مجلة الرسالة/العدد 232/للأدب والتاريخ
مجلة الرسالة/العدد 232/للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 17 -
(. . . إنه ليس معي إلا ظلالها، ولكنها ظلال حية تروح وتجيء في ذاكرتي. وكل ما كان ومضي هو في هذه الظلال الحية كائن لا يفنى، وكما يرى الشاعر الملهم كلام الطبيعة بأسره مترجماً إلى لغة عينيه، أصبحت أراها في هجرها طبيعة حسن فاتن مترجمة بجملتها إلى لغة فكري
(كان لها في نفسي مظهر الجمال ومعه حماقة الرجاء وجنونه ثم خضوعي لها خضوعاً لا ينفعني. . . فبدلني الهجر منها مظهر الجلال ومعه وقار اليأس وعقله، ثم خضوعها لخيالي خضوعاً لا يضرها. . .
(وما أريد من الحب إلا الفن، فإن جاء من الهجر فن فهو الحب. . .
(كلما ابتعدت في صدها خطوتين رجع إلي صوابي خطوة)
(لقد أصبحت أرى ألين العطف في أقسى الهجر، ولن أرضى بالأمر الذي ليس بالرضا، ولن يحسن عندي مالا يحسن ولن أطلب الحب إلا في عصيان الحب. أريدها غضبى، فهذا جمال يلائم طبيعتي الشديدة، وحب يناسب كبريائي. ودع جرحي يترشش دماً، فهذه لعمري قوة الجسم الذي ينبت ثمر العضل وشوك المخلب، وما هي بقوة فيك إن لم تقو أول شيء على الألم. . .
(أريدها لا تعرفني ولا أعرفها، لا من شيء إلا لأنها تعرفني وأعرفها. . . تتكلم ساكتة وأرد عليها بسكوتي. صمت ضائع كالعبث ولكن له في القلبين عمل كلام طويل. . .)
الرافعي
أوراق هدأت ثائرة الرافعي هوناً ما، وفاءت إليه نفسه، واعتدلت مقادير الأشياء في عينيه، وعاد إلى حالة بين الرضى والغضب، وبين الحب والسلوان؛ فاستراح إلى اليأس. . . لولا إثارة من الحنين تنتزع به إلى الماضي، وبقية من الشوق واللهفة على ما كان وفرغت أيامه من الحادثة لتمتلئ من بعد بالشعر والحكمة والبيان
ومضت سبع سنين والحياة تذهب به مذاهبها، والذكرى تغشاه في خلوته وتداعبه في أحلامه، والأمانيّ التي بعثرتها الكبرياء بدداً في أودية النسيان تتخايل له في شكول وألوان، وخواطره من وراء ذلك تعمل، ونفسه الشاعرة تحس وتشعر وتنفعل بما يتعاقب عليها من الرُّؤى والأحلام. وأتم نظم قصيدته البارعة في (أوراق الورد) في سنة 1931
أوراق الورد هو طائفة من الخواطر المنثورة في فلسفة الحب والجمال، أنشأه الرافعي ليصف حالة من حالاته، ويثبت تاريخاً من تاريخه، في فترة من العمر لم يكن يرى لنفسه من قبلها تاريخاً ولا من بعد
ويقول الرافعي إنه جمع في أوراق الورد رسائلها ورسائله. أما رسائله فنعم ولكن على باب من المجاز، وأما رسائلها فما أدري أين موضعها من الكتاب، إلا رسالة واحدة وجزازات من كتب ونتفاً من حديثها وحديثه
بلى، إن في أوراق الورد طائفة من رسائله إليها، ولكنها رسائل لم تذهب إليها مع البريد، بل هي من الرسائل التي كان يناجيها بها في خلوته، ويتحدث بها إلى نفسه؛ أو يبعث بها إلى خيالها في غفوة المنى، ويترسل بها إلى طيفها في جلوة الأحلام إلا رسالتين أو ثلاثاً مما في أوراق الورد. . . فلما أتم تأليفها وعقد عقدتها، بعث بها إليها في كتاب مطبوع بعد سبع سنين من تاريخ الفراق!
ولكن أوراق الورد ليس كله من وحي (فلانة)، وليست كل رسائله في الكتاب إليها؛ فهنالك الأخرى، هنالك صاحبة (حديث القمر)، تلك التي عرفها في ربوة من لبنان منذ تسع عشرة سنة، وهنا فلانة. . .
