مجلة الرسالة/العدد 236/فلسفة التربية

مجلة الرسالة/العدد 236/فلسفة التربية

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 01 - 1938



كما يراها فلاسفة الغرب

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 6 -

تطبيقات الديمقراطية على التربية والثقافة المثلى في جماعة

ديمقراطية

(إن الإنسانية التي تخلصت من الرق تستطيع التخلص من

الحرب)

(سير فردريك بلوك)

(يستطيع التاريخ أن يغير عقل الأمة أو يصلحه تبعاً لطريقة

تدريسه)

(موسار)

عرفت في المقال السابق كيف يؤمن (جون ديوي) وغيره بالديمقراطية كمحور (للحياة المثلى)، وكيف يريد أن يتخذ من التربية وسيلة فعالة لتحقيق تلك (الحياة)؛ وسترى في هذا المقال ما تتطلبه الديمقراطية في المعلمين والمتعلمين والمدارس والمواد وطرق التدريس جميعاً

1 - في المعلم

وأنت تعرف من هو المعلم. هو الذي قال فيه شوقي إنه كاد أن يكون رسولاً، وإنه ذلك الذي يبني أنفساً وعقولاً!!؛ ولقد حاول (فروبل) أن يبرر عمله (العظيم) فقال: (إنه جزء من الكون، فعمله إذن جزء محدود في الكون، ومركزه يلتئم تماماً ومركز الكون، ولذلك عندما يفرض قوانينه على الطفل لا يفعل أكثر من إخضاعه لقوانين الوجود الخالدة)، وقال: (تتعارض القوى في الطبيعة لتتلاشى وينشأ منها قوة جديدة. وكذلك الأمر بين المعلم والمتعلم). . . هذا المعلم يجب أن يكون (ديمقراطياً) أولاً وقبل كل شيء، ديمقراطياً في خلقه الخاص، وديمقراطياً في طريقة احتكاكه بالتلاميذ حتى لا يحجر على شخصياتهم. زد على ذلك أن (الدولة) يجب أن تكون (ديمقراطية) معه هي أيضاً! يجب أن تشركه في وضع (المقرر)، ويجب أن تطلعه على الكتب المدرسية، ويجب أن تأخذ رأيه في أنسب طرق التدريس لأنه المنفذ الروحي والمادي للخطط الموضوعة، فما يجوز أن تفرض عليه هذه الخطط فرضاً، ولأنه المتصل بالعقول الناشئة فهو أقدر من غيره على فهم استعدادها، ولأنه المجرب لهذا المنهج أو ذاك فيجب أن يكون لرأيه التقدير الواجب؛ أما أن تبعث إليه البرامج ويساق سوقاً إلى تدريسها، وأن يحمل النشء على الرجوع إلى كتب يراها هو غير متمشية وما انتهى إليه من رأي، وأن يقترح ويكتب، ويصرخ ويستغيث دون ما جدوى، كأنما هو في واد والدولة في واد آخر - فذلك كما ترى هدم لركن من أركان التربية جدير وخطير، وإغفال لتجارب ناطقة لا سبيل إلى التقدم السريع إلا بالاستفادة منها

2 - في المتعلم

وأما هذا فما يجوز أن يكون شخصية سلبية تستمع إلى الدرس دون ما فكر، وتحفظه وتعيه على أساس (الطريقة الصماء) وتذهب إلى المدرسة كارهة وتخرج منها مسرورة، فإذا كانت الحياة المستقلة طار المعلم وانمحى، وحل الكسل والفراغ الآثم والاستمتاع الحقير، هذا إلى الفشل في معالجة أهون مسائل الحياة، والى الكبرياء والترفع عن (السوقة) والأعمال الحرة! أجل!. . . ما يجوز شيء من هذا. . .! وإنما يجب أن نسير معه على أساس البحوث النفسية الصحيحة التي تقول مثلاً إن (العقل) إذا مر في الحياة بمشكل راح يحدده ويفكر في وسائل حله، فيفترض الفروض ويحققها ويمتحنها؛ أو أن الشيء لا يثير الاهتمام ولا يعلق بالذاكرة إلا إذا كان شائقاً ومتصلاً بالحياة اتصالاً وثيقاً. . . إلى آخر هذه النظريات التي نعرفها ولا نعرف السبيل إلى تحقيقها. . .! وإذن فلتكن موضوعات الدراسة على هيئة مشاكل يقف الطفل حيالها (موجباً) أي محدداً ومفترضاً ومحققاً ومجرباً، ولتكن بقدر الإمكان متصلة بالحياة حوله حتى يستسيغها في مراحله الأولى، ويقبل عليها بلذة وشغف، وبذلك وبغيره ننتهي إلى جعل (التعليم) عملية لذيذة لا أهوال بها ولا مكاره، وجعل (المعرفة) متعة سامية بريئة يقبل (المتخرجون) على التزود منها أثناء فراغهم بدلاً من الجلوس في المقاهي وغير المقاهي مما تعرف وما لا تعرف يا قارئي العزيز!، هذا إلى خلق الشخصية الديمقراطية التي تتعاون مع غيرها في المسائل العسيرة كما تعاونت بالأمس في موضوعات الدراسة، والتي تستطيع أن تكافح حقاً في الحياة وتحتقر (الديوان) وتمضي إلى الكفاح بجرأة وبأس وإقدام. . .

