مجلة الرسالة/العدد 235/في ليلة رأس العام

مجلة الرسالة/العدد 235/في ليلة رأس العام

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 01 - 1938



أنا. . . بين الطبيعة والله!

للأستاذ علي الطنطاوي

انصرف الطلاب إلى بنية النوم حين سمعوا الساعة الكبيرة تطنّ عشر طنات، وخلت ردهة المكتبة ونشر عليها الصمت أجنحته السود، فلم أكن ألمح في خلاله إلا رنين طنّات الساعة وأصداء أصوات الطلاب الذين كانوا هنا منذ لحظة واحدة يتسامرون ويتحدثون. . . ترن هذه الأصداء في أذني، فإذا أنا أراها بعيني تتراقص بين طيات الصمت الأسود حتى تنحدر إلى أغواره العميقة، ويشمل السكوت الرهيب بنية التدريس (في كلية بيروت الشرعية) ويتمدد في أبهائها وغرفها وممراتها. . .

فجلست أصغي إلى أناشيد الصمت التي كانت تسمع من حولي باستمرار فأجدها تملأ قلبي مرارة وأسى. . .

ثم رفعت رأسي فجأة إلى التقويم فنظرت فيه وجمد بصري عليه. . .؟ أمن الممكن هذا؟ أيحدث هذا كله في هدوء. . . يموت في هذه الليلة عام ويولد عام، يمضي الراحل بذكرياتنا وآلامنا وآمالنا إلى حيث لا يعود أبداً، ويقبل القادم فاتحا ذراعيه ليأخذ قطعة من نفوسنا، وقسما من حياتنا، ولا يعطينا بدلاً منها شيئاً. . . وهل الحياة إلا أعوام فوق أعوام؟ وهل النفوس إلا الذكريات واللذائذ والآلام؟

وجلست بين المأتم والمولد أفكر وأتذكر وأحلم. . . ولقد تعودت أن أجلس هذه الجلسة كلما تصرّم عام، أصفى حالي مع الحياة، أنظر ماذا أخذت، وماذا أعطيت، وأراقب هذه القافلة من السنين التي بدأت مسيرها منذ. . . منذ بدأ الزمان، لست أدري متى بدأ الزمان، والتي تنتهي حيث لا يدري أحد.

تعودت أن أعطي نفسي من فكري ساعة في العام، أفكر فيها في نفسي وفي الوجود. . .

نظرت فلم أجد إلا كتاب التفسير أحضر منه درسي الذي سألقيه غدا، وكتب البلاغة التي أكسر بها دماغي وأدمغة الطلاب في غير طائل. . . فنحيتها كلّها ووجدت ركام (الوظائف) التي يجب علي أن أنظر فيها وأصححها، وأقرأ كل ما تفيض به هذه القرائح الفتية من سخف وهراء، يدعوه أصحابه (إنشاء). . . فبعثرتها في غيظ وحنق. . .

أنا في هذا البلاء منذ عشر سنين، عشر سنين يالها من دهر طويل! كان ربيع حياتي، وزهرة شبابي، أضعته كله في هذا العناء، فماذا استفدت؟ لا شيء إلا أن أحرقت نفسي كالشمعة لأضيء لهؤلاء الفتية طريقهم إلى المجد، هؤلاء الذين أحببتهم وأخلصت لهم الحب، وعشت بهم دهراً ولهم، واعتصرت ماء شبابي لأنضر شبابهم، ثم فرّق الزمان بيني وبينهم، فلم أعرف مكانهم من الشام أو العراق، ولم يعرفوا مكاني لأنهم لم يفكروا في أن يعرفوه. . .

إذن فأنا أحترق كالشمعة! يا للحقيقة المرة المروّعة! يا لشمعة شبابي التي ذوت وخبت وأوشكت أن تنطفئ!

إني أعيش في العدم، أعيش في الماضي بالذكرى، وفي المستقبل بالأمل، مع أن الحاضر وحده هو الموجود، لقد مضى الغد إلى حيث لا رجعة ولن يأتي المستقبل أبدا. . .

أين هو هذا المستقبل؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يصل إليه؟ لقد جلست في مثل هذه الليلة من العام الذي يموت الآن، في شرفة منزلي بالأعظمية (بغداد) أحلم بالمستقبل بهذه الليلة التي كانت هي مستقبلي، أسعى إليها، وأؤمل أن أدركها، فلما أدركتها صارت (حاضرا)، وطفقت أسعى إلى مستقبل آخر. إنني كالثور يسعى ليدرك حزمة الحشيش التي يراها على شبر واحد منه فيهلكه السعي، ولا ينالها أبدا، لأنها معلقة بقرنيه تسعى أمامه!

