مجلة الرسالة/العدد 239/ظفر المكيافيلية

مجلة الرسالة/العدد 239/ظفر المكيافيلية

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 01 - 1938



وإلام يدفع العالم هذا الظفر؟

للأستاذ محمد عبد الله عنان

لما وضع المؤرخ والفيلسوف السياسي نيكولو ماكيافلي، كتابه (الأمير) في سنة 1513 متضمناً لمذهبه المشهور في الحكم والسياسة، لم يكن يتوقع أن يغدو كتابه بعد أربعة قرون إنجيلاً لنوع جديد من الحكم يحاول اليوم أن يفرض مبادئه على العالم، ولم يكن يتوقع بالأخص أن تغدو آراؤه السياسية نبراساً لإيطاليا الجديدة يدفعها إلى طريق السلطان والقوة، أو يتصور أن هذه الآراء قد تغدو يوماً مثار حرب عالمية طاحنة بين المبادئ السياسية والاجتماعية الخصيمة. ذلك أن مكيافيلي كتب كتابه في عصر كانت إيطاليا تنقسم فيه إلى عدة جمهوريات وإمارات صغيرة، ينافس ويقاتل بعضها البعض، وتتقلب إماراتها ورياساتها بين عصبة من الزعماء والمتغلبين؛ واستوحى معظم آرائه من دراسته لأحوال هذه الدويلات الصغيرة، وهذا الرهط من الأمراء المتنازعين، واتخذ أميره الأمثل من رجال من طراز هذا العصر شقوا طريقهم إلى السلطان والملك بوسائل مثيرة من العنف والخيانة والغدر؛ وكان أقصى أمانيه حينما وضع (الأمير)، وأهداه إلى أميره وحاميه لورنز دي مديتشي أمير فلورنس، أن يكون كتابه مرشداً لأمراء عصره في تفهم أساليب الحكم التي تلائم روح العصر، وتلائم مطامع الزعامات المحلية التي كانت تضطرم يومئذ في دائرة محدودة، قوامها عدة من الولايات والمدن الإيطالية.

كانت المكيافيلية إذن شعار عصر خاص ومجتمع خاص؛ وكان طابعها القاتم، وما انطوت عليه من المبادئ العنيفة التي لا ضمير لها ولا وازع، والتي تغاضت عن كل المثل الإنسانية والأخلاقية، يسبغ عليها دائماً في نظر المجتمعات الرفيعة لوناً من الشذوذ البغيض الذي تأباه السياسة المستنيرة. ومن ثم كانت الفلسفة المكيافيلية على كر العصور مضرب الأمثال للسياسة البغيضة.

وليس من موضوعنا أن نتبسط في شرح المكيافيلية وأصولها، ولكنا نورد من أقوال واضعها هاتين الفقرتين اللتين تتضمنان لب النظرية المكيافيلية في الحكم والسياسة:

1 - (لا يستطيع الأمير العاقل وليس عليه أن يحفظ العهد، إذا كان مثل هذا الوفاء قد ينقلب ضده، وإذا زالت الأسباب التي حملته على قطعه

2 - (ليس من الضروري أن يتصف الأمير بالخلال الحسنة التي ذكرتها، ولكن من الضروري أن يبدو كأنه متصف بها. . ولا يستطيع الأمير، ولا سيما الأمير الجديد، أن يراعي كل الأمور التي يقدر الناس من أجلها لأنه كثيراً ما يرغم لكي يحفظ الدولة على أن يتصرف بغير ما يقضي به الإخلاص والصداقة والإنسانية والدين، وإذاً فمن الضروري أن يكون ذهنه متأهباً للعمل وفقاً لتقلب الريح والجدود)

هذا هو لب النظرية المكيافيلية في الحكم. ويكفي أن نقرأ كلمة (الدولة) مكان كلمة (الأمير) لنسبغ على هذه النظرية طابعها الحديث؛ وفي التاريخ كثير من الأمراء والطغاة الذين حكموا قبل مكيافيلي بنفس الروح والوسائل التي نادى بها مكيافيلي، وفيه كثير من الأمراء والساسة المحدثين الذين أعجبوا بمبادئ مكيافيلي وطبقوها في عصور تعتبر فيها هذه المبادئ من ألوان الغدر السياسي والاجتماعي الذي يصمم الدولة المتمدنة؛ وما زالت المكيافيلية إلى يومنا محكوماً عليها، وما زالت تعبر دائماً منافية لجميع المبادئ الحرة والإنسانية التي تقوم عليها المدنية الحديثة

