مجلة الرسالة/العدد 236/للأدب والتاريخ

مجلة الرسالة/العدد 236/للأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 01 - 1938



مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 21 -

شاعر الملك فؤاد

وهذا فصل آخر مما يتصل بموضوع الحديث عن الرافعي في النقد؛ إذ كان هو أول ما بين الرافعي والأستاذ عبد الله عفيفي؛ فإني لأقدم به للقول عن خبر ما كان يبنهما من الخصومة التي مهدت للرافعي من بعد أن ينشئ كتابه (على السفود) في نقد ديوان الأستاذ العقاد

في سنة 1926 كان ناظر الخاصة الملكية هو المرحوم محمد نجيب باشا، وكانت السياسة المصرية تسير في طريق ذي عوج، مهد لطائفة من رجال الحكم والسياسة أن ينشئوا حزباً ينسبون إليه الولاء للقصر؛ فهيئوا لطائفة غيرهم من السياسيين أن يزعموا أنهم أولياء على حقوق الشعب، حراص على سلطة الأمة، فنشأت بذلك قوة بإزاء قوة، وتناظر سلطان وسلطان، وكان لكل طائفة لسان وبيان. . .

في تلك الآونة، تقدم المرحوم محمد نجيب باشا إلى الرافعي أن يكون شاعر الملك؛ فلقي ذلك العطف الكريم بحقه من الشكر والرضى وعرفان الجميل

وشاعر الملك أو شاعر الأمير لقب قديم في دولة الأدب، وله في تاريخ العربية تاريخ، منذ كان النابغة والنعمان، وزهير وهرم بن سنان، والأخطل وبنو أمية، والنواسي وأبو العتاهية في بني العباس، والبحتري في إمارة المتوكل، والمتنبي في بلاط سيف الدولة؛ إلى شعراء وملوك لا يحصيهم العد. ولا ننس في تاريخ مصر الحديث أن نذكر الشاعرين: أبا النصر، والليثي؛ وليس بعيداًعنا أمير الشعراء المرحوم شوقي بك (شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية)، وقد كان من الولاء والحب لمولاه بحيث لم تطمئن السلطة الحاكمة إلى بقائه في مصر بعد خلع الخديو عباس، فنفته إلى الأندلس

ولقد كان شاعر الملك قبل الرافعي هو الشاعر المرحوم عبد الحليم المصري؛ فلما م تطلعت إلى موضعه نفوس الشعراء؛ وكان أكثرهم زلفى إلى هذا المنصب هو المرحوم حافظ إبراهيم، إذ كان ما يزال في نفسه شيء يهفو به إليه، مما كان بينه وبين شوقي من المنافسة الأدبية في صدر أيامه على رتبة شاعر الأمير

وعاد الرافعي إلى الشعر بعد هجر طويل؛ إذ كان آخر ما نشر من الشعر هو ديوان النظرات في سنة 1908، ثم لم يقل بعهد إلا قصائد متفرقة في آماد متباعدة، لحادثة تنبعث لها نفسه، أو خبر ينفعل به جنانه. وكان أكثر ما قال الشعر فيما بين ذلك، في سنة 1924، في إبان العاصفة الهوجاء من حب فلانة، وأكثر شعره عنها منشور في كتبه الثلاثة التي أنشأها للحديث عن هذا الحب؛ ثم انبعث البلبل ينشد أهازيجه من جديد، على الشجرة الفينانة في حديقة قصر الملك، فصغت إليه القلوب وأرهفت له الآذان. . .

واستمر يرسل قصائده في مديح الملك لمناسباتها، من سنة 1926 إلى سنة 1930، حتى وقع بينه وبين الأبراشي باشا أمر - بعد موت المرحوم نجيب باشا - فسكت، وعاد ما بينه وبين الشعر إلى قطيعة وهجران، بعد ما أنشأ الخصومة بينه وبين عبد الله عفيفي. . . وعند الأستاذ إسماعيل مظهر تفصيل ما سأرويه من خبر هذه الحادثة بعد

وقصائد الرافعي في مديح الملك فؤاد نظام وحدها في شعر المديح: تقرأ القصيدة من أولها إلى آخر بيت فيها، فتقرأ قصيدة في موضوع عام من موضوعات الشعر، ليس من شعر المديح ولا يمت إليه؛ فلولا بيتان أو أبيات في القصيدة الخمسينية أو السبعينية يخص بهما الملك ويمدحه، لما رأيتها إلا قصيدة من باب آخر، تسلكها فيما تشاء من أبواب الشعر إلا باب المديح. إقرأ قصيدة الخضراء - يعني الراية - وقصيدة الصحراء في رحلة الملك إلى الحدود الغربية، واقرأ غيرهما؛ فإنك واجد فيه هذا الذي ذكرت، وواجد فناً في الشعر تعرف به الرافعي في المديح فوق ما عرفت من فنونه؛ فإذا حققت هذه الملاحظة في مدائح الرافعي وثبتت عندك، فارجع إلى تاريخ هذه الفترة من السياسة المصرية ثم التمس لها تفسيراً من التفسير، أو فارجع إلى تاريخ الرافعي نفسه واذكر ما تعرف من أخلاقه تعرف تفسيرها ومعناها