يومض شعاع الأمل من بين فرج الغد، فنسعى لندركه فلا نجده إلا سرابا. إن الأمل مصباح لا يضيء إلا من بعيد. أفليس من سخافات الفكر الإنساني أن يضع في اللغة كلمة الأمل ولفظة المستقبل؟ أليس وجودهما في المعاجم دليلا على تأخر البشرية وانحطاطها، وأنها لم تدرك بعد حقائق الحياة؟

لقد كنت في (الأعظمية) غبيا جاهلا، لأني كنت مطمئنا متفائلا. كنت كلما ودعت بالخيبة عاما، انتظرت آمالي عند آخر، ولكني صحوت الآن فلا آسف على ماض، ولا أؤمل في مستقبل.

لقد قدر علي ألا أشهد ولادة العام إلا غريبا عن موطني بعيدا عن أهلي تارة في مصر، ومرة بالحجاز، وحينا في العراق. وهاأنذا الآن غريب من جهتين: هذا السد الهائل من الجبال: جبال لبنان بيني وبين أخوتي في دمشق؛ وهذا البحر الواسع بيني وبين أخي في باريس؛ والدهر والأبدية بيني وبين آمالي؛ والقبر بيني وبين والديّ؛ وأنا بعد هذا كله غارق في كتب البلاغة، (ووظائف) الإنشاء، نسيت مشروعاتي الأدبية التي رسمت خططها، وأقمت أسسها، وأهملت بحوثي ومطالعاتي، وبعت ذكائي ومواهبي وشبابي برغيف من الخبز. . .

هذا ما قدر عليّ، وإني راض بما قدر!

إني أعيش الآن بلا غاية، ولكن غايتي أن أعيش، أن أثبت وجودي في هذه الدنيا، كتلميذ كسلان ما جاء ليتعلم، ولكن ليعدّ في التفقد موجودا، أو موظف خامل مقصر. . .

فلماذا إذن أعيش؟

الآن لي حق الحياة؟ فلماذا لا يكون لي إذن حق الموت؟ ألا أملك أنا أمر نفسي، ولكن من أنا؟ ومن نفسي؟ أأنا اثنان في واحد؟. . .

إنني لا أستطيع التفكير في هذا. . .

وملأ نفسي الشعور بالوحشة، وأحسست في نفسي وفيما حولي فراغاً مخيفاً، وشعرت كأن هذه الغرفة تتسع ثم تتسع، حتى صار بين الجدران فضاء لا يدركه البصر!

ثم ضاق بي الفضاء - حتى كدت اختنق فيه، فخرجت إلى الشارع. . . وكان موهن من الليل. . .

تركت ميدان البرج يضحك بالكهرباء، ويرقص على ألحان الأشعة، التي تنسكب على الميدان من ذرى البنى الرفيعة فتغمره بجو فاتن وتسيل على جوانبه، وتنسج فوقه شبكة من الأشعة منسوجة من ملايين الخيوط الملونة بمئات الألوان، وتركت الناس يحتفلون بعيد رأس السنة، يتأملون معاني الوجود، وفلسفة الخلود، وحقيقة الزمان في هذه المراقص الصاخبة، الغارقة في الخمر والعهر. . .

ويممت شطر البحر أمشى في الطرق المظلمة المنعزلة الخالية إلا من أعقاب السابلة ممن هو حليف البؤس أو الرذيلة فخلا الجو لفكري فانطلق. . .

قالت النفس: إن العالم يموت، أفلا نودّعه بحسرة. . . أو نسكب على جثته عبرة؟

فلم يعرف العقل ما هو الموت ولم يصدق بوجوده. . .

قال العقل: ما هو الموت؟ إن كان انتقالا من حال إلى حال فليس موتا؛ وإن كان الموت عدما فإن العدم ليس له وجود أبداً.

قلت: ولكن أبي قد مات؟

قال: لا، إنه لم يمت، تذكره ويعيش حيّاً في ذاكرتك، وليس في الذاكرة شيء ليس له وجود في الواقع.

قلت: وأين يوجد؟

قال: لست أدري، هو في ذاكرة الكون.

قلت: إن العام يموت الآن!

قال العقل: إن العام (365) يوما وبعض من اليوم هو ست ساعات و (47) دقيقة، وبعض منها هو (33) ثانية، وبعض الثانية فلنفرض هذا البعض (20) ثالثة، وبعض الرابعة فلنفرض هذا البعض (25) خامسة وبعضا. . . وهكذا يمشي العقل حتى يصل إلى أصغر الأجزاء الزمنية، ولكنه لا يزال يمشي لا ينتهي أبدا. . . إن عام الهجرة مثلا لا تزال له بقية في الوجود، أجزاء من الزمن بالغة في الصغر حدا لا يدركه العقل، ولكن تدركه الذاكرة. . . إن هذه البقايا هي ذكريات الأعوام في نفس العام الجديد!

