مجلة الرسالة/العدد 24/أمريكا بين الحظر والإباحة

مجلة الرسالة/العدد 24/أمريكا بين الحظر والإباحة

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 12 - 1933



في اليوم الخامس من هذا الشهر ختمت في أمريكا تلك المحاولة الخطيرة التي أطلقوا عليها بحق (التجربة النبيلة): أي محاولة تحريم الخمور في جميع الولايات المتحدة بأمريكا، والأن ونحن نشهد ختام هذه التجربة يجمل بنا أن نقف لحظة لنفكر في أمرها، كيف بدأت وكيف انتهت، فإننا ونحن نعيش في أقطار إسلامية يحرم دينها شرب الخمر ويحظر بيعها وشراءها، لا يجوز لنا أن نمر بهذا النبأ الخطير كأنه أحد الأنباء العادية. بل يجمل بنا أن ننعم النظر فيه قليلا.

ليست الولايات المتحدة دولة كسائر الدول، بل يميزها أمور عديدة:

منها حجمها الهائل، فانها تكاد تعدل أوربا في المساحة. وهي وحدها

عالم قائم بذاته. ثم سكانها، وهم يربون على مائة وعشرين مليونا من

الناس، أكثرهم يمت إلى أصل سكسوني، ولكن بينهم جماعات كبيرة

من الاسكندنافيين واللاتين والسلاف وخليط من شعوب الأرض جميعاً،

هذا عدا الزنوج الذين يزيدون على عشرة الملايين، وقد جيء بهم فيما

مضى عبيداً لكي يعملوا في الحقول، ثم أصبحوا اليوم (أحراراً) لهم من

الوجهة النظرية، ما لغيرهم من الحقوق.

ثم هنالك أمر آخر يميز نظام الحكم في الولايات المتحدة، وهو أن لكل من الثماني والأربعين ولاية التي تتألف منها الدولة نصيباً كبيراً من الاستقلال الداخلي، ولهذا كانت في الولايات المتحدة دائماً سلطتان: السلطة المحلية ومركزها عاصمة كل ولاية، والسلطة الاتحادية ومركزها واشنطون. وهي التي تدير الأمور التي تهم الدولة كلها. ونظراً لحرص كل ولاية من الولايات على حقوقها واستقلالها، فان دستور أمريكا يوضح تماماً ما هو داخل في اختصاص الحكومات المحلية، وما هو داخل في اختصاص الحكومة الاتحادية كل هذا لابد لنا من تذكره كي نستطيع أن ندرك الصعوبة التي كابدتها حكومة أمريكا من أجل تنفيذ قانون التحريم. فان هذا القانون بقي حبراً على ورق، لأن معاقبة المجرمين من أجل جرائم التهريب والاتجار في الأشياء المحرمة كان من اختصاص كل ولاية وليس اختصاص الدولة. وهذا يفسر لنا أن مجرما خطيرا مثل آل كابوني لم تستطع الدولة أن تحاكمه من أجل الجرائم العديدة التي ارتكبها في سبيل تجارة الخمور المحرمة، بل حاكمته من أجل تقصيره في دفع ضريبة الدخل. اذ كان من اختصاص الدولة أن تحاكمه من أجل هذا الجرم الخفيف نسبياً، لا من أجل الجرائم الكبرى التي هي من اختصاص الولاية.

