مجلة الرسالة/العدد 237/ليلى المريضة في العراق

مجلة الرسالة/العدد 237/ليلى المريضة في العراق

مجلة الرسالة - العدد 237 المؤلف زكي مبارك
ليلى المريضة في العراق
ملاحظات: بتاريخ: 17 - 01 - 1938


للدكتور زكي مبارك

- 6 -

وما كانت ظمياء تفوه بالعبارة الأخيرة حتى ابتدأت أوقن بأني سأهتدي إلى سر ليلى. وقد عرفت أيضاً أنه لابد لي من التجمل والتوقر حتى يصل الحديث إلى مداه، فقد قضيت دهري وأنا أرعن أهوج لا أكاد أسمع الحديث عن الحب حتى يفتضح وقاري أشنع افتضاح. ولن أنسى ما حييت تلك الخسارة الفادحة التي قضت بأن يطوى عني إلى الأبد سر السيدة (ن) فقد كانت عرفت من صواحبها أن شفاءها عندي، وجاءت الشقية إلى عيادتي بشارع المدابغ، فلما فحصتها تبين أن العلة لها سبب مدفون، وكنت بحمد الله ولا أزال من أقدر الأطباء على تفرس المحجب من سرائر النفوس. . . انهدَّت تلك السيدة على المقعد، وبدأت أحاورها في ماضيها لأعرف سرَّ العلة، فما كادت تقرأ السطر الأول من صحيفة ذلك الماضي حتى طار صوابي، فوضعت يمناها على صدري، ولكن الشقية لم تمهلني وأفلت كالظبي المذعور. وبذلك طُوِي عني سرها إلى الأبد. وكانت تلك الحادثة سبباً في انتقالي من شارع المدابغ إلى شارع فؤاد.

وما احسب ظمياء إلا صورة من السيدة (ن) وربما كانت أفظع وأعنف فهي عراقية، والعراقيون تغلب عليهم سرعة الانفعال؛ والمرأة العراقية فيما سمعت ورأيت لا تسكن إليك إلا إن ضمنت حسن الأدب وكرم العفاف، وهي عندئذ لا تحتاج إلى من يستدرجها لمعسول الأحاديث، وإنما تنطلق كالبحر الثجاج، فإذا ارتابت في أدبك. . . لا أدري ما تصنع فإن الله رحمني من أمثال هذه المواقف منذ قدمت العراق، وهو عز شأنه قادر على أن يردني إلى وطني مُشرق الجبين.

وجملة القول أني تجلدت وتماسكت، فمضت ظمياء تتحدث، ومضى المطر يقرع النوافذ كأنه عذول، وبين القلب الخافق والسحاب الدافق صلات يعرفها من يؤمنون بوحدة الوجود.

- ثم ماذا يا ظمياء؟

- ثم وقف قطار المعرض، فلم تنزل ليلى ولم ينزل الفتى ذو العينين الخضراوين. ودار القطار دورة ثانية قطعتها في ذهول.

- وأنت أيضاً تحبين يا ظمياء؟

- ألست إنسانة، يا سيدي الطبيب؟

(وهنا رأيت من الحزم أن أعلن نزاهتي، فأفهمتها أني أنكر عليها هذه البدوات، لأن الذي يهمني هو الوقوف على سر ليلى، واشهد أني لم أجد صعوبة في اصطناع هذا النفاق، فقد مرنت عليه بفضل ما ابتليت بالمنافقين الذين تقدموا وتأخرت. ويكفي ما مر بي من التجارب، وأخشى أن تقنعني الأيام بأن النفاق سيد الأخلاق).

- أنت يا مولاي طلبت أن أقص الحديث كما وقع

- كما وقع لليلى، لا كما وقع لك يا ظمياء، فأنت في عافية وليلى هي المريضة، والحكومة المصرية لم تكلفني استقصاء أخبار المتيمين في العراق، وإنما كلفتني مداواة ليلى المريضة في العراق.

- فهمت يا سيدي فهمت.

- زين، زين، ثم ماذا؟

- ثم وقف القطار فتلاحظ العاشقان.

- عاشقان؟ وهل يتم العشق في لحظة؟ هل نحن في السينما يا ظمياء؟

- وقع التلاحظ بين ليلى وبين ذلك الفتى، والتعبير بالعشق من عندي.

- شيء جميل! في أية مدرسة تعلمت يا ظمياء؟

- في المدرسة التي تعلمت فيها ليلى، وهي المدرسة التي أنشأها حكمت سليمان في سنة 1911 بعد إعلان الدستور العثماني؛ وكان حكمت سليمان مدير المعارف في بغداد، وكان تعليم الفتاة في تلك الأيام من المسائل التي يختلف حولها المسلمون، فكانت ليلى أولى فتاة قُيد اسمها في تلك المدرسة.

(وهنا دونت في مذكرتي أن ليلى قديمة العهد بالثورة على مأثور التقاليد، وهذه نقطة مهمة سأعرضها على المؤتمر الطبي، ولعلها تكون السبب في كشف كثير من الأسرار، فالثورة على التقاليد تحدث رجة في المخ والأعصاب، كما حدثنا المسيو ديبويه وهو يحاضرنا بكلية الطب في باريس، وهو أستاذ فاضل كنت السبب فيما وقع بينه وبين زوجته من شقاق).

- وهل درتم بالقطار دورة ثالثة؟

- لا، يا سيدي، فقد خشيت ليلى أن تفطن إليها العيون فنزلت ونزل الفتى، ولكنه أقبل عليها يقول: هل أستطيع أن أرشد السيدة إلى محتويات المعرض؛ فأني أراها غريبة بهذه البلاد؟ ولكن ليلى لم تلتفت إليه، وانصرفنا ساكتين. وعرف الفتى أن سهمه أخطأ فمضى كاسف البال.

- وبعد ذلك؟

- مضينا بعد ذلك إلى البيت الذي نزلنا فيه بشارع قصر النيل، وكان الحديث على المائدة من أشهى ما يكون، فقد كانت الجرائد نشرت حديثاً لرجل مشهور اسمه سعد زغلول، وكانت ربة البيت تحب إمتاعنا بصور الجدل السياسي في مصر، فأحضرت نحو عشرين جريدة فيها الرفض والقبول لذلك الحديث، ثم أحضرت صورة كاريكاتورية نشرت في الكشكول لكاتب معمم اسمه عبد العزيز البشري فيما أتذكر، وصورة أخرى للشيخ بخيت وهو يعترض على دخول السيدات أروقة البرلمان، وكان الجو كله جو ضحك، ولكن ليلى لم تبتسم. ولعلها لم تعرف كيف كان الطعام في ذلك اليوم.

- مسكينة ليلى!

- نعم، يا سيدي، مسكينة، فقد قضت ليلة مؤرقة، ثم أزعجتني من نومي قُبيل الفجر لأستعد للعودة إلى المعرض.

- ورجعتما إلى المعرض؟

- رجعنا، رجعنا، وركبنا القطار عشرين مرة.

- عشرين مرة؟ ولماذا يا حمقاء؟

- لنرى الفتى ذا العينين الخضراوين!

- ورأيتماه؟

- ما رأيناه، وإنما رأينا أنضر منه وأصبح، رأينا فتياناً كاللؤلؤ المنثور هم الشاهد على أن مصر من الحقول التي تُنبت الجمال. وقد أمتعت عيني بمن رأيت، ولكن ليلى ظلت صريعة الهم والبلبال.

- مسكينة ليلى! - هل تسمح لي أن ألطم يا سيدي؟

- تلطمين؟ إنك لبغدادية ظريفة يا ظمياء. ما يهمني أن تلطمي، وإنما يهمني أن أسمع بقية الحديث.

- لم تكن ليلى تقول إنها ترجع إلى المعرض لتبحث عن ذلك الفتى، وإنما كانت تدعي أنها تحب الوقوف على سر تقدم الزراعة والصناعة في الديار المصرية. وحملتها هذه الدعوى المزيفة على شراء عدة نماذج مما أنتجته حقول سملاي، وهي النماذج التي عرضها السيد محمد محمود.

- سمعت بمعروضات هذا السيد يا ظمياء.

- وكتبت ليلى مقالة في وصف المعرض نشرتها في جريدة (البلاغ).

- سبحان الله! لقد قرأت تلك المقالة في ذلك الحين وكنت أحسبها من إنشاء ليلى الصحيحة في حلوان.

- لا، يا سيدي، هي من إنشاء مولاتي، شفاها الله!

