مجلة الرسالة/العدد 235/أناشيد صوفية

مجلة الرسالة/العدد 235/أناشيد صوفية

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 01 - 1938



جيتانجالي

للشاعر الفليسوف طاغور

بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب

- 57 -

انتظم في نشيدي الأخير كل فنون الطرب: الطرب الذي يكسو وجهه بخضرة النبات المتراكم؛ الطرب الذي يبعث التوأمين - الموت والحياة - في أنحاء الأرض يطوفان معا؛ الطرب الذي يهبط جارفاً في ثنايا عاصفة فينفث في الحياة روح اللذة والمرح، الطرب الذي يستقر في هدوء وعبراته على زهرة اللوتس الحمراء وهي تتفتح؛ الطرب الذي ينثر كل ما يملك على الثرى ثم هو لا يستطيع حديثا.

- 58 -

نعم، أنا أوقن بأن هذا ليس شيئا سوى حبك، يا حبيب القلب! هذا الشعاع الذهبي المتألق على أوراق الشجر، هذه السحب المتكاثفة وهي تسبح في الفضاء، هذا النسيم العليل وهو يهب ندياً يداعب وجهي.

لقد ملأ نور الصباح عينيّ، وهو رسالتك إلى قلبي، إن وجهك يطل على من علٍ، وعينيك تحدقان في، وقلبي يلمس قدميك.

- 59 -

على شاطئ بحر الكون اللانهائي يتلاقى الأطفال، ومن فوقهم السماء تمتد في سكون إلى اللانهاية، وبازائهم الأمواج المضطربة تزمجر، وعلى شاطئ بحر الكون اللانهائي يتلاقى الأطفال في هياج ومرح.

وهم يتخذون من الرمال قصورا، ومن الأصداف الفارغة لعبا؛ ويشيدون من الأوراق الذابلة قوارب يدفعون بها على صفحة الماء الغمر في لذة. إن الأطفال يجدون السلوة على شاطئ بحر الكون.

إنهم لا يستطيعون السباحة ولا يعرفون كيف تلقى الشباك. إن الغواص يندفع يفتش عن اللآلئ، والتاجر ينطلق على الفلك يجمعها، ولكن الأطفال يجمعون الحصى وينثرونه لأنهم لا ينقبون عن الكنوز الخفية، فهم لا يعرفون كيف تلقى الشباك.

البحر يموج كأنه يقهقه، ورمال الشاطئ الصفراء تشف عن بسمة رقيقة، والأمواج إلى جانب الأطفال تردد أغاني لا معنى لها كأنها صوت أم تهدهد طفلها وهو في مهده. إن البحر يداعب الأطفال، ورمال الشاطئ الصفراء تشف عن بسمة رقيقة.

على شاطئ بحر الكون اللانهائي، يتلاقى الأطفال والعاصفة تزمجر في الفضاء، والسفن تتحطم في مجاهل الأمواه. الموت هناك، وهنا الأطفال يلعبون. على شاطئ بحر الكون اللانهائي يتلاقى الأطفال لقاءهم العظيم.

- 60 -

أفيستطيع إنسان أن يعرف من أين يهبط النوم الذي يداعب جفني الطفل؟ نعم، إن الإشاعة تدوي أنه يتخذ له مسكنا في القرية الجميلة التي بين تفاريق الغابة الظلماء لا ينيرها سوى الشعاع الضئيل المنبعث من الفراش المضيء، هناك تتدلى زهرتان فيهما الحياء والفتنة تنفثان ريح النوم فينطلق ليقبل عيني الطفل.

أفيستطيع إنسان أن يعرف من أين تهب البسمة الساحرة التي ترسم على شفتي الطفل وقد غمره النوم؟ نعم، إن الإشاعة تدوي أن شعاعاً رفيقاً ندياً انبعث من القمر وهو هلال فلمس حافة سحابة من سحب الخريف وهي تكاد تتلاشى، فولدت - أول ما ولدت - الابتسامة في أحلام الصباح الندي. . . هذه هي الابتسامة الساحرة التي ترتسم على شفتي الطفل حين يغمره النوم.

أفيستطيع إنسان أن يعرف أين كان يتوارى النشاط الحلو الرقيق الذي يضطرم في أطراف الطفل؟ نعم، حين كانت الأم فتاة ألقت بقلبها في هدوء بين خفايا الحب. . . الحب، إنه هو النشاط الحلو الرقيق الذي يضطرم في أطراف الطفل.

- 61 -

حين أحمل إليك - يا بني - اللعب الجميلة الملونة أستطيع أن أعرف لماذا ارتسمت هذه الألوان على السحب، على الماء، ولماذا صبغت الأزهار اليانعة بألوان جذابة. . حين أحمل إليك - يا بني - اللعب الجميلة الملونة، حين أغني أمامك لترقص على نغم أغاني؛ أعرف حقا لماذا تنبعث الموسيقى من حفيف أوراق الشجر، ولماذا يرسل الموج ألحانه في قلب الأرض الصامتة. . حين أغني أمامك لترقص على نغم أغاني.

حين أقدم لك الحلوى فتتقبلها في شغف؛ أعرف أنا لماذا امتلأ كأس الزهرة رحيقا، ولماذا انضمت الفاكهة على عصير حلو. . . حين أقدم لك الحلوى فتتقبلها في شغف.

حين أقبل جبينك - يا عزيزي لتبسم؛ أستطيع أن ألمس اللذة في شعاع الصباح المنير، وأن أحس النشوة التي تنفثها في نسمات الصيف. . . حين أقبل جبينك لتبسم.

- 62 -

أنت عرّفت علي أصدقاء لا أعرفهم، وحبوتني بمكان في كل دار وليس لي واحدة منها، وأنت كشفت لي عن كل مبهم، ومننت علي برفيق في الغربة.

إن قلبي ليضطرب حين أهجر مأواي الذي سكنت إليه. لقد نسيت أن القديم يتحدر إلى الحديث فيعيش معه، وأنك أنت أيضا.

بين صراع الحياة والموت، على هذه الأرض أو على سواها، تقودني أنت أنى شئت. . . وأنت رفيقي الأوحد في هذه الحياة الأبدية، رفيقي الذي تجذب إليك قلبي بنفثات من الطرب المجهول.

إن الذي يعرفك لا يستشعر الغربة في هذا العالم ولا تسد في وجهه الأبواب. أوه، تقبل صلواتي كي لا أفقد لذة لمساتك - أيها الفرد - في سبيل المجموع.

- 63 -

عند منحدر النهر الموحش، وبين الحشائش النامية سألتها (يا سيدتي، إلى أين تذهبين وأنت تسترين سراجك بين طيات ملاءتك؟ إن داري مظلمة خاوية فأعيريني ضوءك!) فأرسلت من عينيها السوداوين نظرات نفاذة اخترقت أستار الظلام، واستقرت علي حينا ثم قالت (لقد جئت إلى النهر لأضع مصباحي على صفحة الماء حين ينطفئ مصباح النهار) فوقفت وحيداً بين الحشائش أرقب نور مصباحها الخافت وهو يتناثر بدداً على صفحة الماء.

وفي صمت الظلام سألتها: (يا سيدتي، لقد همد مصباحك فإلى أين تنطلقين ومعك سراجك؟ إن داري مظلمة خاوية فأعيريني ضوءك!) فأرسلت من عينيها السوداوين نظرات نفاذة استقرت علي حيناً، ثم قالت: (لقد جئت لأقدم مصباحي إلى السماوات) فوقفت أرقب الضوء الخافت وهو يضطرب - دون جدوى - في الفضاء.

وفي أعماق الليلة الظلماء سألتها: (يا سيدتي، لماذا تضمين مصباحك إليك؟ إن داري مظلمة خاوية فأعيريني ضوءك!) فتلبثت قليلاً تفكر نظرت إلي وقالت: (لقد جئت بمصباحي لأنضم إلى الحفل) فوقفت أرقب الضوء الخافت وهو يغوص وسط المصابيح.

كامل محمود حبيب