هما اثنتان لا واحدة: تلك يستمد من لينها وسماحتها وذكرياتها السعيدة، معاني الحب التي تملأ النفس بأفراح الحياة وهذه يستوحيها معاني الكبرياء والصد والقطيعة وذكريات الحب الذي أشرق في خواطره بالشعر وأفعم قلبه بالألم! لقد مضت سبع سنين منذ فارق صاحبته (فلانة) كان قلبه في أثنائها خالصا لها، ولكن فكره كان يدور على معاني الشعر يلتمسه من هنا ومن هناك؛ فلما اجتمع له ما أراد ضم أوراق الورد إلى أشواكه، وأخرجها كتاباً للفن أولا ثم لها من بعد
هو كتاب ليس كله من نبضات قلبه الذي يعشقها وما زال متيماً في هواها، ولكن فيه إلى جانب ذلك فكر المفكِّر وعقل الأديب وحيلة الفنان
بلى، إنه كان يحبها حباً لا يتسع القلب لأن يشرك فيه غيرها فكان (قلبه) لها من دون النساء جميعاً، ولكن الذكريات كانت تتوزع (فكره) فتوحي إليه من هنا ومن هنالك ومما يستجد على خواطره من بعد في معاني الحب والبغض والود والقطيعة
هو كتاب يصور نفسه وخواطره في الحب؛ ثم يصور فنه وبيانه في لغة الحب؛ ثم. . . ثم لا يصور شيئاً من بعد ما كان بينه وبين صاحبته على وجهه وحقيقته، إلا أن يتدبر قارئة ويستأني ليستخلص معنى من معنى على صبر ومعاناة في البحث والاستقراء
فما رأيت من رسالة فيها اللهفة والحنين، وفيها التذلل والاستعطاف، وفيها تصنع الغضب ودعوى الكبرياء، وفيها المنى الحالمة تواثب بين السطور في خفة الفراشة الطائرة؛ وما رأيت من معنى تحاول أن تمسكه فيفلت؛ فهو فصل يؤدي أداءه في قصة هذا الحب العجيب
وما قرأت من رسالة تصف ما كان في خلوة نفس إلى نفس، وتقص عليك في لغة الماضي حديث قلب إلى قلب، وتكشف لك عن سر الابتسامة ومعنى النظرة، وتتحدث إليك عن جمال الطبيعة وفلسفة الكون؛ فهو ذكرى من الماضي البعيد، كان حباً في القلب فصار حديثاً في الفكر، ثم استتبع شيء شيئاً
وما قرأت من قول مزوق، وبيان منمق، ومعنى يلد معنى، وفكرة تستجر فكرة، وعبارة تتوكأ على عبارة؛ فهو من أداء الفن وولادة الفكر.
ولقد تجد رسالة كلها حنين ولهفة، أو حادثة وذكرى، أو فن من الفن؛ ولقد تجد كذلك رسالة غيرها تجمع هذه الثلاثة في قرن؛ ففيها قلب ينبض، وذكر تعود، وبيان مصنوع
فإذا أنت عرفت هذه الثلاثة، عرفت الكتاب، وعرفت صاحبه، وخرجت منه بشيء
يبدأ أوراق الورد بمقدمة بليغة في الأدب يتحدث فيها عن تاريخ رسائل الحب في العربية بأسلوب هو أسلوب الرافعي، وإحاطة هي إحاطته، وسعة اطلاع لا تعرفها لغيره؛ وهذه المقدمة وحدها هي باب في الأدب العربي لم ينسج على منواله ولم يكتب مثله، تذكر قارئها ذلك النهج البارع الذي نهجه الرافعي العالم المؤرخ في كتابه (تاريخ آداب العرب) فكان به أول من كتب في تاريخ الأدب وآخر من كتب. . .
وتأتي بعد هذا الفصل مقدمة الرسائل، وفيها سبب تسمية الكتاب، وهو شيء مما كان بينه وبين صاحبته؛ يقول إنه كان في مجلسها يوماً ومعها وردة؛ فأخذت تحدثه عن الحب وعمر الحب، وعن الورد وعمر الورد، وكأنها تقول له: إحذر أن تجعل حظك من الوردة اكثر من أن تستنشيها على بعد من دون لمسة البنان، وأحذر في الحب. . . قال: (ثم دنت الشاعرة الجميلة فناطت وردتها إلى عروة صاحبها، فقال لها: وضعتها رقيقة نادية في صدري، ولكن على معان في القلب كأشواكها. . . فاستضحكت وقالت: فإذا كتبت يوماً معاني الأشواك فسمها أوراق الورد. . . وكذلك سماها)
ويمضي في هذه المقدمة يتحدث عن حبه، وآلامه في الحب ورأيه في الحب، وشيء مما كان بينه وبينها؛ ثم يتحدث عن نهجه في هذه الرسائل، وما أراد بها وما أوحاها إليه؛ في أسلوب كله حنين وكله شوق وألم
ثم تأتي بعد ذلك فصول الكتاب متتابعة على ما أوضحت طريقها من قبل: فيها حنين العاشق المهجور، وفيها منية المتمني وفيها ذكريات السالي، وفيها فن الأديب وشعر الشاعر؛ وفيها من رسائلها ومن حدثيها. . .
