مجلة الرسالة/العدد 235/بين القاهرة واستنبول

مجلة الرسالة/العدد 235/بين القاهرة واستنبول

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 01 - 1938



للدكتور عبد الوهاب عزام

- 4 -

متاحف طوب قبو سراي

يا أخي صاحب الرسالة:

سلام عليك والله يرعاك

أكتب إليك اليوم بعض ما شهدته أمس في متاحف قصر طوب قبو الذي كان مباءة السلاطين عصورا متطاولة. وعسى أن أكتب إليك من بعد طرفا من تاريخ هذا القصر الأفيح الذي يمتد على إحدى هضاب المدينة من جامع أيا صوفيا إلى رأس السراي (سراي بورنو) على بحر مرمرة:

للقصر أسوار بعد أسوار. الأبواب الخارجة تؤدي إلى حدائق واسعة. وقد ذكرت في رسالتي السابقة أحد هذه الأبواب حين ألجأني المطر أليه.

سرنا في الحديقة حتى انتهينا إلى باب آخر أسمه باب السلام فولجناه إلى حديقة أخرى واسعة تحيط بها أروقة، ويبدو فيها إلى اليسار بناء ذو قباب، أمامه رواق جميل. دخلنا فإذا حجرتان تتصل بهما حجرة مغلقة. اسم هذا البناء (قبة آلتي) أي تحت القبة. وكان في العصور الغابرة مجلس الوزراء. وكان الوزراء من اجل هذا يسمون وزراء القبة أو جلاّس القبة (قبة نشين). فالحجرة التي إلى اليسار فيها أرائك للوزراء تتوسطها أريكة الصدر الأعظم.

ويرى فوق مجلس الصدر نافذة عليها شباك من الحديد ناتئ كان السلاطين يشرفون من هذه النافذة ليسمعوا مفاوضة الوزراء أو يروا استقبال الصدور السفراء. وكتبت إلى جانب النافذة كلمة الشهادة وطرتان، بخط السلطان أحمد الثالث، والحجرة التي إلى اليمين كانت للكتّاب وفيها طرة للسلطان مصطفى الرابع، وسجادة يقال إنها نسجت قبل خمسة قرون. وكانت الحجرة المغلقة لاستراحة الكتاب.

وبني هذا البناء في عهد سليمان القانوني سنة 933.

ووراء هذه البَنيّة برج يعلو في الهواء 42مترا عليه منظرة تطّلع على المدينة كلها وكان حوله بناء.

وعلى مقربة من (قبة آلتي) حجرة كبيرة هي اليوم خزانة الأسلحة القديمة أسلحة الملوك والأمراء. يرى الداخل أمامه بلطات كثيرة من سلاح مماليك مصر، والى يمينه خزائن زجاجية يطّلع فيها على سيوف لبايزيد وسليمان. وهذا سيف السلطان الغوري وهذا سيف طومان باي. وأما سيف قايتباي هذا فقد طبعه من حديد وجده عند الحجرة النبوية سنة 881. وهذان سيفان لمحمد الفاتح؛ هذا الطويل المحلى للمحافل، وهذا القصير العاطل للمعارك.

وبينا نتأمل هذه السيوف ونعجب من قدمها، أرانا المعرض ما هو ابعد في التاريخ وأجل شأنا؛ هذا سيف عليه اسم معاوية وهذه سيوف أموية طويلة مستقيمة، وهذا سيف لعبد الله بن عمر، وآخر لكعب الأحبار. وهذا السيف الطويل العريض المذّهب قائمه قد كتب عليه: (معاذ بن جبل كاتب رسول الله) بل هذا سيف عثمان بن عفان. سعدت حينا بالذِكَر ولم أكدرها بتحقيق الأسانيد.

وتقدمت قليلا لأرى دروعا لمماليك مصر: وهذه درع كاملة: قميص وسراويل وعلى الصدر أضلاع من الحديد.

ومشيت إلى جانب آخر من الحجرة فرأيت الأقواس والسهام ريشها ونصالها، والجُعَب، وهي قِسىّ تركية من نبات القرنين العاشر والثالث عشر هـ. وهذه جعاب (تراكش) محلاة مزركشة، وهذه درع هنجارية محلاة الصدر بالذهب والفصوص الكريمة، وهذه درع كتب عليها اسم الشاه عباس الصفوي، ولا أدري أي العباسين الأول أم الثاني؟

وليت شعري لمن هذه الدروع التي اتخذت جُنة من الآيات والدعوات تقرأ عليها: يا خفيّ الألطاف نجنا مما نخاف. فالله خير حافظا، يا مالك الملك، يا منجي من المهالك، أنت الباقي وكل شيء هالك. وبيِّن أن السجع يقتضي أن يكون: يا مالك الممالك الخ ولعله تحريف الكاتب أو الطابع.

سنتقدم ونمر إلى خفتانات من الجلد أو النسيج الصفيق ومغافر من الجلد والحديد. بل هذه مغافر للخيل؛ والفرس صديق الفارس في المآزق يحتاط له كما يحتاط لنفسه. وكانت الخيل تلبس المغافر على رؤوسها والتجافيف على أبدانها. وفي شعر أبي الطيب:

حواليه بحر للتجافيف مائج ... يسير به طود من الخيل أيهم

ثم ترى قوائم أعلام يعلم الله ما شهدت من ظفر وهزيمة، ثم بنادق من عصور مختلفة فيها المحلى بالصدف الذي يضرب بالزند والصوان، وفيها بنادق القلاع الثقيلة، وضروب أخرى كثيرة.

- 2 -

تركنا خزانة السلاح وسرنا حتى اجتزنا الباب الثالث إلى رحمة واسعة، ويفضي الباب إلى رواق مستطيل مع الجدار، وعلى الباب من الداخل كتابة وثلاثة ألواح مستديرة فيها أسماء السلاطين وتواريخ ولايتهم ووفاتهم من عهد عثمان إلى محمد السادس وهي تشغل لوحين ونصف الثالث، وبقي الفراغ فيه ناطق بانتهاء الدولة.

وأمام الباب حجرة يتقدمها رواق. وهي حجرة العرض (عرض أوده سي) وكانت مجلس السلطان لمقابلة السفراء، ورجال الدولة أيام الأعياد وفيها سرير منجد تعلوه قبة من الخشب المصنع المزين وكان أثاث الحجرة وزينتها من آيات الإتقان والبذَخ ولكنها احترقت سنة 1273 وبقي بعض آثارها.

وفي جانب الحجرة نافورة يقال إنها كانت تفتح حين يُسر السلطان حديثه حتى لا يسمع الذي في الخارج.

وفي الرواق الذي أمام الحجرة حجر من المرمر يقال إن قتلة السلطان سليم الثالث وضعوا جثّته عليه وأروها للصدر علمدار مصطفى باشا.

وتقدمت فملنا ذات اليمين إلى (الخزينة) وفيها من نفائس التاريخ وأعلاق الملوك ما يكل الطرف دون تأمله؛ الحجرة الأولى والثانية بهما أدوات الطعام والقهوة من الصيني الجميل في ندرة من الألوان، وفتنة من بدائع النقش، صحون وطسوت وأباريق وفناجين، وأدوات من البلور والنحاس المذهب، وخوانات من الفضة ومواقد الخ الخ.

هذه المرائي اللألأة تبهر العين حيثما توجهت فتشغل الناظر عن التفكير فيما وراءها من التاريخ. قلت ماذا أرى وماذا أدع؟ هذه للعابر متعة دقائق، وللباحث درس أشهر، وللمفكر عبرة الدهر.

ثم حجرة الملابس، ياله منظرا مهيباً ومقاماً هائلا! صف ينتظم السلاطين من الفاتح إلى عبد المجيد. هاأنت ذا في حضرة السلاطين الذين رجفت بهم الأرض قرونا وامتلأت صفحات التاريخ أجيالا. هوّن عليك لا تُرَع. ما هي إلا ألبسة تحملها أعواد. أجل! هذه الجبة، وهذه العمامة الكبيرة، وهذه الشارة (سرغوج) التي تعلو العمامة محلاة بالماس، وهذا الخنجر المذهب الذي تثقله هذه الزمردة الكبيرة - أجل هذا لباس الفاتح وزينته وسلاحه، ولكن لا تُرَع إن هو ألا لباس على أعواد. اضحك إن شئت، وتحدث كما تشاء، ولا تأخذك هيبة الفاتح وصولته، وإن شئت فقف خاشعا مطرقاً مفكراً فإنها ذكرى واقعة وتاريخ ماثل، فإذا أخذتك سورة الذكرى واستشعرت رهبة الملك فارفع رأسك وانظر فليس أمامك الفاتح، ولكن جبته وقفطانه وعمامته وخنجره.

وانظر بجانبه ملابس بايزيد الصوفي: عقد من الزمرد حول حلقة من الجواهر يزين هذه العمامة، وعلى مقبض الخنجر ثلاث قطع من الفيروزج زرقاء صافية. وتقدمت فوقفت أمام سليم وسليمان! ولست أبالي حضرة سليم وسليمان، فقد ذهب الدهر بسليم وسطواته، وذهبت الريح بملك سليمان.

وانظر إلى من بعد سليم وسليمان: هذان سليمان الثاني ومحمد الرابع على رأسيهما عمارتان تخالفان ما رأيت قبلا، عمارة حمراء عليها لفافة صغيرة، وشارة عظيمة جداً؛ ثم انظر العمائم الطويلة المضلعة على رأس مصطفى الثاني ومن بعده.

وهذا محمود الثاني الذي بذل في اٌلإصلاح جهده وبطش بالإنكشارية بطشته في زي أوربي على رأسه طربوش عليه قطيفة سوداء وشارة. ثم عبد المجيد على رأسه الطربوش والشارة فقط. وهكذا يسير التاريخ متمهلا من أبهة الماضي واستقلاله وجلاله إلى يسر الحاضر وتقليده وجماله.

وفي وسط الحجرة صوالج لعبت بالأمور حتى لعبت بها الأقدار. وليت شعري ما خَطبُ هذا المهد السلطاني الصغير؟ بل أي طفل من بني السلاطين ترجّح فيه، وأي يد من أيدي الأميرات أو الخادمات هزته؟ وماذا كان حظ صاحبه من هذا المهد إلى ذاك اللحد؟

وأما هذا العرش العظيم المسبغ الجوانب ذو القوائم الأربع فيقال إنه عرش الشاه إسماعيل. . .

وبعد فيا صديقي الزيات! أخشى أن يطول الحديث فليقف الكلام عند عرش إسماعيل وموعدنا الرسالة المقبلة إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله.

عبد الوهاب عزام