3 - في المدرسة

وأما المدرسة فهي كما تعلم البيئة التي تعدنا للحياة الخارجية، ولذلك يجب أن يشملها التغيير، وأن تنقلب انقلاباً خطيراً؛ ومعنى هذا أن تصبح دار عمل وتجريب شائق لذيذ مجهد كله حرية وتعاون واحترام؛ ففيها يزرع التلاميذ الشجرة ويشاهدون نموها ويسجلونه قبل أن يقرؤوا عنه، وفيها أدوات البناء والطهي، والغزل والنسج، وأشغال الخشب والإبرة وما أشبه؛ ويقف المدرس هنا ليضع الطفل أمام التجاريب ويشعره بحاجته الماسة إليها. وبذلك تكون المدرسة كما يقول الأستاذ (يعقوب فام): (صورة مصغرة للمجتمع البشري، فهي إذن ليست وسيلة للجمعية البشرية. والفرق بينها وبين المجتمع هو أولاً أنها صورة مصغرة له، وثانياً أنها يسهل التحكم في عواملها بخلاف المجتمع، وثالثاً أنها غير معقدة؛ فهي ليست إذن مكاناً للتعليم فقط، وإنما هي للأطفال دنيا يعيشون فيها ويصرفون جهودهم ونشاطهم ثم يتعلمون). . . (ومثل هذه المدرسة لا تشوق دون جهد، ولا تجهد دون تشويق، وإنما يتأتى ذلك عن ربط المادة نفسها بحياة المتعلم)

وعلى ذلك لا يكون الطفل فيها دائرة معارف متحركة فحسب وإنما يكون آخذاً بناصية الوسائل والأدوات والمصادر التي تساعده في البحث الذي يجريه بنفسه متعاوناً ومسترشداً. وهكذا يستطيع أن يعيش وينمو على أساس الديمقراطية والعلم. . .

ههنا إذن تعاون بحت، وتنافس في الكيف لا في الكم، وتعليم للحياة بالحياة، وعمل منتج ذو غاية، ودرس لمواد متصلة لا منفصلة انفصالاً لا مبرر له، واحترام للعمل والعاملين، واكتساب للنظرة العلمية التجريبية الصحيحة، علم مقرون بعمل، وغني إلى جانب فقير، وعمل طامح مستبشر يرنو إلى شيء أكثر من ورقة ممهورة بخاتم الوزير!

4 - في الثقافة ويتبقى بعد ذلك أن نقرر روح الثقافة المثلى في الجماعة الديمقراطية. وحسبك أن تعلم أن هذه الثقافة لا تفرق بين النظر والعمل تفريقاً كبيراً، وتنظر (للتغير) كقانون عام يتطلب المرونة المطلقة والتجديد السريع، ولا تأخذ بغير الطريقة العلمية التي لا طلاسم فيها ولا خزعبلات؛ ولا تفرق بين مسلم ومسيحي ويهودي خشية أن تلوث تاريخ العالم بالدماء كما قد تلوث طوال الماضي الأثيم. الدين عندها لله والجميع لديها إخوان. ثم هي لا تستعبد الفكر قط، ولا تغرس فيه الأفكار الاجتماعية أو السياسية الخاطئة بالإيحاء الآثم. العقل عندها مقدس فما يجوز أن تشوهه، ومثلها الأعلى في قيمة الدراسات هو ما تقدمه من خير يكمل الفرد والجنس، ومذهبها التوازن بين الجسد والقلب والعقل حتى لا يؤدي الأمر إلى وحشية رائعة من جانب أحد أركان هذا الثالوث ضد الركنين الآخرين وغايتها خلق ذلك الرجل المثقف الثابت في تتبع ما يريد، المستعد لتعديل خطته إذا لزم الأمر، المتفتح العقل لكل ما تقدمه العلوم والفنون، النابذ للأحكام التقليدية متى ما اقتنع بخطئها، المرحب بالأفكار الجديدة، ولكن بعد نقدها وتمحيصها، المتقدم للمساعدة كلما استطاع، والمقنع المجتمع بأهليته للثقة والاحترام. ذلك الرجل الذي لا يسيء إنساناً بقصد أو بغير قصد، والذي يترك مالا يعرف لأنه لا يقوى على معرفته، والذي هو أبداً مطمئن البال ومصدر راحة لنفسه ولغيره. ذلك الذي هو حكيم لسعة اطلاعه، والذي لا يحكم إلا بعد تمحيص وروية والذي يحسن مخاطبة الناس جميعاً برقة ولباقة وظرف؛ والذي يعرف معنى ما يقول ويتكلم بصراحة ووضوح وجلاء، ذلك الذي يعبر بفكره الزمان والمكان ويفهم نفوس الغير سريعاً. ذلك الذي يعلم شيئاً عن كل شيء، وكل شيء عن شيء ما، فلا تكون (الإنسانيات) وغيرها عنده مجهولة كل الجهل؛ ذلك الذي ليس باللاذع في نكاته، وليس بالمسرف المتبذل في شهواته، لأن الجسد عنده هيكل الروح المقدس؛ ذلك الذي إذا شهد التمثيل المحزن أو المضحك استمع له في صمت وجلال وانفعل في صمت وجلال! ذلك الذي لا يذهب إلى الحرب إلا مقتنعاُ بجدارة السبب والذي يعيش مسروراً دائماً مهما أخطأ، فإذا مات لم يطمع في أن يسجل له ذووه على قبره مفخرة واحدة!!

وهذه الثقافة كما ترى تدعو للعالمية بكافة الطرق، وتستبدل بأبطال الحرب أبطال الإنسانية والعلم، وتدرس التاريخ تدريساً بعيداً عن العصبيات الوطنية كما نصح المسيو موسار في مؤتمر التربية الخلقية الذي عقد بباريس منذ أعوام، أعني أنها لا تعتبر نابليون بطلاً مغواراً وقائداً عظيماً بقدر ما تصوره مصلحاً لم تبق من آثاره إلا تلك الأعمال السلمية النافعة.

(يتبع)

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية