مجلة الرسالة/العدد 237/سفارة ألمانية

مجلة الرسالة/العدد 237/سفارة ألمانية

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 01 - 1938



إلى بلاد قرطبة في عهد عبد الرحمن الناصر

للأستاذ محمد عبد الله عنان

في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) كانت أسبانيا المسلمة (الأندلس) قد بلغت ذروة قوتها؛ وكانت إلى جانب الدول النصرانية الثلاث: الدولة البيزنطية، ومملكة الفرنج، والإمبراطورية الألمانية، رابعة الدول الأوربية العظمى؛ بل ربما كانت يومئذ أعظم الدول بما اجتمع لها من عناصر الفتوة، ومنعة الجانب، وروعة الملك، ورفيع الحضارة. كانت حقبة زاهرة، تعاقب فيها في قيادة الغرب الإسلامي ثلاثة من أعظم قادة الإسلام وساسته، هم عبد الرحمن الناصر، فولده الحكم المستنصر، ثم الحاجب المنصور. وكان عهد الناصر بلا ريب أسطع هذه العهود وأعظمها، وفيه بلغت الأندلس ذروة القوة والازدهار، وفيه قامت الخلافة الأموية في الغرب قوية موطدة، بعد أن اختفت من الشرق قبل ذلك بمائة وثمانين عاماً. وكانت قرطبة في عهد الخلافة الأموية عاصمة الغرب الفكرية والاجتماعية؛ وكانت في الطرف الآخر من أوربا تبث أضواء حضارة جديدة لم تلبث أن لعبت دورها العظيم في تكوين الحضارة الأوربية.

وقد تبوأت أسبانيا المسامة مركزها الدولي في الغرب. كان بلاط قرطبة يرتبط مع معظم الدول الأوربية بعلائق دبلوماسية منظمة؛ وكان أخص هذه العلائق مع الدولة البيزنطية في الشرق، ومملكة الفرنج في الغرب. ومنذ عهد عبد الرحمن بن الحكم (عبد الرحمن الثاني أو الأوسط) نرى سفارات الدول النصرانية تتوالى على بلاد قرطبة؛ وكان أهم هذه السفارات يومئذ سفارة تيوفيلوس إمبراطور قسطنطينية في سنة 225هـ (836 م) ومقصدها أن تعتقد الدولة البيزنطية مع الدول الأموية تحالفاً على الدولة العباسية؛ ورد عبد الرحمن على هذه السفارة بأن أرسل وزيره يحيى الغزال سفيراً إلى الإمبراطور لينظم بينهما علائق الصداقة والتحالف. وتبادل عبد الرحمن بن الحكم أيضاً السفارة مع ملك النورمانيين عقب الغزوات التي قام بها النورمانيون في الأندلس، وانتهت بردهم وهزيمتهم.

وفي عهد عبد الرحمن الناصر توالت سفارات الدول النصرانية على بلاط قرطبة، وك أشهرها وأهمها سفارة قسطنطين السابع إمبراطور قسطنطينية في شهر صفر سنة 338هـ (950 م). وتقدم إلينا الرواية الإسلامية وصفاً شائقاً لتلك السفارة الشهيرة، وتصف لنا احتفال الناصر باستقبالهم في أروع المظاهر والرسوم، وتنقل إلينا أقوال الخطباء المسلمين في ذلك الحفل الباهر.

وفي سنة 344هـ (956 م) وفدت على الناصر سفارة من أوتو الكبير إمبراطور ألمانيا؛ وكان يومئذ أعظم أمراء النصرانية كما كان الناصر أعظم أمراء الإسلام. وكان بين الملكين العظيمين علائق ومراسلات منتظمة، بيد أنها لم تكن ودية دائماً. ولا تحدثنا الرواية الإسلامية عن سفارة أوتو (أو أوتون) إلى الناصر بأكثر من الإشارة إليها؛ بيد أنها كانت سفارة هامة، وكانت ذات غاية خاصة وذات مغزى خاص. وكان سفير الإمبراطور إلى الخليفة حبرا من أكابر الأحبار هو يوحنا أسقف جورتسي. وترك لنا يوحنا تفاصيل سفارته في ترجمة حياته وخلاصتها أنه سار إلى قرطبة ليسعى لدى الناصر في أمر المستعمرات والعصابات المسلمة التي انتشرت في أنحاء سافوا، وفي كثير من آكام الألب. وكانت غزواتها الناهبة تمتد حتى شمال سويسرا، وكان أمراء النصرانية التي تهدد هذه المستعمرات أملاكهم ورعاياهم قد فزعوا إلى الإمبراطور أوتو باعتباره زعيم النصرانية وأقوى أمرائها، وطلبوا منه أن يتوسط لدى خليفة المسلمين عبد الرحمن الناصر فيستعمل نفوذه السياسي والروحي لإجلاء هذه المستعمرات عن معاقلها أو على الأقل لوقف اعتدائها وعبثها. فنزل الإمبراطور عند تضرعهم وبعث سفيره إلى الناصر، فقصد يوحنا إلى قرطبة عن طريق فرنسا، ومعه طائفة من التحف والهدايا طبقاً لرسوم العصر. ولما وصل إلى دار الخلافة استقبل بحفاوة كبيرة، وأنزل في منزل خاص؛ ولكنه لم يقدم إلى الناصر في الحال، بل استبقي مدى حين في شبه اعتقال محوطا بالإكرام والرعاية؛ ويوضح لنا يوحنا بواعث هذا الاعتقال فيقول لنا: إن الخليفة كان يحقد على الإمبراطور لأنه كان قد تعرض للإسلام في بض كتبه إلى الناصر، واعتقل مدى حين سفيراً نصرانياً كان الناصر قد أوفده إلى بلاطه، فرأى أن يقابل تصرف الإمبراطور بمثله، ويعتقل سفيره أعني يوحنا حتى يتحقق من عواطفه ونياته. وبعث الناصر إلى الإمبراطور سفيراً، واختار لهذه السفارة قساً من رعاياه النصارى اتباعاً لتقليد جرى عليه الخلفاء في معظم سفاراتهم إلى القصور النصرانية. وكان أوتو يومئذ مشتغلاً ببعض الحروب الداخلية، فأبدى تساهلاً في قبول وجهات نظر الخليفة، ولم يثر من المجادلات ما اعتاد أن يثيره، وأكد صداقته لخليفة المسلمين. وعاد السفير إلى قرطبة يحمل إلى الناصر تحيات أوتو وتأكيداته الودية، فارتاح الناصر لهذه النتيجة، وأذن باستقبال يوحنا سفير الإمبراطور. واستقبل يوحنا استقبالا فخماً ظهرت فيه عظمة البلاط الأموي، وتحدث إلى الناصر عن مهمته وغاية سفارته. ولسنا نعرف ماذا كانت نتائج هذه السفارة، لأن يوحنا لم يحدثنا عن ذلك في روايته؛ ولكن المرجح أن وجهة النظر التي أبدتها حكومة قرطبة هي أنها ليست لها أية علاقة بالمستعمرات العربية في غاليس وسويسرا، وأنها لا تتحمل تبعة أعمالها، ولا تستطيع أن تتدخل لديها. وهو استنتاج يؤيده صمت الرواية العربية عن ذكر أخبار هذه المستعمرات، مما يدل على أن حكومة قرطبة لم تكن تعني كثيراً بشأنها، وإن كانت بلا ريب تنظر إلى غزواتها في الأراضي النصرانية بعين العطف والتأييد.

على أن الرواية الكنسية من جهة أخرى تحدثنا عما أفضى به الناصر إلى يوحنا من الملاحظات السياسية والإدارية؛ فقد بسط ليوحنا خططه في السياسة العامة، وأنحى باللائمة على الإمبراطور أوتو لأنه يضع ثقته في أشرافه؛ ومثل هذه السياسة لا تزيد الأشراف إلا غروراً، ثم تنتهي بهم في أواخر الأمر إلى العصيان والثورة. ولهذه الملاحظة السياسية التي توردها الرواية الكنسية عن الناصر أهمية خاصة، وهي ليست إلى صدى لسياسة الخلافة الأموية وسياسة الناصر ذاته؛ ذلك أن الناصر كان يعتمد في تنفيذ سياسته على طبقة الموالي والصقالبة، ولا يثق بالأشراف وزعماء القبائل من العرب. وكان من آثار هذه السياسة أن جعل الناصر بطانته من الصقالبة المستعربين، ورفع كثيراً منهم إلى مناصب النفوذ والثقة في الحكومة وفي الجيش. وكان الناصر يخشى منافسة الرؤساء ذوي العصبية ويقصيهم عن كل نفوذ، ويخضعهم لهؤلاء الصقالبة الذين اتخذهم في يده آلات طائعة تعبر عن خططه ورغباته. وكان لهذه السياسة أثرها في توطيد سلطان العرش، والقضاء على سلطة الزعماء المحليين، وعلى مطامع الرؤساء المتطلعين، ولكنها كانت من جهة أخرى خطراً على العرش إذ عرضته لسخط الأشراف والزعماء العرب، وخطراً على الجيش إذ كان سواد ضباطه من العرب الذين يعتزون بعصبيتهم ويسوءهم أن تضار هذه العصبية ويعتدى عليها. وظهر أثر هذه السياسة في أواخر حكم الناصر إذ ظهرت أعراض الوهن والانحلال في الجيش؛ ثم ظهر خطرها على العرش فيما بعد إذ غدا عرضة لمطامع المتغلبين والمتنافسين.

تلك هي قصة هذه السفارة الشهيرة التي وجهها الإمبراطور أوتو الكبير إلى عبد الرحمن الناصر، وتشير الرواية الإسلامية إليها في عبارات موجزة مما يدل على أنها لم تفطن إلى أهميتها السياسية والاجتماعية، ذلك لأنها كانت سفارة من نوع خاص ولم تكن متعلقة بالشؤون والعلائق الدبلوماسية العامة، ولم تكن الإمبراطورية الألمانية الناشئة مشهورة في بلاد قرطبة شهرة الدولة البيزنطية أو مملكة الفرنج، ولكن التفاصيل الشائقة التي تقدمها إلينا الرواية الكنسية تدلى بأهميتها وطرافتها، وأول ما تدل عليه ما كان لبلاط قرطبة في عهد الناصر من الهيبة والنفوذ حتى في دول كألمانيا لم تكن تربطها بالأندلس مصالح أو علائق دبلوماسية مباشرة؛ بيد أن أهم ما تدلي به هذه السفارة هو صفة الزعامة والإرشاد التي كان يبدو بها بلاط قرطبة، فقد رأينا الناصر يلقي درساً في السياسة والإدارة على الإمبراطور أوتو، وهي صفة كان في ظروف الأندلس يومئذ ما يبرر اتخاذها، فقد كانت الأندلس عندئذ في أوج قوتها وعظمتها، وكانت حكومة قرطبة في نظمها السياسية والإدارية والاجتماعية نموذجاً لأعظم وأرقى حكومات العصور الوسطى؛ وكانت الحضارة الأندلسية في سائر نواحي الحياة العامة والخاصة مضرب الأمثال في الروعة والبهاء؛ وكانت نبراسا تمتد أضواؤه إلى أقاصي أوربا؛ وكان للزهراء عاصمة الناصر وبلاطه في الأمم الشمالية شهرة سحرية، حتى أن الراهبة السكسونية هروسويتا تغنت بجمالهما وروعتهما في قصائدها اللاتينية وأسمتها (زينة الدنيا).

والخلاصة أن عظمة الأندلس يمكن أن تقرأ في هذه الصفحات المطوية من تاريخ العلائق الدبلوماسية بينها وبين الأمم الأوربية أكثر مما تقرأ في تاريخها الخاص: ففي هذه الصفحات نجد صوراً كثيرة مؤثرة من ذلك الإجلال الذي كانت تفرضه الأندلس إبان عظمتها على أمم الغرب والشمال.

محمد عبد الله عنان