ولابد لنا أن نتساءل عن المؤثرات والقوة التي دفعت بالولايات المتحدة نحو التحريم، اذ ليس من السهل أن نفهم هذا الانقلاب الهائل في الرأي العام، فان الأمة التي نادت بالحظر الشديد في سنة 1919 هي بعينها التي تنادي اليوم بالإباحة. إن هذا القانون لم يفرضه الحكام على الناس فرضا، بل لقد فرضته الأمة على نفسها بعد انعام النظر وطول التجربة. وقد كانت في الولايات المتحدة قوى كثيرة تعمل بنشاط لتحريك الرأي العام وتحويله نحو التحريم. وهذه القوى كانت موجودة دائماً تنتظر الفرصة الملائمة، وكان لها تأثيرها قبل سنة 1919. ونرى هذا واضحاً في أن اكثر من الثلاثين ولاية قد حرمت الخمر من تلقاء نفسها قبل سنة 1919. ولكن هناك فرق كبير بين أن يحرم الشيء في كل ولاية على حدة، وبين أن يحرم بقانون من الدولة؛ ففي الحالة الأولى تراعي كل ولاية مصلحتها الخاصة ويسهل عليها تعديل وإلغاء الأحكام، ويمكن لمن لا يرضيه قانون أن ينزح إلى ولاية مجاورة (وهذا هو الحال مثلاً فيما يتعلق بقانون الطلاق). أما قانون الدولة فيفرض على جميع الولايات بمجرد موافقة ثلثيها. فيفرض على الراغبين والكارهين على حد سواء، ويصبح كل فرد ولا مفر له من الإذعان أو العصيان، ثم تجرد جميع قوى الدولة لتنفيذ هذا القانون بكل ما تقدر عليه الدولة من الشدة والصرامة.

ولهذا كله فان تحريم ثلاثين ولاية للخمور لم يكن له تأثير ذو شأن، ولكن التحريم في الدولة كلها كان حادثاً ذا شأن خطير.

كان اهم الراغبين في التحريم رجال الصناعة في الشمال، ورجال الزراعة في الجنوب. فالأولون (ويمثلهم المستر هنري فورد) قد رأوا أن الخمر تذهب بقوى العمال وتضعف صحتهم وتقلل من جهودهم، فلا يستطيع صاحب المعمل أن يحصل من عماله على الجهود التي يرجوها في مقابل الأجور التي يدفعها. أما أصحاب الزراعة في الجنوب فيعتمدون في زراعتهم على الزنوج، وهؤلاء كانت تذهب الخمر بألبابهم وتقعدهم عن العمل، وتتركهم في حالة زرية. والزنجي أقل قدرة على ضبط نفسه والوقوف في الشراب عند حد. وكان هناك غير هؤلاء جماعات من محبي الخير الذين يكرهون الخمر لذاتها، ويريدون أن يخلصوا الناس من شرورها، مؤمنين بأن في هذا رفعاً لشأن بلادهم، وإعلاء لكلمتها، ويمثل هذه الجماعة المستر جون ركفلر الصغير وزمرته. وقد انتشر في الولايات المتحدة قبل التحريم نوع من الحانات أطلقوا عليها اسم الصالون قد أصبح على مضى الزمن بؤرة فساد وموبقات. وقد كبر بغض الناس لهذه الصالونات حتى دفعهم إلى المطالبة بالتحريم. مع أن إبطال هذه الأماكن قد لا يستدعي هذا العلاج الصارم.

بذلت هذه الجماعات كلها جهوداً جبارة ومالأ كثيرا من أجل استمالة الرأي العام. وساعدتهم الحرب العامة التي استدعت تحريم الخمر في بعض الولايات، والتقليل من شربها في البعض. وتم لهم النصر في يناير سنة 1919 حين حرمت الخمر في جميع الولايات بإجماع 46 ولاية من الثماني والأربعين التي تتألف منها الدولة، وحرم بيعها وصنعها والاتجار بها واستحضارها من الخارج. وجهزت الدولة جيشا هائلا وأسطولاً قوياً لتنفيذ هذا القانون. الذي أعطى شكل تعديل في الدستور وأطلق عليه اسم التعديل الثامن عشر، ومن الغريب أن دستور الولايات المتحدة لم يعدل يوما بمثل هذا الإجماع وهذا الاقتناع وتلك الأكثريات الساحقة.

لقد وصفت الولايات المتحدة بأنها معمل هائل للتجارب الاجتماعية، ولكن لا يعرف في تاريخ العالم كله تجربة اجتماعية ضخمة كهذه التي أقدمت عليها أمريكا في تلك السنة. فان المعمل الذي أجريت فيه هذه التجربة ليست بلدا صغيرا كفنلنده، بل دولة مساحتها تزيد على ثلاثة الملايين من الأميال، وسكانها يربون على المائة والعشرين مليوناً مختلفي الجنس والثقافة والميول. وان البلاد الإسلامية نفسها هي أولى من أي بلد في العالم بإجراء مثل هذه التجربة لم يعرف عنها يوماً أنها حاولت بذل مثل هذا الجهد في أي عصر من العصور من أجل تنفيذ أحكام الشريعة.

