلى استحالة الخبز والخمر إلى جسد ودم؛ كانت جميعها مما ينفر منها الطبع البدوي الساذج، أما الإسلام وإن اصطدم بالعنجهية العربية، وتصارع مع وثنية البادية حيناً من الدهر، فإنه تمكن أخيراً من أن يظهر عليهما بالنصر، ذلك لأنه دين يتساوق مع العقل والقلب، يسوي بين الدين والدنيا، ويجعل الفقير بذمة الثري، فهو في حقيقته مجموعة قواعد خلقية سامية، ومبادئ اجتماعية مثلى، وهل الدين في حقيقته إلا إصلاح النفس ولأخلاق في الفرد، وإقامة الفضيلة واجتثاث السوءات في المجتمع؟
ولئن كان معجزة موسى أن حول العصا أمام فرعون حية، لقد كانت معجزة الإسلام ابلغ منها، ذلك لأنه حول مادية النفسية البدوية الضارية التي طبعت على حب الغزو والنهب، وعلى استباحة المنكرات إلى شعلة روحية تشع في أرجاء الكون بنور المبادئ العالية، والفضائل السامية.
ولم نذهب بعيداً في الاستدلال؟ وهذا البدوي الجلف الذي كان بالأمس ينفر من ظل الدين، ويستحل جميع أنواع المنكرات، ولا يتحرج من سفك الدماء البريئة باسم مجد القبيلة وجاهها، تثخنه اليوم باسم الدين والتوحيد أسنة المشركين في أُحد جراحاً ما زالت تثعب دماً، وتمزق إهابه نبال الفرس في القادسية وقسي الروم في اليرموك، فيستقبلها بصدر عامر بالإيمان، ويستمرئ آلامها غير جزع ولا هياب، ذلك لان معجزة الإسلام أخرجت نفسه من حدود هذا العالم المادي الضيق الذي يتعين بجهات الأرض الأربع، إلى عالم روحي فسيح يتعين بعقيدة التوحيد، وبحدودها الأربعة: التي هي: التقوى في الدين، والحرية، والإخاء، والمساواة في الدنيا.
ولئن كان فتى الجزيرة قبل الإسلام راعي ابل وغنم، تختلف عنقه بين نيري الفرس والروم وتصعر خده أيدي الغزاة الطامعين من بقية الشعوب، فأنه اليوم بفضل المعجزة الكبرى التي تزحزح لإشراقها أس الإيوان، وانصهر من حرارتها التاج والصولجان، قد فتح ثلثي الكرة الأرضية في اقل من ثلثي قرن. فهذا خالد بن الوليد الذي لم ينهزم قط في حياته يفتح دمشق وهذا عمرو بن العاص يوغل في الديار المصرية، وهذا طارق بن زياد يعبر المضيق الذي لا يزال يحمل اسمه حتى اليوم، يريد أن ينفذ من الشطوط الإسبانية إلى سفوح جبال البرينية ثم إلى غسقونيا وبوردو. وهذا موسى بن نصير يسرح بخيول مضر وعدنان في شرق الأندلس وغربها؛ في قرطبة وطليطلة، وأشبيلة، وقادس، وغرناطة، وغيرها
ثم انظر إلى هذا الفتى الذي لم يتجاوز السابعة عشرة من العمر بعد، كيف اخترق السند وظل ممعنا بفتوحاته، حتى ادخل الهند ضمن الإمبراطورية الإسلامية. أليس بفضل معجزات الإسلام يربط هذا الفتى (تورس) غرب باريس ببحر الهند على ما بينها من الشقة الواسعة والمسافة النائية؟
أفلا يعد معجزة في الإسلام أن يضاهي عصر المأمون في بغداد عصر بركليس في اثينة، وعصر الناصر في الأندلس عصر أغسطس في رومية؟ ونحن الذين كنا بالأمس نرعى الإبل والشاء ونأكل الضباب والعظاة.
انظر إلى ما يقوله فينا (غوستاف لوبون) في كتابه (زعم المؤرخون أن التأثيرات العلمية والأخلاقية العجيبة التي أثرها المسلمون في العالم كان بفضل مادياتهم، ولكن لا يصح اليوم أن نجهل أن هذه المؤثرات قد دامت في مجراها حتى بعد أن أضاع المسلمون مادياتهم ونفوذهم السياسي، فإن المسلمين في الصين يزيدون على عشرين مليوناً، وفي الهند على خمسين، ولا يزال هذا العدد في نمو وإن المسلمين بعد الرومان هم الأمة الممدنة الوحيدة التي نجحت في نقل تهذيبها الاجتماعي ودينها وأوضاعها وعلومها إلى العناصر المختلفة التي افتتحها وتسربت بينها. هذا التأثيرات لا تضمحل بل على العكس نراها آخذة في النمو، تتعدى الحدود التي بلغتها في أيام القوة المادية. إن القرآن وما اشتق منه هو إلى الفطرة بحيث يلتئم مع حاجات الناس الأولية، حتى أن قبوله آخذ حكمه على مر الدهور لا يعوقه عائق؛ وحيث ينزل المسلمون ولو كانوا تجاراً سذجاً تتدخل أوضاعهم ومعتقداتهم وكلما توغل الرواد من أهل المدينة الحديثة في صميم أفريقية شاهدوا قبائل تنتحل الإسلام. والمسلمون الآن يمدنون قبائل أفريقية على نحو ما يستطيعون ويجاهدون في تلك القارة الغربية على حين يطوف الأوربيون في الشرق فاتحين كانوا أو متجرين ولا يتركون وراءهم أثراً لنفوذ أدبي أفبعد هذه الشهادة تطلب من الإسلام معجزة وله في سجل التاريخ مثل هذه الصفحة الرائعة المجيدة؟
(شرق الأردن)
خليل جمعة الطوال