لقد كان الرافعي يجهل السياسة جهلاً تاماً، ولكن كانت فيه أخلاق السياسي ناضجة تامة: من الاحتيال، والروغان، وحسن الإعداد للتخلص عند الأزمة. بلى كانت له أخلاق السياسيين في إبداع الحيلة والاستعداد للمخرج، ولكن لم يكن له في يوم من الأيام هوى مع أحد من أقطاب السياسة، أو يعرف له رأياً فيها، أو يدري من خبرها أكثر مما يدري رجل من سواد الناس يقرأ جرائد المتطرفين والمعتدلين على السواء

ولم يكن للرافعي أجر على هذا المنصب في حاشية الملك، إلا الجاه وشرف النسب، وجواز مجاني في الدرجة الأولى على خطوط سكة الحديد، ودلال وازدهاء على الموظفين في محكمة طنطا الكلية الأهلية، حيث كان يعمل جنباً إلى جنب مع مئات من الكتبة والمحضرين وصغار المستخدمين. . . . . .!

ولكنه إلى ذلك قد أفاد من هذا النسب الملكي فوائد كبيرة؛ فقد تعطف الملك الكريم فأمر بطبع كتاب (إعجاز القران) على نفقة جلالته؛ كما أذن بإرسال ولده محمد في بعثة علمية لدراسة الطب في فرنسا؛ فظل يدرس في جامعة ليون إلى سنة 1934 على نفقة الملك، حتى شاء الإبراشي باشا لسبب ما أن يقطع عنه المعونة الملكية ولم يبق بينه وبين الإجازة النهائية غير بضعة أشهر، فقام أبوه بالإنفاق عليه ما بقي. ومن أجل ما كان يرسل إلى ولده كل شهر في فرنسا من نفقات العيش والجامعة كان هو يعمل في (الرسالة) بأجر، وإن عليه من أعماله الخاصة ما ينوء به جسده وتنتهك أعصابه. . .!

قلت إن الرافعي ظل في حاشية الملك فؤاد إلى سنة 1930 ثم كان بينه وبين الأبراشي باشا أمر - بعد موت المرحوم نجيب باشا - فسكت؛ إذ خشي أن تعصف به السياسة أو تعبث به الدسائس فترمي به إلى تهلكته. . .

حدثني الرافعي قال: (كنت في عهد نجيب باشا أذهب إلى القصر فيلقاني بوجه طلق، ويحتفي بي، ويبسط لي وجهه ومجلسه، ويثلج صدري بما يروي لي من عطف المليك ورضاه؛ فما أغادر القصر إلا وأنا اشعر كأن نفسي تزداد عمقاً وتمتد طولاً وتنبسط سعة؛ ثم جاء الأبراشي باشا، فلم تدعني داعية إلى لقائه حتى كان يوم وجدتني فيه منطلقاً إلى هناك، لأسأله في أمر من الأمر. . .

قال: (وذهب الساعي إليه بالبطاقة ودعاني إلى الانتظار، فجلست، وما أظن إلا أنها دقائق ثم أدعى إليه. . . وطال بي الانتظار، ومضت ساعة، وساعة، وساعة، وأنا في هذا الانتظار بين الصبر والرجاء؛ وحولي من ذوي الحاجات وجوه عليها طوابع ليس على وجهي منها، ونظرت إليهم والى نفسي فضجرت، فعدت أستأذن عليه وقد جال بنفسي أنه قد نسي مكاني، فعاد إليّ حاجبه يقول: الباشا يعتذر إليك اليوم، ويسألك أن تمر به غداً في الساعة كذا. . .

قال الرافعي: (وآذاني ذلك ونال مني، ولكني اعتذرت عنه. فلما كان الغد، جاءني النبأ ينعى إلي زين الشباب المرحوم أمين الرافعي بك؛ فآدني الهم وثقل علي، وضاقت نفسي بما فيها وتوزعتني الوساوس والآلام؛ وما نسيت وأنا أمشي في جنازة الفقيد العظيم أن علي موعداً بعد ساعات، فما هيل عليه التراب حتى كنت في طريقي عدواً إلى القصر وفاء بالوعد الذي اتعدت، وجعلت من وراء ظهري ما علي من واجب المجاملة لمن جاءوا يعزونني في أخي وابن عمي وصاحب الحقوق علي. لقد كان الذي مات زعيماً من زعماء الوطنية له مقداره، ولكني جعلت الوفاء بالوعد فوق ما علي من الواجب للزعيم الذي مات؛ وإنه لأخي، وإن في أعراقه من دمي وفي أعراقي. . .!

