مجلة الرسالة/العدد 236/التأليف والنشر في مصر

مجلة الرسالة/العدد 236/التأليف والنشر في مصر

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 01 - 1938


للدكتور عبد الوهاب عزام

حدثني بعض الأصدقاء أن أحد أصحاب المعالي وزراء الدولة في الحكومة القائمة دعا إليه جماعة من الكتاب وحدثهم في تنشيط التأليف في مصر ومكافأة المؤلفين ووعد في هذا وعوداً حسنة الخ

وهذا رأي محمود نرجو أن يتلوه العمل فيؤتى ثمراته بعد حين؛ وهذه فرصة أنتهزها للتنبيه إلى أمر طالما أهم المفكرين من قراء العربية في الشرق والغرب، وطالما ترددت منه الشكوى وأخذت به مصر قبل الأقطار الأخرى؛ ذلكم أمر النشر نشر الكتب القديمة والحديثة التي مات مؤلفوها. فهو أمر تتحكم فيه الفوضى. يستطيع الواحد من تجار الكتب أن يعمد إلى كتاب من الأمهات في الأدب أو التاريخ أو غيرهما، ويعهد به إلى من يصححه ويقدمه للطبع. وحسب هذا المصحح أن يستطيع قراءة الكتاب قراءة يتصرف فيها خياله وحظه القليل من العلم، ونشاطه التي تحده المكافأة القليلة التي ينالها من الناشر، ووجدانه الذي لا يحفل بالأمانة العلمية كثيراً. وأحياناً يتصدى لنشر الكتب بعض العارفين بأساليب النشر الحديثة، فيعهد بتصحيحه إلى بعض الأسماء النابهة، ويتخذ من وسائل الترويج ما يشاء له طمعه في الربح والصيت؛ فيستبشر الأدباء ويرجون خيراً ويتربصون على قلق حتى يظهر الكتاب فيكبوا على قراءته فإذا الأمر لا يعدو ما ألفوه من طرق النشر التي لا تصوب غلطاً، ولا تزيل شكاً، ولا تنال طمأنينة القارئ

لا يعوز الباحث أن يتابع الأدلة من الكتل المشوهة، أو الكتب التي بذل في تصحيحها جهد قليل قصر بها دون الغاية:

نشر بعض الناشرين كتاباً قديماً في الفرق الإسلامية فمر على أغلاطه لم يعرض لها وحرف بعض عبارات ظنها غلطاً وهي صواب. وحسبي أن أذكر من فعلاته هذه الواحدة: ذكر المؤلف رجلاً فنسبه إلى قبيلة وقال إنه (من ثَوْر هَمْدان) أي قبيلة ثور إحدى قبائل همدان لا من قبيلة ثور الأخرى إحدى قبائل مضر. فحرف الناشر الكلمة إلى (ثغور همذان) وأمتن على القراء في الحاشية بأنه أدرك الحق في هذه الجملة المحرفة. وأذكر أن ناشراً عمد إلى ترجمة كتاب كلستان للشيخ سعدي الشيرازي الشاعر الفارسي العظيم فطبعه وكتب على صفحة العنوان: (كتاب جلستان: بقلم العلامة جلستان الفارسي)

وليس العهد بعيداً بكتاب معجم الأدباء، وما أهمل من غلطاته، وحرف من عباراته، وزيد عليه من شرح يتجلى فيه الخطأ والفضول. وقد أخرج للناس في موكب من التشهير والترويج، وهو في الحق حري أن يكون عيباً لمن أخرجه وعاراً على وزارة المعارف التي احتملت التبعة فيه فكتبت على صفحة العنوان: (راجعته وزارة المعارف). وكنت كتبت خمس مقالات في نقد الجزأين الأول والثاني ثم وعدت القارئ أن أعود إلى النقد بعد أن تطبع الأجزاء الأخرى لأبين أهي خير من هذين الجزأين أم مثلهما. ولعلي أفي للقراء بهذا الوعد بعد هذا المطال الطويل. بل كتب الأدب التي بأيدي الطلاب في مدارس الوزارة فيها كثير من الغلط وإذا وقع الغلط والتحريف في مثل هذه الكتب فماذا يرجى من الكتب السوقية التي يتولى نشرها تجار أكبر همهم النفقة القليلة والربح الكثير؟