قلت: إني لم أفهم شيئا!

وقفز عقلي فجأة من أجزاء الزمن الصغيرة إلى الزمان المطلق، وراح يمشي على هذا الخط الطويل يقطعه في لحظة، ولكنه لا يستطيع أن يبلغ طرفيه، فلا يني يحاول بلوغهما ولا ينقطع عن السؤال. . . إلى أين ينتهي هذا الخط؟ من أين يبدأ؟ أليس له نهاية؟ ما هي اللانهاية؟

وذهب العقل يفكر: إن عمر عشر حشرات ساعة من عمري، وعمر عشرة رجال ساعة من عمر الصحراء، وعمر الصحارى كلها ساعة من عمر الشمس، فما هي الساعة إذن؟ ما هو العام؟ ما هي حقيقة الزمان؟

وما هو المكان؟ إني لم أر مكانا قط، ولم أر إلا موجودات لا أعرف نهايتها، ولا أدرك آخرها، فكيف لي أن أرى مكاناً ليس فيه شي؟ ما حقيقة المكان والزمان؟ ما عمرهما؟ ماذا وراءهما؟

ألا أستطيع أن أعرف هذا العالم الهائل الذي تحجبه عن عيني هذه الطبيعة كما تحجب الكف الدنيا الواسعة وهي كف واحدة. . .

وضجرت من هذه الفلسفة، فانصرفت عن العقل وتركته يهذي وحده.

وكنت قد بلغت البحر، فوقعت في حجر الطبيعة أتأمل وأناجي وأحلم. . .

لقد نفضت يدي من الناس ولجأت إلى هذه الطبيعة السخية الوفية الوادعة الجميلة أجد عندها أنس نفسي وراحة قلبي، أنظر إليها فتمحى هذه الأبعاد والمسافات، وتبدو لعيني لوحة فنية حافلة بالألوان التي لا يستطيع أبرع مصوّر أن يجمعها في لوحة. ومن لعمري يصوّر ألوان الغروب، أو ألوان الزهر في الروض أو يثبتها على لوحة بالألفاظ والأوزان أو بالأصبغة والألوان؟ إن الطبيعة أبرع في الألوان، ولكن الفن البشري أبرع في الأصوات. إن الطبيعة ليست موسيقية فنانة. . . عندها من الألوان مالا نهاية له ولكن ليس عندها إلا هدير الموج، وخرير النهر، وحفيف الأشجار، وتغريد البلابل، وسجع الحمام، وقصف الرعد. . . هذه موسيقاها، ومن هنا كانت الموسيقى أسمى الفنون لأنها ابتكار وتجديد، على حين أن الأدب والتصوير تقليد. . .

هذه الطبيعة التي أجد في حماها الحب والعاطفة والجمال، كلما لجأت إليها فراراً من الناس، وضيقا بالحياة، وما ذهبت مرة إلى بسّيمة وأطللت من (بيت طه) على هذا الوادي الصغير الذي يشبه همسة حلوة من همسات الحب، أو بيتاً بارعاً من قصيدة الجمال، إلا نسيت الدنيا كلها وأحسست أني مع حبيب قد وضع رأسه على فخدي، ونام. . . هذا الوادي الذي تجري فيه العين الخضراء لينة الأعطاف، فاتنة المحاسن، كأنها فتاة مدللة تخطر بحسنها وفتنتها على سفح الجبل، تغمز بردى بعينها وتغريه بجمالها وهو يلحقها جريا في بطن الوادي، متحدراً متكسراً كشاب قوي متين العود، جهير الصوت، قد اكتملت رجولته كما اكتملت أنوثتها، وأشجار الحَوْر (حُور كواشف عن ساق) يرقصن في عرس الفتاة المدللة والفتى القوي، رقصة الحب، يتمايلين على العروسين وقد تعانقا بعد قليل، وضم الفتى عروسه حتى اختفت بين ذراعيه، وطار بها إلى دمشق، لتكون جلوتها في الغوطة جنة الأرض. . .

وهذه الجبال الحمراء، تقوم على الباب، تحرس الوادي أن يدخله واش أو عذول يفجأ العروسين العاشقين، وتمنع الشمس الملتهبة أن تدنو منهما أو تعكر عليهما خلوتهما، فيبقى الوادي جنة تري من تحتها الأنهار، والدنيا من حوله في جحيم الصيف. . .

غبت في تأملي وأنا على شاطئ البحر فلم ينبهني إلا المطر يساقط على وجهي ويديّ، فنظرت فإذا السحب قد نسجت في السماء ليلاً آخر، وإذا المطر يهبط بشدة، ثم يستحيل بردا طياشا؛ ثم تهب الريح وتجن الطبيعة جنونها، فتنطلق تعول وتولول، وتنتف شعرها، وتحطم كل ما بلغته يدها، فماجت نفسي واضطربت كهذا البحر الذي يزمجر ويلكم صخور الشاطئ حتى تكل سواعده، فيستلقي على الرمال فلا تكون إلا لحظة حتى ينزل سوط الرياح على ظهره دراكا، فيهب فزعاً مرتاعاً، ويعود إلى ضرب الصخر في غير ما طائل، والريح تدير هذه المعركة كلها، تقفز على رؤوس الجبال، وتبعثر البرد يمينا وشمالاً، وتنثر الرياح ثم تجمعها ثم تعبث بها. . .

جنت الطبيعة جنونها، ولكني لم أخفها ولم تكبر في عيني، وإنما ازدريتها وأبغضتها، ما هذه المخلوقة الضعيفة العاجزة التي لا يدري بها أحد من سكان هذا الكون الواسع؟ لقد رأيتها من قمة لبنان نقطة، فكيف يراها المشتري؟ وهل يعبأ نجم القطب بثورتها وجنونها. .؟

وانصرفت إلى نفسي أفكر آسفا. . .

إن العام يتصرم وليس حولي صديق أطمئن إليه، وأحمل معه أعباء الوداع، وأشاركه دمعة يذرفها معي على الفقيد الراحل، وبسمة يمنحها هذا المولود الجديد. . .

عرفت أن الصداقة ليس لها وجود، فنفضت يدي منهم ولجأت إلى الطبيعة أتخذها صديقي المخلص وأوليها حبي وقلبي فكانت هذه هي النتيجة. صادقت مجنونة طياشة بكاشة لا تعرف إلا التخريب والتدمير وتجهل ما هو الحق، وما هو الشعور؟

أهذا كل ما لي عندك يا صديقتي؟ ألجأ إليك في ساعة من أحرج ساعات حياتي قد تركت فيها أهلي وعفت صحبي لألقى بنفسي في أحضانك، وأخفي وجهي بين ثدييك، وأنشق عبيرك الطاهر، وأغتسل بدموع محبتك وعطفك، وأدفن آلامي في صدرك، فلا تلفينني إلا بهذا الجنون وهذا العويل؟

كلا، إنك لا تعرفين الحق ولا الشعور!

وأين لعمري مكان الشعور من الطبيعة؟ أنا أشعر بجمال الربيع، ولكن هل يشعر الربيع بجمال نفسه؟ لقد رأت الكونتس دي نواي في الطبيعة مخلوقا حيا ذا شعور وعانقت الربيع، وجالست المساء، ولكن ماذا رأى الربيع في الكونتس دي نواي؟ هل يفرق الربيع بين الفتاة تقطف الزهرة لتقدمها بفمها إلى حبيبها، والبقرة تقطف الورقة لتملأ بها معدتها.

وأنت أيها الجبل؟ كم رأيت من الفواجع التي تفتت الأكباد وتذيب القلوب، فهل شعرت بشيء منها؟ هل حزنت هل تألمت؟

أشعرت بالأمس القريب يوم عصفت الأثرة برؤوس نفر من القواد، فأطفئوا بأفواههم شعلة السلام، وملئوا العالم ظلاماً ثم نهضوا يبنون من الجماجم مجدهم في التاريخ، فلما امتلأت الأرض بالدم وتغطت بالجثث، وغسلت بالدموع، وتجلببت بالآلام والأوجاع والثكل واليتم، ولما كان الأمهات يبكين أبناءهن الذين ضاعت قبورهم كما ضاعت أسماؤهم، والأطفال يهتفون: بابا. ينادون من ليس يجيب. . . كان القواد العظماء يحتفلون بالظفر. . . أشعرت بشيء من ذلك يا لبنان؟ أشعرت بالأرامل والصبايا والأطفال يفتشون عن الخبز. . الخبز الأسود، فلما لم يجدوه توسدوا رجلك ونظروا إليك صامتين. ثم ماتوا جائعين. . كما مات ألوف وألوف في سبيل مجد القواد الظافرين!