- آمين، ثم ماذا يا بلهاء؟

- قلت إن ليلى كانت تترد على المعرض بدعوى الاطلاع على أسباب تقدم مصر في الزراعة والصناعة، أما أنا فكنت أعرف ماذا تريد، وقد استمرت هذه الدعوى أسبوعين، ثم يئست ليلى مما تريد، فلم تذهب إلى المعرض بعد ذلك.

- وبهذا انتهت القصة؟

- لا يا سيدي، فقد زعمت ليلى أنها شبعت من المعرض، وشبعت من الأخبار الحديثة في القاهرة، وصرحت بأنها تحب أن ترى القاهرة المعزية، علها ترى ما يذكرها بأحياء بغداد؛ فصحبتنا ربة البيت إلى حي يسمى الغورية، فدخلنا الحمزاوي والفحامين، وشهدنا حارة اسمها وكالة (أبو زيد) وفيها تجارة السيد (. . . . . .) الذي يبيع أدوات السمنة للسيدات، فوقفت ليلى عنده لحظة، ثم انصرفت. وفي خان الخليلي رأينا سيدة ملفوفة كأنها من عقائل بغداد، فحيتنا على غير معرفة، فردّت ليلى التحية بلهفة واشتياق. وأحببت أن أعرف سر هذه الحماسة من ليلى، فنظرت إلي تلك السيدة فرأيت عينيها خضراوين!

- أعوذ بالله! - تستعيذ بالله يا سيدي من ذلك؟

- نعم، أستعيذ بالله من شر العيون الخضر، فهي سبب بلائي في هذا الوجود. ثم ماذا يا ظمياء؟

- ثم عرضت تلك السيدة أن تصحبنا لزيارة معالم القاهرة وقالت إن زوجها أستاذ في الأزهر وأنه ينتظرها عند المعلم حسين الجريسي. ونظرت فرأيت ليلى تمشي وهي نَشوى من الانشراح كأنها تلمح من وراء الغيب أعلام الأمل المرموق.

وما هي إلا لحظات حتى كنا في حضرة شيخ جليل اسمه الشيخ دعّاس.

- الشيخ دعّاس؟

- نعم يا سيدي، الشيخ دعاس، وهو الذي أنجب أحمد وإبراهيم وجلبي وسيد ومحمود، وهم زينة الرجال في بلاد النيل.

- رضي الله عنهم أجمعين، ثم ماذا؟

- ثم تعلل ذلك الشيخ بضيق الوقت، ودعانا إلى تناول القهوة في منزله، فركبنا سيارته ومضينا إلى داره في حيّ الزمالك. ولما دخلنا أبصرنا فتاة هي قيد العيون، بل قيد القلوب، اسمها درية، فسألنا عنها فعرفنا أنها ابنة الشيخ دعّاس، وابنة السيدة نجلاء، ونظرت ليلى إلى تلك الفتاة فلم ترى عينيها خضراوين، وإنما رأت عيونها عسلية، وهو اللون الغالب على عيون المصريات، وهو لون ينطق عن السحر الحرام والحلال.

- اتق الأدب يا ظمياء، فأنت في حضرة طبيب!

- الطبيب يسمع كل شيء!

- أمنت وصدقت!

- ومضت درية تباغم أمها باللغة الفرنسية. فسألت عنها فقيل إنها تلميذة بمعهد الليسيه.

(وهنا أجهدت ذاكرتي لأعرف من هي تلك التلميذة، ثم تذكرت أنني لم أتصل بمعهد الليسيه إلا في سنة 1928 والحمد لله على ذلك، فما يسرني أن تكون تلميذاتي محوراً لأمثال هذه الأحاديث).

- نعم يا ظمياء.

- وبدا لليلى أن تسأل عن السر في اختلاف ألوان العيون، فأجابت السيدة نجلاء بأن درية صورة لأبيها الشيخ دعاس؛ أما ابنها فهو صورة أمه اللبنانية. فقالت ليلى: وهل اللبنانيون خضر العيون؟ فأجابت السيدة: أنا لبنانية الموطن، تركية الأصل. فقالت ليلى: ومعنى هذا أن لك ابناً أخضر العينين؟ فقالت السيدة: نعم، وهو المحروس عبد الحسيب، وهو طالب بمدرسة البوليس، وسيحضر بعد قليل.

(للحديث بقايا)

زكي مبارك