كان أسلافنا يكتبون الكتب بأيديهم إذ لم تكن عندهم من وسائل الطبع والتصوير ما عندنا. فكان عليهم أن يصححوا كل نسخة من كل كتاب. وقد اضطلعوا بهذا العمل الفادح جهد طاقتهم وبذلوا فيه من فكرهم وعافيتهم ونومهم وراحتهم ما تشهد به آثارهم وأخبارهم. كان المتأدب منهم يقرأ الكتاب على أديب ثقة، ويكتب عليه أنه قرأه على فلان، ويغلب أن يكون الشيخ الذي قرء عليه الكتاب قد قرأه على آخر، وهكذا حتى تنتهي القراءة إلى المؤلف أو الشاعر أو الكاتب. ويكتب هذا السند المتصل على الكتاب فيعلم قارئه أن بيده كتاباً عمدة يطمئن إليه، بل فعلوا هذا في الدواوين المتواترة التي يتداولها الحفظ والنسخ كل حين كديوان المتنبي. وعندنا اليوم نسخ من الديوان تحمل سندها من أبي الطيب إلى سبعة قرون أو أكثر من بعده. وهذا العكبري شارح الديوان في القرن السابع لم يجز لنفسه أن يشرحه حتى قرأه على شيخين من شيوخ الأدب: مكي بن ريان بالموصل، وعبد المنعم بن صباح التيمي بمصر. وقد وضع أسلافنا أصولاً اصطلحوا عليها وسموها (أصول السماع) بينوا فيها كيف يتثبت راوي الخبر أو راوي الكتاب حتى يتحرز عن الغلط جهده.

ومن عجيب ما يروى في هذا ما حدثني به بعض الثقات أن القاضي عياضاً ذكر في كتابه (الإلماع في أصول السماع) أن أبا علي القالي صاحب الأمالي أعار الحكم المستنصر الأموي خليفة الأندلس كتاباً من كتبه وطالت غيبة الكتاب عنه. فلما رد إليه أبطل الرواية به وقال لا آمن أن يكون قد أصابه تحريف وهو في يد غيري

ذلكم جهد السلف ودأبهم في التثبت، على ما حملهم هذا من عناء ونصب. فكيف وقد تيسر طبع الكتب بما خلقت المدنية الحاضرة من وسائل - كيف نتهاون في التصحيح والتحقيق فنخرج كتباً تنوء بأغلاطها؟ إن ناشر الكتاب اليوم يكفيه أن يصحح نسخة واحدة لتصح له آلاف النسخ فيتواتر الكتاب، ويؤمن عليه الغلط والتحريف، والزيادة والنقص من بعد. ليت شعري بأي عذر نعتذر، وبأي تعلة نتعلل؟ لا عذر ولكنه التهاون والكسل أو القصور والجهل ليس فيها خيار لمتخير

فالذي نرجوه أن تؤلف الحكومة أو تكل إلى الجامعة، تأليف هيئة لمراقبة النشر وبخاصة نشر الكتب القديمة فلا يؤذن لناشر أن ينشر كتاباً حتى تتوثق هذه الهيئة أن القائمين على تصحيح الكتاب هل لتصحيحه وإخراجه على حال يسكن إليها أولو العلم والأدب. ولهم في لجنة التأليف والترجمة والنشر أسوة حسنة ومثال صالح

ذلكم أقرب إلى التحقيق، وأبعد من الفوضى، وذلكم أجدر بنا وأولى بسمعتنا، وأحفظ لتاريخنا وآدابنا. فإن توهم متوهم أن الخطب في هذا أمم يوكل إلى الزمن إصلاحه ولا يحتاج إلى عناية الأمة والحكومة فليسأل الباحثين من علمائنا وأدبائنا ليشكوا إليه ما قاسوا من الكتب المحرفة، والنصوص المضللة. وإنا لراجون أن تبادر الحكومة إلى تبشير الأدباء بما تعتزم في هذا الأمر العظيم ثم تتبع البشرى العمل والوعد الإنجاز

عبد الوهاب عزام