ألان قلبك الذي قدّ من جلمد الصخر؟ أذرفت يا لبنان من عيونك الصافية دمعة حنان؟

وكم رأيت يا لبنان من متع الحب! وكم أوى إليك العاشقون فاستظلوا بظلك، وتعانقوا في حجرك، وشربوا خمر العيون، وسكروا بنجوى الحب، وتحدثوا بوسوسة القُبَل، ونسوا الدنيا كلها والزمان والطبيعة، ونسوا أنفسهم حين التقت الشفاه بالشفاه، وأغمضت العيون لترى القلوب مفاتن هذا العالم المسحور وتستمتع بهذه الدنيا المعطرة الحلوة المغنية دنيا القبلة الكاملة.

أهاج ذلك عاطفتك يا لبنان؟ أحرك قلبك كل ذلك أيها الشاب التياه الذي يخطر بحلله الخضراء الزاهية ويتيه بعطره الخالد؟

فأين هو مكان الشعور من الطبيعة؟

أأنت أيها البحر الرقيق السيال أرهف شعورا وأرق عاطفة؟ أيحزنك منظر البؤس والشقاء، وأنت تلتهم الأحياء، وتخنق البشر، وتفتح فاك لابتلاعهم، أأنت ذو الشعور؟. . .

أين هو الشعور؟ وأين أجد العاطفة في الطبيعة؟ أأبتغيها في البركان الهائل المحرق، أم في العاصفة العاتية المدمرة؟

وأين هو الحق في الطبيعة؟

أنا أرى في الطبيعة عاصفة تكسر الأغصان، وتقلع الأشجار؛ وأرى صاعقة تهدم الدور؛ وأرى سيلا يجرف المدن، ويكتسح في طريقه كل شيء؛ وأرى البركان الثائر؛ وأرى الرياح العاتية. كل هذا وجود مادي للقوة، فأين هو الوجود المادي للحق؟

لقد اتضح الأمر، وخسرت صديقتي الطبيعة الجامدة الظالمة الميّتة. . .

فلمن ألجأ؟

لمن ألجأ ويحك يا نفس؟ هذا العام يوشك أن يموت!

فعجزت النفس ولم تجب، وانطلق العقل يتفلسف، قال: إن في الطبيعة لحسّاً وتمييزا، ضع ذرة واحدة من الفحم، وخمسا من الأيدروجين يأخذ الفحم أربعا ويدع الواحدة، ومهما ضاعفت العدد تبقى النسبة ثابتة، أفليس هذا دليلا على أن الجماد يميز؟

وضع الذهب بين عشرة معادن وألق عليه الزئبق فإنه يعانق الذهب ويدع كل ماعداه، أفليس في هذا دليل على أن في الجماد شعورا وعاطفة؟

ولكني لم أنتبه لما قال العقل؟

ونظرت إلى البحر فقلت: ما البحر؟ ما الطبيعة؟ أنا لا أرى إلا هذا العالم المادي؛ ولكن ماذا وراء المادة من عوالم؟ إن الروح أول محطة في طريق هذه العوالم، فهل استطعنا أن نبلغها؟ إن العقل البشري يمشي إليها منذ بدأ صناعة التفكير، ولا يزال في الطريق لم تبن له معالمها. . . إنه تعب وملّ ويئس. . . افتح الآن أي كتاب من كتب (علم النفس) إنك لا ترى في فهرسه اسم الزوج ولا النفس. . .

وفكرت في العام الراحل فقلت: ما هو العام؟ ما وجوده؟ ما حقيقته؟ ولم أسمع جواباً فأغمضت عينيّ كما أغمضت قبة الأعظمية عينيها منذ عام، ولكني لم أحلم ولم أتذكر، وإنما لبثت صامتا محدقا في غير شيء كالأبله أو المشدوه، وتركت عقلي المغرور يتيه وحده في قضاء اللانهاية. . . إنه لا يستطيع أن يعرف شيئا مما وراء المادة. . . كما أن عقل الجنين لا يقدر أن يعلم شيئا عن هذا العالم ولا يؤمن بوجوده. . .

وكنت قد نسيت الطبيعة الجامدة الميتة التي لا شعور فيها ولا عاطفة، ونسيت هذه المخلوقات التافهة الحقيرة التي يدعونها (الناس)، ونسيت هذه الذرة التائهة في رياح الوجود التي اسمها (أنا)، وتوجهت إلى العظيم الباقي الذي هو وحده الخير المطلق والحق والجمال. . . توجهت إلى الله أسأله أن يلبس هذا العام القادم ثوب السعادة، ويضفي على العام الراحل حلة الغفران. اللهم آمين.

(بيروت)

علي الطنطاوي