مجلة الرسالة/العدد 232/فلسفة التربية كما يراها فلاسفة الغرب

مجلة الرسالة/العدد 232/فلسفة التربية كما يراها فلاسفة الغرب

مجلة الرسالة - العدد 232
فلسفة التربية كما يراها فلاسفة الغرب
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 12 - 1937



للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 3 -

(خلق الله تعالى الإنسان وأودعه بذرة كماله المنشود، ثم

المنشود ثم تركه للمعلم ينمي فيه هذه البذرة حتى إذا ما اشتد

ساعده واصل تربية نفسه بنفسه محققاً إرادة السماء)

,

بينت في المقال السابق ما بين الفلسفة والتربية من علاقة، وذكرت فحوى فلسفة التربية الحديثة لدى جون ديوي ومدرسته وسأتناول في هذا المقال معنى التربية وضرورتها وقدرتها:

أما معناها فكان وما زال موضع خلاف في التصور والتعبير، فمثلاً دائرة معارف تقول: (إن كل شيء يعلم الإنسان وان التربية على الخصوص هي صب الأطفال في قالب خاص) (أنظر فصل كيف نتصور التربية) (التربية تطور متناسق للملكات يتفق وطبيعة العقل)؛ هذا بينما يقول بستالوتزي: (كل عمل المعلم هو أن يمنع ما يعرقل طبيعة الناشئ حتى تستطيع أن تنمو نمواً طبيعياً على مثال صورة الله تعالى)، وبينما يقول ديوي: (التربية هي الأسلوب الذي يصير المرء في امتلاك متواصل متزايد لنفسه ولقواه، بواسطة الاشتراك المتواصل المتزايد في أعمال الجنس)

هذا ويعلل لنا الأستاذ أمين مرسي قنديل عدم الاتفاق على تعريف جامع مانع للتربية بقوله: (التربية من حيث هي علم لم يستقر، بعد فهي لا تزال في دور التحول والتكوين) (انظر أصول التربية والتعليم ج 2ص35)

ومهما يكن من شيء فالأستاذ هورن التربية على نحوين: نحو عام هو تلك (العملية) الطويلة الهائلة التي يتعلم فيها الجنس البشري تحت رعاية ذلك (الروح الأبدي) المتجلي في الطبيعة والإنسان؛ ونحو خاص هو (عملية) المدرسة منذ روضة الأطفال إلى نهاية المدرسة العليا. ولذلك كانت دراسة التربية من حيث معناها العام دراسة للمدنية بأجمع ودراستها من حيث معناها الخاص دراسة لتاريخها ومثلها الأعلى وفنها العملي وفلسفتها (انظر هذا عن معناها. وأما ضرورتها فها هو (هربارت) يقول: (إنها (أي التربية) مهمة دينية ورسالة مقدسة!) وهاهو (كانت) يزعم (أن الإنسان لا يصير إنساناً إلا بها)!! ولا شك إنا نستطيع أن نلمس ضرورتها في نواح عديدة أهمها الثلاث الآتية:

1 - الناحية النفسية

ذلك إنا إذا أخذنا طفل (الرجل المتمدن) وألقيناه في إحدى الغابات، وفرضنا أن الطبيعة سترعاه حتى يستطيع أن يطعم نفسه ويدافع عنها، لوجدنا أن نشأته بين الأشجار ستكون بدائية بحتة ترجع بالإنسانية آلاف السنين إلى الوراء

وكذلك قد لوحظ أن الطفل الاسكتلندي الأصل إذا ما انتقل إلى الوسط الفرنسي تغير كثيراً وأضحى غير زملائه في وسطه الأول

ومعنى هذا أن الوراثة الاجتماعية تعدل في الوراثة البيولوجية تعديلا خطيراً. ومادام الأمر كذلك فمجال (الإمكان) في التربية إذن فسيح، ومجال سلطانها على مستقبل الناشئ، بل والعالم كله، من حيث السعادة والشقاء، والتقدم والتأخر، إذن عظيم وخطير! يؤيد ذلك قول تورندايك في (إن التربية اعظم مساعد للناس جميعاً على تحقيق خيرهم المطلق) وقول الأستاذ آدم سمث في (إن الفرق في كثير من الأحيان بين الفيلسوف ورجل الشارع ناشئ في العادة من التربية اكثر مما هو ناشئ من الطبيعة)، وقول هيوم (هما المران والممارسة ينشئان العامل الماهر)

بل إن البعض ليذهب إلى اكثر من ذلك فهم يدعون أن علم الوراثة سيستطيع أن يقدم للتربية في الغد ما يمكنها من (خلق) العقل والجسم المنشودين!!

2 - الناحية الاجتماعية

والإنسان فضلا عما تقدم كائن اجتماعي. ولما كانت الحياة في ذاتها نمو وتطور وتجدد كانت التربية هي الأداة الفعالة التي يستطيع المجتمع أن يحفظ بها كيانه ويجدد نفسه. وكلما تعقدت أساليب الحياة في المجتمع احتيج إلى تربية نظامية دقيقة، والأفراد يموتون ولكن الجماعة تبقى!، والصغير محتاج - كما يواصل حياة الجماعة فيما بعد - إلى أن يأخذ من الكبير الذي سيموت تاركاً له التراث الأكبر!، فيجب إذن (ترقيع) الجماعة دائما! وإلا فلا يجد الصغير درعاً يساعده على البقاء! ومعنى هذا أن التربية في الجماعات المتمدنة قد أصبحت تقوم مقام الصلاحية للبقاء في الحيوانات والجماعات المتوحشة!

زد على هذا أن الجماعة لكيما تكون وحدة ناجحة سليمة يجب أن تتحد في المطامح والعقائد والفهم العام. وليس كالتربية وسيلة لتحقيق مثل تلك الوحدة الناجحة. ذلك أنها ترتب الميول المراد تنميتها وتساعد عملية النمو؛ كما أنها تطهر وترفع مستوى العادات الاجتماعية القائمة؛ وتوجد بيئة متوازنة، هي المدرسة، تعد الطفل لمواجهة البيئة الكبرى. . .

3 - ناحية النمو

ويقول السير جون آدمز إن اغلب تعاريف التربية تحوي معنى النمو. فكومنيوس وبستالوتزي مثلاً يتفقان في أن العقل كالبذرة ينمو من الداخل. والحق أن الحياة في الفرد وفي المجتمع وفي تاريخ الكائنات جميعاً ليست إلا عملية نمو هائلة متسلسلة ينطق بها لسان التطور؛ ويحتاج النمو الصالح إلى مرونة تجدها التربية في الطفولة والشباب. وبهذه المرونة نتعلم من التجربة ونكتسب العادات الآلية التي تضمن لنا السيطرة على الطبيعة، وحسن التكيف في الموقف الجديد، والاختراع والابتكار والخلق والإبداع

وما دام الأمر أمر نمو فان المدرسة الحديثة تعارض فكرة الأعداد (للغد فحسب) كل المعارضة حتى لا تصرف المتعلم عن فرصة الحياة الحاضرة بما فيها من ميزات

يقول (ديوي) في (المدرسة والاجتماع ترجمة الأستاذ قندلفت): (لا يتاح لأمة أن تفي حق الأمانة لنفسها إلا بان تكون أمينة على إنماء أفرادها التي تتألف منها. ولا عامل كالمدرسة ينيلها ما تريد)

بقي بعد ذلك أن نتكلم عن قدرة التربية كما أشرنا إلى ذلك من قبل. والحق أننا نستطيع أن نتحدث هنا دون أي حرج. وها هو ذا إرازمس , يقول انه لو سيطر على التربية بضع سنوات لغير الدنيا. وبسمارك يردد: (إن من يدير المدرسة يوجه مستقبل الأمة. . .) وقديماً حاول أفلاطون أن يخلق المدينة السعيدة الفاضلة بالتربية. وحديثاً يسود الإنجليز ويستمدون عظمتهم من تربيتهم لا من جيوشهم وأساطيلهم.

وأخيراً إذا كان العالم يسير اليوم متشائماً نحو الحرب والدمار فلأنه قد نشأ نفسه وا أسفاه على أساس من تربية فلسفتها البقاء للأصلح، وقوامها الوطنية الكليلة والقومية الحمقاء!!!؟

لذلك كله يرجو دعاة السلام والإصلاح من التربية خيراً جزيلاً؛ ويحاولون جهدهم أن يستغلوا (إمكانات) علم النفس في تعديل الغرائز وتهذيبها والتسامي بها أيما استغلال، ولكنهم يشعرون - واشعر معهم - انهم لا يزالون بعد في حاجة قصوى إلى إقناع الساسة والشعوب بفلسفتهم الجديدة القائمة على أن العالم هو الوطن الأكبر، وعلى أن الإنسانية في التعاون والتعاضد والبناء والتشييد، لا في التنابذ والتحاسد والتخريب والتدمير. .!!

فهل يستطيعون لهذا الإقناع سبيلا وأبواق الحرب تهرف في كل مكان بدعاية مجنونة، ورجال السلاح ينفثون سمومهم وأحقادهم ومطامعهم في نفوس بريئة لا تملك النقد ولا تعرفه؟؟

وكيف السبيل لذلك الإقناع ورجال الحرب يسيطرون على الحكومات ويوجهون برامج التعليم إلى حيث تتحقق فلسفتهم الجوفاء؟؟

ومصر في عصرها الديمقراطي المستقل الراهن أترى للتربية فيها فلسفة ناضجة؟؟ وإذا كان لها فلسفة ما: أفلا تتطلب هذه الفلسفة تعديلا يلتئم وحاجات العصر الجديد من ناحية، ويتمشى وحقائق علوم التربية الحديثة من ناحية أخرى؟؟

ذلك ما أدعوك للتفكير فيه أيها القارئ العزيز على ضوء الحقائق التي ذكرتها وساذكرها؛ وما اعدك بتناوله بعد الفراغ من هذا الموضوع

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية