مجلة الرسالة/العدد 232/الكميت بن زيد

مجلة الرسالة/العدد 232/الكميت بن زيد

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 12 - 1937



شاعر العصر المرواني

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 4 -

وأما الرواية الثانية في سبب المنافرة بين الكميت وخالد بن عبد الله فقد نقلها أبو الفرج الأصبهاني من كتاب محمد بن يحي الخراز، قال حدثني احمد بن إبراهيم الحاسب، قال حدثني عبد الرحمن بن داود بن أبي أمية البلخي، قال كان حكيم بن عباس الأعور الكلبي ولعاً بهجاء مضر، فكانت شعراء مضر تجيبه ويجيبهم وكان الكميت يقول هو والله اشعر منكم. قالوا فاجب الرجل قال أن خالد بن عبد الله القسري محسن إلي فلا اقدر أن أرد عليه. قالوا فاسمع بإذنك ما يقول في بنات عمك وبنات خالك من الهجاء؛ وانشدوه ذلك، فحمى الكميت لعشيرته فقال المذهبة:

(ألا حُيِّيتِ عنَّا يا مَدِينا)

فاحسن فيها، وبلغ خالداً خبرها، فقال لا أبالي ما لم يجر لعشيرتي ذكر فانشدوه قوله:

ومن عجبٍ علي لَعَمْرُ أمٍّ ... غَذتْكَ وغير هتيَّا يمينا

تجاوزتَ المياهَ بلا دليلٍ ... ولا علم تَعَسُّفَ مخطئينا

فانك والتحوُّلَ من مَعَدٍّ ... كهيلةَ قبلنا والحالبينا

تخطتْ خيرهم حَلْباً ونَسْئاً ... إلى الوالي المغادر هاربينا

كعنزِ السُّوءِ تنطح عالفيها ... وترميها عِصىُّ الذابحينا

فبلغ ذلك خالداً فقال: فعلها والله لأقتلنه. ثم اشتري ثلاثين جارية بأغلى ثمن، وتخيرهن نهاية في حسن الوجوه والكمال والأدب، فرواهن الهاشميات، ودسهن من نخاس إلى هشام بن عبد الملك فاشتراهن جيمعاً. فلما انس بهن استنطقهن فرأى فصاحة وأدباً، فاستقرأهن القران فقرأن، واستنشدهن الشعر فأنشدنه قصائد الكميت الهاشميات، فقال: ويلكن من قائل هذا الشعر؟ قلن: الكميت زيد الأسدي، قال: وفي أي بدل هو؟ قلن: في العراق ثم بالكوفة، فكتب إلى خالد: أبعث إلي برأس الكميت بن زيد. فبعث خالد إلى الكميت في الليل فأخذه وأودعه السجن. ولما كان من الغد أقرأ من حضره من مضر كتاب هشام واعتذر إليهم من قُتله، وآذنهم في إنفاذ الأمر فيه في غد. فقال لأبان بن الوليد البجلي وكان صديقا للكميت: أنظر ما ورد في صديقك، فقال عز عليّ والله ما به. ثم قام أبان فبعث إلى الكميت فأنذره فوجه إلى امرأته، ثم ذكر الخبر في خروجه ومقامها مكانه كما ذكر من تقدمه، وقال فيه: فأتى مسلمة بن عبد الملك فاستجار به، فقال: إني أخشى ألا ينفعك جوراي عنده، ولكن استجر بابنه مسلمة بن هشام، فقال: كن أنت السفير بيني وبينه في ذلك، ففعل مسلمة وقال لابن أخيه: قد أتيتك بشرف الدهر، واعتقاد الصنيعة في مضر، وأخبره الخبر

فأجاره مسلمة بن هشام، وبلغ ذلك هشاماً فدعا به ثم قال: أتجير على أمير المؤمنين بغير أمره؟ فقال: كلا ولكني انتظرت سكون غضبه. قال: أحضرنيه الساعة، فانه لا جوار لك. فقال مسلمة للكميت: إن أمير المؤمنين أمرني بإحضارك. قال: أتسلمني يا أبا شاكر؟ قال: كلا ولكني احتال لك. ثم قال له: إن معاوية بن هشام مات قريباً، وقد جزع عليه جزعاً شديداً، فإذا كان من الليل فاضرب رواقك على قبره، وأنا ابعث إليك بنيه يكونون معك في الرواق فإذا دعا بك تقدمت إليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك، ويقولوا هذا استجار بقبر أبينا ونحن أحق من أجاره

فاصبح هشام على عادته متطلعاً من قصره إلى القبر. فقال: من هذا؟ فقالوا: لعله مستجير بالقبر. فقال: يجار من كان إلا الكميت، فإنه لا جوار له، فقيل: فإنه الكميت قال: يحضر أعنف إحضار، فلما دعي به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه فلما نظر هشام إليهم اغرورقت عيناه واستعبر وهم يقولون: يا أمير المؤمنين، استجار بقبر أبينا وقد مات، ومات حظه من الدنيا فاجعله هبة له ولنا، ولا تفضحنا فيمن استجار به. فبكى هشام حتى انتحب، ثم اقبل على الكميت فقال له: يا كميت أنت القائل:

وإنْ لا تقولوا غيرها تتعرَّفوا ... نواصيها تردى بنا وهي شُزبُ

فقال: لا والله ولا أتان من أتن الحجاز وحشية، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه، ثم قال: أما بعد - فإني كنت أتدهدى في غمرة، وأعوم في بحر غواية، أخنى على خطلها، واستفزني وهلها، فتحيرت في الضلالة، وتسكعت في الجهالة، مهرعاً عن الحق، جائراً عن القصد، أقول الباطل ضلالاً، وأفوه بالبهتان وبالاً، هذا مقام العائذ مبصر الهدى، ورافض العماية، فأغسل عني يا أمير المؤمنين الحوبة بالتوبة، واصفح عن الزلة، واعف عن الجرمة، ثم قال:

كم قال قائلكم لعاً ... لك عند عثرته لعاثِرْ

وغفرتُمُ لذوي الذنو ... ب من الأكابر والأصاغر

أبني أُميَّةَ إنكم ... أهلُ الوسائل والأوامر

ثِقتي لكل مُلِمَّةٍ ... وعشيرتي دون العشائر

أنتم معادنُ للخلا ... فة كابراً من بعد كابر

بالتسعة المتَتَابعي ... نَ خلائفاً وبخير عاشر

والى القيامة لا تَزَا ... لُ لشافعٍ منكم وواتر

ثم قطع الإنشاد عاد إلى خطبته فقال: إغضاء أمير المؤمنين وسماحته وصباحته مناط المنتجعين بحبله، من لا تحل حبوته لإساءة المذنبين، فضلاً عن استشاطة غضبه بجهل الجاهلين.

فقال له: ويلك يا كميت، من زين لك الغواية، ودلاك في العماية؟

قال: الذي أخرج أبانا من الجنة، وأنساه العهد فلم يجد له عزما

فقال: إيه أنت القائل:

فيا موقداً ناراً لغيرك ضوءُها ... ويا حاطباً في غير حبلك تحطبُ

فقال: بل أنا القائل:

إلى آل بيت أبي مالكٍ ... مُناخٌ هو الأرحب الأسهلُ

نَمُتُّ بأرحامنا الدَّاخلا ... ت من حيث لا يُنكرُ المدخل

بِمُرَّةَ والنَّضْر والمالك ... ين رهطٌ هم الأنبل الأنيل

وبارَي خزيمةَ بدرَ السما ... ءِ والشمسَ مفتاحُ ما نأمل

وجدنا قريشاً قريش البطا ... حِ على ما بنى الأوَّلُ الأوَّل

بهم صلح الناسُ بعد الفسا ... دِ وحيص من الفتق ما رَعبُلوا

قال له: وأنت القائل:

لا كعبد المليك أو كوليدٍ ... أو سليمانَ بعدُ أو كهشامِ منْ يمتْ فقيداً ومن يح ... يى فلا ذُو إلِّ ولا ذو ذمام

ويلك يا كميت، جعلتنا ممن لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، فقال: بل أنا القائل يا أمير المؤمنين:

فالآن صرتُ إلى أُميَّ ... ةَ والأمور إلى المصايرْ

والآن صرت بها المصي ... ب كمهتدٍ بالأمس حائر

يا ابن العقائل للعقا ... ئل والجحاجحة الأخاير

من عبد شمس والأكا ... بر من أُميةَ فالأكابر

إن الخلافة والإلا ... ف برغم ذي حسد وواغر

دَلفا من الشرف التلي ... د إليك بالرِّفدِ الموافر

فحللتَ مُعتلجَ البطا ... ح وحلَّ غيرك بالظواهر

قال له: فأنت القائل:

فقل لبني أُمية حيث حلوا ... وإن خفَت المهندَ والقطيعا

أجاع الله من أشبعتموهُ ... وأشبع من بجوركم أُجيعا

بِمرْضِىِّ السياسة هاشميٍّ ... يكون حياً لأمته ربيعا

فقال: لا تثريب يا أمير المؤمنين إن أردت أن تمحو عني قولي الكاذب، قال بماذا؟ قال بقولي الصادق:

أورثتهُ الحَصانُ أمَّ هشام ... حسباً ثاقباً ووجهاً نضيرا

وتعاطى به ابن عائشة البد ... ر فأمسى له رقيباً نظيرا

وكساه أبو الخلائف مروا ... نُ سَنيَّ المكارم المأثورا

لم تجهم له البطاح ولكن ... وجدتها له معاناً ودورا

وكان هشام متكئاً فاستوى جالساً وقال: هكذا فليكن الشعر يقولها لسالم بن عبد الله بن عمر وكان إلى جانبه، ثم قال: قد رضيت عنك يا كميت. فقبل يده وقال: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تزيد في تشريفي، ولا تجعل لخالد عليّ إمارة، قال: قد فعلت وكتب له بذلك وأمر له بأربعين ألف درهم وثلاثين ثوباً هشامية وكتب إلى خالد أن يخلي سبيل امرأته، ويعطيها عشرين ألفاً وثلاثين ثوباً، ففعل ذلك وأما الرواية الثالثة فقد قال فيها أبو الفرج الأصبهاني: اخبرني احمد بن عبد الله بن عمار، قال حدثنا النوفلي علي بن محمد بن سليمان أبو الحسن، قال حدثني أبي قال: كان هشام بن عبد الملك قد اتهم خالد بن عبد الله، وكان يقال له إنه يريد خلعك فوجد بباب هشام يوماً رقعة فيها شعر، فدخل بها على هشام فقرأت عليه، وهي:

تألَّق برقٌ عندنا وتقابلت ... أثافٍ لِقِدْر الحرب أخشى اقتبالَهَا

فدونكَ قِدْرَ الحربِ وَهْيَ مُقرَّةٌ ... لكفَّيك واجعل دون قِدْرٍ جِعَالَهَا

ولن تنتهي أو يبلغَ الأمرُ حدَّهُ ... فَنَلْهَا برْسل قبل ألاّ تنالها

فَتَجْشمَ منها ما جَشمَتْ من التي ... بُسَورَاَء هَرَّتْ نحو حالكَ حالها

تَلاَفَ أمورَ الناس قبل تفاقُم ... بعُقْدَةِ حزمٍ لا تخاف انحلالها

فما ابرم الأقوامُ يوماً لحيلة ... من الأمر إلا قلَّدُوكَ احتيالها

وقد تخْبرُ الحربُ العوانُ بسرِّها ... وإن لم تَبُحْ من لا يريد سؤالها

فأمر هشام أن يجمع له من بحضرته من الرواة فجمعوا، فأمر بالأبيات فقرأت عليهم فقال شعر من تشبه هذه الأبيات؟ فأجمعوا جميعاً من ساعتهم أنه كلام الكميت بن زيد الأسدي، فقال هشام: نعم هذا الكميت ينذرني بخالد بن عبد الله، ثم كتب إلى خالد بخبره وكتب إليه بالأبيات، وخالد يومئذ بواسط فكتب خالد إلى واليه بالكوفة يأمره بأخذ الكميت وحبسه، وقال لأصحابه: أنه بلغني أن هذا يمدح بني هاشم ويهجو بني أمية فأتوني من شعره هذا بشيء فأتوه بقصيدته اللامية التي أولها:

ألا هل عَمٍ في رأيه متأمل ... وهل مدبر بعد الإساءة مقبل

فكتبها وأدرجها في كتاب إلى هشام يقول فيه: هذا شعر الكميت، فإن كان قد صدق في هذا، فقد صدق في ذاك

فلما قرئت على هشام اغتاظ، فلما قال:

فيا ساسة هاتوا لنا من جوابكم ... ففيكم لعمري ذو أَفانين مقول

اشتد غيظه، فكتب إلى خالد يأمره أن يقطع يدي الكميت ورجليه ويضرب عنقه، ويهدم داره ويصلبه على ترابها. فلما قرأ خالد الكتاب كره أن يستفسد عشيرته، وأعلن الأمر رجاء أن يتخلص الكميت، فقال: لقد كتب إلي أمير المؤمنين، وإني لأكره أن أستفسد عشيرته وسماه فعرف عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد ما أراد، فأخرج غلاماً له مولداً ظريفاً، فأعطاه بغلة له شقراء فارهة من بغال الخليفة، وقال: إن أنت وردت الكوفة فأنذرت الكميت لعله أن يتخلص من الحبس فأنت حر لوجه الله والبغلة لك، ولك على بعد ذلك إكرامك والإحسان إليك فركب البغلة وسار بقية يومه وليلته من واسط إلى الكوفة فصبحها، فدخل الحبس متنكراً، فخبر الكميت بالقصة، فأرسل إلى امرأته وهي ابنة عمه يأمرها أن تجيئه ومعها ثياب من لباسها وخفان ففعلت، فقال: ألبسيني لبسة النساء ففعلت، فخرج فمر بالسجان فظن انه المرأة فلم يعرض له، فنجا وانشأ يقول:

خرجتُ خروجَ القِدْحِ قدْحِ ابنُ مُقبِلٍ ... على الرًّغم من تلك النوابح والْمُشْلِ

علىَّ ثيابُ الغانياتِ وتحتها ... عزيمةُ أمرٍ أشبهتْ سَلَّةَ النّصْل

وورد كتاب خالد على والي الكوفة يأمره فيه بما كتب به إليه هشام، فأرسل إلى الكميت ليؤتى به من الحبس فينفذ فيه أمر خالد، فدنا من باب البيت فكلمتهم المرأة وخبرتهم أنها في البيت وأن الكميت قد خرج، فكتب بذلك إلى خالد فأجابه: حرة كريمة فدت ابن عمها بنفسها، وأمر بتخليتها، فبلغ الخبر الأعور الكلبي بالشام، فقال قصيدته التي يرمي فيها امرأة الكميت بأهل الحبس ويقول:

(إسْودِينَا وحْمِرِينَا)

فهاج الكميت ذلك حتى قال:

(ألا حُيِّيتِ عنَّا يا مدينَا)

وهي ثلاثمائة بيت لم يترك فيها حياً من أحياء اليمن إلا هجاهم وتوارى وطلب فمضى إلى الشام فقال شعره الذي يقول فيه:

(قِفْ بالديار وقوفَ زائِرْ)

ويقول:

يا مَسْلَمُ ابن أبي الولي ... د لَميِّتٍ إن شئتَ ناشر

اليوم صرتُ إلى أُمَيَّة والأمور إلى المصاير

فأذن له ليلاً، فسأله أن يجيره على هشام، فقال: إني قد أجرت على أمير المؤمنين فأخفر جواري، وقبيح برجل مثلي أن يخفر في كل يوم، ولكني أدلك فاستجر بمسلمة بن هشام وبأمه أم الحكم بنت يحيى بن الحكم، فإن أمير المؤمنين قد رشحه لولاية العهد، فقال الكميت بئس الرأي، أضيع دمي بين صبي وامرأة، فهل غير هذا؟ قال: نعم، مات معاوية بن أمير المؤمنين وكان يحبه، وقد جعل أمير المؤمنين على نفسه أن يزور قبره في كل أسبوع يوماً - وسمى يوماً بعينه - وهو يزوره في ذلك اليوم، فامض فاضرب بناءك عند قبره واستجر به، فإني سأحضر معه وأكلمه بأكثر من الجوار

فعمل ذلك الكميت في اليوم الذي يأتيه فيه أبوه، فجاء هشام ومعه مسلمة فنظر إلى البناء فقال لبعض أعوانه: انظر ما هذا؟ فرجع فقال: الكميت بن زيد مستجير بقبر معاوية بن أمير المؤمنين فأمر بقتله، فكلمه مسلمة وقال: يا أمير المؤمنين إن إخفار الأموات عار على الأحياء فلم يزل يعظم عليه الأمر حتى أجاره

عبد المتعال الصعيدي