من أراد أوراق الورد على أنه قصة حب في رسائل لم يجد شيئاً؛ ومن أراده رسائل وجوابها في معنى خاص لم يجد شيئاً؛ ومن أراده تسلية وإزجاء للفراغ لم يجد شيئاً؛ ومن أراده نموذجاً من الرسائل يحتذيه في رسائله إلى من يحب لم يجد شيئاً؛ ومن أراده قصة قلب ينبض بمعانيه على حاليه في الرضى والغضب، ويتحدث بأمانيه على حاليه في الحب والسلوان - وجد كل شيء
وهو في الفن فن وحده، لا تجد في بيانه ومعانية ضريباً له مما أنشأ الكتاب وأنشد الشعراء في معاني الحب؛ على أنه بأسلوبه العنيف وبيانه العالي وفكرته السامية في الحب، لا يعرف قراءه في العربية. وكم قارئ استهواه عنوان الكتاب وموضوعه فتناوله بشوق ولهفة، فما هو إلا أن يمضي فيه إلى صفحات قليلة حتى تسلمه يمناه إلى يسراه إلى الزاوية المهملة في مكتبته، ثم لا يعود إليه. . . وكم قارئ كان لا يعرف الرافعي الشاعر الثائر العنيف في حبه وبغضه وكبريائه، فلما قرأ أوراق الورد عرفه فأحبه فاستخلصه لنفسه فما يعرفه من الأدباء إلا أنه مؤلف أوراق الورد
وكم وكم. . . ولكن أوراق الورد ما يزال مجهولاً عند اكثر قراء العربية وإن كان في مكتباتهم، لأن القارئ الذي يلذه أوراق الورد ما زال يتعلم في المدرسة كيف يقرأ ليستفيد ويضم فكراً إلى فكره، لا ليتسلى ويهرب من فكره! لأن العربية ليس لها قراء. . .!
ليت شعري أفي العربية كلها شاعر يستطيع أن ينظم ورقة واحدة من أوراق الورد أو يجمع معانيها في قصيدة؟ ابحثوا عن جمهور هذا الشاعر وقرائه يوم تسمعون قصيده. . .
أرأيت إلى المنجم الذي يمتد في الأرض ويتغلغل بعروق الذهب؟ إنه كنز، ولكن منذا يصبر على المعاناة في استخراجه والبلوغ إليه إلا أن يكون صاحبه أيد وقوة؟ إنه كنز يطلبه الجميع ولكنك لن تجد في الجميع من يقدر على استخلاصه من بين الصخور المتراكبة عليه وحواليه من طبقات الأرض إلا الرجل الواحد المحظوظ الذي يكون معه الصبر
إن أوراق الورد منجم من المعاني الذهبية، لو عرفه المتأدبون من شبابنا لوضعوا يدهم على أثمن كنز في العربية في معاني الحب والجمال يكون لهم غذاءً ومادة في الشعر والبيان
وكان الرافعي - رحمه الله - يعتز بأوراق الورد إعزازه بأنفس ما أنتج في أدب الإنشاء ويباهي ويفتخر؛ وما احسبه تعزى عن صاحبته بقليل إذ تعزى بما لقي من النجاح والتوفيق في إنشاء أوراق الورد؛ وكما تجد الأم سلوتها في ولدها العزيز عن الزوج الحبيب الذي طواه الموت، وجد الرافعي العزاء في أطفال معانيه عن مطلقته العنيدة. . . لقد فارقها ولكنه احتواها كتاب!
إن الأم لا تنسى زوجها الحبيب إذا فارقها وخلف بين يديها بضعة منه، ولكنها تجد العزاء عنه بشيء منه وإن قلبها ليخفق بذكراه في عيني هذا الحبيب الصغير. وكذلك لم ينس الرافعي ولكنه وجد السلوان. . . لقد أفلتت من يده ولكنها خلفت ذكراها معه، ذكرى حيةً ناطقة تتمثل معاني وكلمات في كتاب يقرأه كلما لج به الحنين فكأنه منها بمسمع ومشهد قريب!
يرحمه الله! لقد مات ولكن قلبه ما يزال حياً ينبض يتحدث عن آلامه وأشواقه في قلب كل محب يقرا كتابه فيجد فيه صورة من قلبه وعواطفه وآماله. . . يرحمه الله!؟
(طنطا)
محمد سعيد العريان
هنا ينتهي حديث الرافعي العاشق لنبدأ عنه من الأسبوع المقبل إن شاء الله في حديث جديد