قال: (ووقفت بالباب أنتظر أن يؤذن لي فأدخل، وطال بي الانتظار كذلك وإن في دمي جمرات تتلهب. ومضت ثلاث ساعات وأنا في مجلسي ذاك أطالع وجوه الداخلين والخارجين من غرفة الباشا ولا يؤذن لي. . .!

قال الرافعي: (وهاجت كبريائي وثارت حماقتي. . . لا أكذبك يا بني، إن في لحماقة. ولكن. . . إن صرامة عمر بن الخطاب قد انحدرت إلي في أصلاب أجدادي من النسب البعيد؛ ولكن صرامة عمر حين انحدرت إلي صارت حماقة. إن هذه الحماقة عندي يا بني هي تلك البقية من صرامة عمر، بعد ما تخطت إلى هذا الزمن البعيد في تاريخ الأجيال. . .!

قال: (ولما بلغ الحنق بي مبلغه نهضت وفي يدي عصاي، فتقدمت إلى الباب خطوة فدفعته بالعصا وأنا مغيظ محنق، فإذا أنا أمام الإبراشي باشا وجهاً لوجه، والى جانبه رجل أوربي يحدثه. . .، فلم أعبأ، ولم أكترث، ولم أذكر وقتئذ أين موضعي وموضعه، فقلت ما كنت أريد أن أقول، وانتصفت لنفسي، وثأرت لكبريائي. وأحسبني قد خرجت يومئذ عن حدود اللائق في الحديث معه، ولكني لم ألق بالاً إلى شيء من ذلك. وما كان في نفسي إلا أنني قد قلت ما ينبغي أن أقول لأحفظ كرامتي وأصون نفسي، ولا علي بعد ذلك من غضبه ورضاه. . .

(ولكن. . . ولكنه مع ذلك لم يغضب، ولم يعتب، بل اعتذر إلي وألح في الاعتذار. . . وصدقته حين ابتسم. . .!)

وأسرها الابراشي باشا في نفسه؛ فلما كان الموسم التالي نظم الرافعي قصيدته وأرسل بها إلى القصر، ورصفت حروفها مشكولة في مطبعة دار الكتب - كما جرت العادة - ثم أرسلت بحروفها مجموعة إلى الجريدة المختارة، ومعها قصيدة أخرى مرصوفة مشكولة مزينة، من نظم الأستاذ عبد الله عفيفي المحرر العربي بديوان جلالة الملك. ونشرت القصيدتان جنباً لجنب في جريدة واحدة، وعلى نظام واحد، وكلاهما في مدح الملك، فما يفرق بينهما في الشكل إلا توقيع الشاعرين في ذيل الكلام

وقرأ الرافعي قصيدة منافسه الجديد، فثار وزمجر، وقال لمن حوله: (أترون كيف يصنع بي؟ إنه يريد أن ينال مني. (يريد الأبراشي) أهذا شعر يقرن إلى شعري؟ أيراني وإياه على سواء؟ أيحسب أن الأدباء سيخدعهم هذا الزخرف في الطباعة فيجعلون صاحبه شاعراً من طبقتي أو يجعلونني شاعراً من طبقته؟ أيراني من الهوان بمنزلة الذي يرضى عن هذا العبث؟ أفيريد أن يمهد لصاحبه حتى يخلعني عن مرتبة (شاعر الملك) ليجعله مكاني؟ أم يراه أهلاً ليقاسمني المنزلة والمقدار عند صاحب التاج. . .)

ومضى الرافعي يومه يفكر ويقدر، وما كان إلا في مثل حال الرجل الذي يعود إلى داره التي يملك فإذا له فيها شريك يحتلها بقوة ساعده لا بحقه؛ فما يجد له حيلة في إجلائه عن الدار إلا أن يرفع أمره إلى القاضي. . . وكان القاضي عند الرافعي في هذه القضية هو الرأي الأدبي العام، فرفع أمره إليه. . .

وتحدث بنيته إلى صديقه الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب مجلة العصور، فأوسع له صفحات من مجلته ليبدأ الحملة على الأستاذ عبد الله عفيفي في مقالات عنيفة صارخة بعنوان: على السفود!

وما كان الرافعي يجهل أنه يتناول موضوعاً دقيقاً حين يعرض لنقد هذا الشاعر؛ فإنه ليعلم علم اليقين أن هذه المقالات سيكون لها صدى بعيد، تصل به إلى آذان لا يسره أن تعلم من كاتب هذه المقالات، فتنكر وأخفى نفسه. . .

(لها بقية)

محمد سعيد العريان