مجلة الرسالة/العدد 239/التنويم المغناطيسي وقراءة الأفكار في القديم

مجلة الرسالة/العدد 239/التنويم المغناطيسي وقراءة الأفكار في القديم

مجلة الرسالة - العدد 239
التنويم المغناطيسي وقراءة الأفكار في القديم
ملاحظات: بتاريخ: 31 - 01 - 1938



لأستاذ جليل

هذا التنويم المغناطيسي قديم، وقد عرفته الحضارة العربية يوم كانت، وقيدته بالكتاب، وأثبته بعضهم في مجلة العجائب وجريدة ما وراء الطبيعة، وحاول العلماء تعليله وتفسيره فعجزت ذرائع علمهم في ذلك الوقت عما حاولوا. وهل اهتدى إليه علم الغربيين إلا منذ حين؟

وأول من ذكر التنويم المغناطيسي في العربية - وأن لم يسمه باسمه - هو (أوحد الزمان أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا البلدي) في كتابه (المعتبر) منذ أكثر من (800) سنة

قال الوزير جمال الدين يوسف القفطي في كتابه (إخبار العلماء بأخبار الحكماء): (هبة الله بن ملكا أوحد الزمان طبيب فاضل عالم بعلوم الأوائل، وقريب العهد من زماننا. كان في وسط المائة السادسة، وكان موفق المعالجة لطيف الإشارة. وقف على كتب المتقدمين والمتأخرين في هذا الشأن وأعتبرها واختبرها، فلما صفت لديه وانتهى أمرها إليه صنف فيها كتاباً سماه (المعتبر) أخلاه من النوع الرياضي وأتى فيه بالمنطق والطبيعي والإلهي فجاءت عبارته فصيحة، ومقاصده في تلك الطريق صحيحة. وهو أحسن كتاب صنف في هذا الشأن)

وقال ابن أصيبعة في (عيون الأنباء في طبقات الأطباء): (أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا كان في خدمة المستنجد بالله (العباسي) وكان له اهتمام بالغ بالعلوم وفطرة فائقة فيها، وله من الكتب كتاب (المعتبر) وهو من أجل كتبه وأشهرها في الحكمة)

وهذه قصة ذاك التنويم كما حدث أبو البركات:

(والمرأة العمياء التي رأيناها ببغداد، وتكررت مشاهدتنا لها منذ مدة مديدة قدرُها ما يقارب ثلاثين سنة، وهي على ذلك إلى الآن تُعرض عليها الخبايا فتدل عليها بأنواعها وأشكالها ومقاديرها وأعدادها دقيقها وجليلها؛ تجيب على أثر السؤال من غير توقف ولا استعانة بشيء من الأشياء، إلا أنها كانت تلتمس أن يرى أبوها (المرءَ) الذي يسأل أو يسمعه، فيتصور الدهماء أن الذي تقوله بإشارة من أبيها، وكان الذي تقوله يبلغ من الكثرة إلى ما يزيد على عشرين كلمة، وإنما كان أبوها يقول إذا رأى ما يراه من أشياء كثيرة مخ الأشكال والأنواع في مرة واحدة كلمة واحدة، وأقصاه كلمتان، وهي التي يكررها في كل قول، ومع كل من يسمع ويرى: (سلْها وسلها تخبرك؛ أو قولي له، أو قولي يا صغيرة) وقد عاندته يوماً وحاققته في ألا يتكلم البتة، وأريته عدة أشياء، فقال لفظة واحدة، فقلت له: الشرط أملك فاغتاظ، قال: ومثلك يظن أني أشرت إلى هذا كله بهذه اللفظة. واسمع الآن، ثم التفت إليها وأخذ يشير بإصبعه إلى شيء وهو يقول تلك الكلمة، وهي تقول: هذا كذا، وهذا كذا، وهذا كذا، على الاتصال من غير توقف، وهو يقول تلك الكلمة لا زيادة عليها، وهي لفظة واحدة بلحن واحد، وهيئة واحدة حتى ضجرنا، واشتد تعجبنا ورأينا أن هذه الإشارة لو كانت تتضمن هذه الأشياء لكانت أعجب من كل ما تقوله العمياء. ومن عجيب ما شاهدنا من أمرها أن أباها كان يغلط في شيء يعتقده على خلاف ما هو به، فتخبر هي عنه على معتقداتها كأن نفسها هي نفسه. ورأيناها تقول ما لا يعلمه أبوها من خبيئة في الخبيئة التي اطلع عليها أبوها. وهذا أعجب وأعجب، وحكاياتها أكثر من أن تعد. وما زلت أقول إن من يأتي بعدنا لا يصدق ما رأيناه منها)

وقد أورد ابن أبي الحديد خبر (العمياء) هذه في بحثه عن المغيبات في شرح (النهج) وقال قبل روايته: (وقد يقع الأخبار عن الغيوب بواسطة إعلام إنسان آخر الغيب، لنفسه بنفس المخبر اتحاداً وكالاتحاد، وذلك كما يحكي أبو البركات بن ملكا الطبيب في كتاب المعتبر):

وعدّ الرازي تلك العمياء (كاهنة) فقال في تفسيره (مفاتيح الغيب): (الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان وسألها عن الأحوال الآتية في المستقبل ذكرت أشياء ثم إنها وقعت على وفَق كلامها.

وأنا قد رأيت أناساً محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة أخباراً على سبيل التفصيل وجاءت تلك الوقائع على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب (المعتبر) في شرح حالها، وقال لقد تفحصت عن حالها مدة ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً)

وليست (العمياء) بكاهنة، وليس الذي تقوله من أنباء الغيب، وما ذلك إلا (التنويم المغناطيسي) الذي عرفناه في هذا الزمان، وهو اليوم حرفة محترفين، ومَصيدة متصيدين. .

روى المقريزي في (عقوده) هذا الخبر ونقله السخاوي في (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع):

(كان أحمد بن عبد الخالق البدر القاهري إذا كتب له البيت من الشعراء أو نحوه في ورقة لم يرها ودفعت إليه، ويده من تحت ذيله قرأها، ويده وثوبه يحولان بين بصره وبين رؤيتها، إلا أنه كان يمر بيده على المكتوب خاصة فيقرأ ما كتب في الورقة، امتحناه بذلك غير مرة، وشاهدت غيره يفعل مثله أيضاً)

والذي رواه المقريزي إنما هو من (قراءة الأفكار) وهو من ضروب المسمى عند الفرنج وقد رأينا المنومين يفعلونه كثيراً

وذكر القفطي في كتابه (إخبار العلماء بأخبار الحكماء) رجلاً اسمه (مخرج الضمير) فقال: (هذا رجل اشتهر بهذا الاسم، وكان يدعى المعجز في إخراج الضمير، فانطلق عليه ذلك) ثم روى قصة من قصصه، و (إخراج الضمير) مثل: (قراءة الفكر) أو هو هي، والحكايات الصحيحة لبعض المتصوفة في المخاطبة أو المراسلة النفسية (الكهربية) هي من هذا الباب

كنت قد أقرأت حديث ذلك التنويم القديم المنومين: الدكتور سلمون والدكتور داهشاً) فقالا: هذا هو التنويم المغناطيسي بنفسه، وسلم سلمون ودُهش داهش! وسلمون هذا شاب من دمشق، وداهش فتى من بيت المقدس، وهذه الدكتورية وهذه التسمية أو التعمية هي أفنون من أفانين هذا التنويم. . . وما أقول ذلك لائماً أو عائباً، إني أعلم أن عملهما يقول لهما يا منومان، يا لا عبان، العبا كما تهويان، وتسميا وتلقبا بما تريان. . .

وكل في هذه الدنيا إما منوِّمٌ مستهوٍ وإما منوَّمٌ مسهوىً. وما الأول - يا أخا العرب - إلا مثل الثاني؛ فالمستهوِي مستهوىً، والقاهر مقهور، والمستعبد عبد، والحر غير طليق، وذو الإرادة فاقدها، والكون في موج القدر

وبصير الأقوام مثلي، أعمى ... فهلمو في حندس نتصادمْ

بل ليس الناس كلهم أجمعون غادين ورائحين وعاملين ومتناحرين على الرغيف - إلا نائمين منومين، إلا في شبه الحالة المسماة عند الفرنج وما الإنسان إلا النائم السائر (وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود)

مفتحةُ عيونهم نيامُ وما يشعرون وما يستيقظون إلا وقت الموت. و (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)

(ق)