على أن هذه الحقيقة التاريخية القديمة تختفي اليوم شيئاً فشيئاً؛ فلم تعد المكيافيللية في عصرنا فلسفة سياسية منبوذة، ولكنها نغدو بالعكس حقيقة واقعة تطبقها وتؤمن بها دول عظيمة. ذلك أن الفاشستية الإيطالية والأنظمة الطاغية المماثلة الأخرى تقوم في جوهرها على الفلسفة المكيافيلية؛ وقد أسبغت وسائلها وأساليبها على نظريات فليافيلي شرعية جديدة، وغدت هذه النظريات اليوم أساساً لنوع جديد من الحكم والسياسة تقوم عليه عدة دول قوية جديدة؛ ففي إيطاليا وألمانيا وروسيا تجد نظريات مكيافلي اليوم ميداناً شاسعاً لتطبيقها

وقد تناول هذا الموضوع الخطير أخيراً كاتب ومؤرخ فرنسي كبير هو مسيو لوي دي في كتاب قيم عنوانه (نحن ومكيافيلي درس فيه حياة الفيلسوف دراسة وافية، وانقل منها إلى عصر التطبيق، فذكر أن الفاشستية هي أعظم تجربة مكيافيلية عرفها التاريخ، وأن فكرة السنيور موسوليني في توحيد الشعب هي فكرة مكيافيلية محضة. (أن تكون الدولة (وفي لغة مكيافيلي الأمير) كل شيء والفرد لا شيء، وأن تكون الدولة مصدر كل السلطات والقوانين، وأن تطرح كل اعتبار أخلاقي في تحري غاياتها) هذا هو شعار الفاشستية، كما يعرفها الأستاذ دي فيلفوس، وهذا هو شعار الدول الطاغية الأخرى التي تقوم على أصولها؛ وهذه هي نفس الرسالة التي بشر بها الفيلسوف الإيطالي في كتابه (الأمير)

وكما أن الفاشستية تقوم من الوجهة العلمية على أسس المكيافيلية فهي أيضاً تؤثر لغتها وأساليبها الدبلوماسية؛ فزعيم الدولة الإيطالية يستعمل اليوم نفس الوضوح الجاف، والصراحة المثيرة، في تمجيد وسائل العنف وأساليب القوة الهمجية، ويبدي نفس الاغتباط في تمزيق جميع المثل العاطفية، ويتقدم إلى العام باسم الدولة وضرورة قيامها على أنقاض جميع العناصر والاعتبارات الإنسانية، وبأنها مصدر الحق ومجمع القوى؛ ثم هو يرجع مثله الأعلى إلى نفس الكعبة المقدسة التي مجدها مكيافيلي، وهي (روما) وعظمتها الخالدة

فالفاشستية هي إذن ذروة النجاح العملي في تطبيق الفلسفة المكيافيلية؛ وإذا كانت المكيافيلية قد استطاعت من عصر إلى آخر، وفي بعض الظروف المناسبات أن تحقق لمحات من الظفر، فإنها اليوم على يد الفاشستية تحقق ظفرها كاملاً. وخلاصة شعارها الظافر الذي نادت به منذ أربعة قرون هو شعار الدول الفاشستية المعاصرة، وهو أن النصر الحقيقي إنما هو للقوى المسلحة والوسائل المدمرة، وإن كل سياسة لا تقوم على الحقائق العملية مصيرها إلى الفشل المحقق، وإنه لا حق للضعيف والأعزل في البقاء، ولا وجود لمثل أو مبادئ مثلى لا تدعمها القوة المادية

بل ويرى الأستاذ فيلفوس أن ظفر المكيافيلية لم يقف عند هذا الحد؛ ذلك أن هذا الظفر يشمل ميادين لم تكن تصلح بطبيعتها ولا بمبادئها لاعتناق المكيافيلية وتطبيقها وهي الدول الديموقراطية؛ ولكن الدول الديموقراطية ترى نفسها اليوم مضطرة إلى أن تتحوط لخطر الدول الفاشستية المدججة بالسلاح، وأن تقابل القوة بالقوة محافظة على سلامتها وكيانها، فهي بذلك مضطرة إلى أن تقتبس نوعاً من المكيافيلية التي لا ترغبها ولا تؤمن بها، وهذه هي حقيقة محزنة، ولكنها حقيقة لا ريب فيها

هذه هي خلاصة الحقائق التاريخية الجديدة التي يبسطها الكاتب الفرنسي في مؤلفه بسطاً قوياً شائقاً؛ ونقول إنها حقائق تاريخية لا تعوزها الأدلة الواقعية. وماذا تكون المكيافيلية إذا لم تكن هي نفس النظم التي تطبق اليوم بمنتهى العنف والصرامة في إيطاليا الفاشستية، وألمانيا النازية، وروسيا البلشفية؟ إن هذه النظم جميعاً تقوم على نوع من الزعامة الممعنة في الطغيان والاستئثار بكل السلطات، وهذه الزعامة ذاتها تستتر وراء فكرة الدولة؛ ولم يبق للفرد اليوم وجود في ظل هذه النظم المطلقة، ولم يبق له شيء من الحقوق أو الحريات العامة، فهذه كلها تفيض وتنمحي في شخص الدولة؛ والدولة أو أولئك الذين يعملون باسمها يضعون أيديهم على مصاير الأمة أرواحها وعقولها وجسومها وكل ما ملكته أيديهم، ويتخذون من التسريع المدعم بالقوة القاهرة سلاحاً لفرض كل تجاربهم الإصلاحية على الشعب، ويزعمون أن مناهجهم الإصلاحية هي السبيل القويم لتحقيق عظمة الأمة وخير الشعب؛ وقد يعتمدون في هذا السلطان فضلاً عن قوة الجيش العامة على صفوف حزبية كثيفة من الشباب المسلح المدرب على أساليب العنف؛ وتسيطر هذه التجارب والمحاولات الإصلاحية على حياة الفرد الخاصة فضلاً عن الحياة العامة، فترسم له خطط أعماله وتفكيره واعتقاده واتجاهاته وتصرفاته كلها دون أن تكون له إرادة الاختيار أو المعارضة، وتجري هذه المحاولات جميعاً باسم الدولة التي تقبض عليها الزعامة المتربعة في دست الحكم

وهذه الزعامة المطلقة العاملة باسم الدولة هي بعينها (أمير) مكيافيلي، واستثارها وراء فكرة الدولة إنما هو نوع من النفاق السياسي الذي أوصى به مكيافيلي

وكما أن المكيافيلية تبدو واضحة أيضاً في السياسة الداخلية لهذه الدول المطلقة، فهي تبدو واضحة أيضاً في السياسة الدولية الخطرة التي تجري عليها هذه الدول في تنظيم علائقها مع الدول الأخرى؛ فالقوة في نظرها هي أساس الحق والعهود، والمواثيق الدولية لا قيمة لها في نظرها مادامت لا تتفق مع مصالحها ومراميها. وهذه هي الصورة الحديثة لمبدأ مكيافيلي في قوله: (إن الأمير كثيراً ما يرغم لحفظ الدولة على أن يتصرف بغير ما يقضي به الإخلاص والصداقة والإنسانية والدين) ولقد رأينا إحدى الدول العظمى تلغي ما بقي من تعهداتها في معاهدة الصلح، وتنكر ما وقعته من مواثيق دولية لصون السلام بحجة أن هذه النصوص والعهود تصطدم مع مصالحها الوطنية ولم يبق اليوم مبرر لبقائها بعد أن تغيرت الظروف التي أبرمت فيها، ولم تفعل ذلك إلا بعد أن آنست من نفسها قوة تدعم بها خطوتها. بيد أن الروح المكيافيلية تبدو بنوع خاص في اعتداءات بعض الدول القوية على الدول الضعيفة وغزوها أو استعمارها، وقد كان غزو الفاشستية للحبشة والاستيلاء عليها بلا ريب أسطع المغامرات المكيافيلية في عصرنا، فقد انتهكت فيه جميع المعاهدات التي عقدت والمواثيق التي قطعت باحترام سلامة الحبشة واستقلالها، ولم تخف الفاشستية أنها أقدمت على هذه الخطوة الجريئة تحقيقاً لمطامعها الإمبراطورية

وهانحن أولاء اليوم نشهد نفس التجربة المحزْنة في أسبانيا وفي الصين

فإلى أي مصير يسير العالم في ظل المبادئ العنيفة الخطرة؟ يقول لنا مؤلف كتاب (نحن ومكيافيلي) إن مدى الشر الإنساني لم ينقص وإن العناصر السيئة في الأفراد تجمع من جديد لتطلق بعد ذلك من عقالها في أعمال العنف والشر، وأنها قد تدفع العالم إلى كارثة أفظع وأروع من كارثة الحرب الكبرى

ونخشى أن يكون في ظواهر العصر وتطورات السياسة كثير مما يدعم هذا التكهن المروع

محمد عبد الله عنان