ولهذا دهش العلم كله يوم أقدمت الولايات المتحدة (حرة مختارة) على هذه التجربة الخطيرة. وإننا اليوم (وقد أصبحنا عقلاء بعد أن وقعت الواقعة) نستطيع أن نقول أنه كان الأفضل أن تترك مسألة الإباحة والتحريم إلى كل ولاية تتصرف فيها بما تشاء بدلا من أن تصبح مسألة الدولة بأجمعها، ولكن في سنة 1919 لم يكن من شك في أن أكثرية الأمة في جانب التحريم. وقد أقدم نحو ثلاث وثلاثين ولاية على تحريم الخمر.

على كل حال سارت التجربة في طريقها أول الأمر، وأنظار العالم كله تتطلع إلى أكبر دولة في العالم، وهي تحاول اكبر تجربة اجتماعية في التاريخ. وكان الكثير من الناس يبدي عطفهم على أمريكا وكأنما الكل واثق من نجاح التجربة في النهاية برغم ما قد تلاقيه من الصعوبات، وجعل بعض المصلحين يحلمون بان سنّّة التحريم ستنتشر من الولايات المتحدة إلى سائر الأقطار.

ولكن كانت هنالك قوى تعمل للشر، وإن لم يتوقع احد أن سيكون لها كل هذا الخطر، فنهضت هذه القوى الشريرة لتنظيم الاتجار بالخمور بكافة انواعها؛ مما قد يصنع خلسة في داخل البلاد أو يستورد من الخارج. وسرعان ما أنشئت أساطيل لا عمل لها غير هذه التجارة المحرمة؛ واتسع نفوذ هذه الجماعات حتى أصبح لها نفوذ كبير (بل أحياناً النفوذ الأكبر) في كل ولاية، حتى كانت لها الكلمة النافذة في تنصيب رجال الحكم. وانتشر الأجرام بين هذه العصابات ومن يعترضها في أعمالها، وكذلك فيما بين العصابات المتنافسة نفسها؛ وأصبح أمرها حديث النوادي والصحف وموضوعاً للصور السينمائية؛ وبطريق العدوى تجاوز الأجرام دائرة تجارة الخمور، إلى الأجرام في نواح أخرى كالاختطاف والسلب والنهب وما إلى ذلك.

بات من الواضح للعالم كله أن تلك التجربة الهائلة قد فشلت فشلاً تاماً. فأن الحصول على الخمر برغم التحريم كان أمرا في غاية السهولة. ولئن كانت الحانات القديمة (الصالونات) قد أغلقت، فقد نشأ مكانها حانات خفيفة اشد خطرا واكثر وزرا. وهذه أطلقوا عليها اسماً غريباً وهو ويؤكد أكثر الكتاب أن شرب الخمر في زمن التحريم كان أوسع انتشاراً مما كان عليه قبل التحريم.

وبرغم فشل التجربة الذي كان واضحاً لكل ذي عينين، بقي في الولايات المتحدة جماعات كثيرة تنادي باستمرار التحريم، وبتجديد المراقبة والضرب على أيدي المجرمين. غير أن هذه الجماعات أخذت تضعف على مضي الزمن. حينما انتشرت في طول البلاد وعرضها جرائم منكرة من نوع اختطاف طفل لندبرج، فأيقن الناس أن التحريم قد أوقع البلاد في حال من الفوضى والاختلال هي شر من الخمر التي أريد تحريمها.

ومن أكبر مظاهر التحول في الرأي العام ذلك الخطاب الشهير الذي كتبه المستر جون ركفلر الصغير في صيف سنة 1932 يبدي فيه أسفه الشديد لأنه (وهو من اكبر دعاة التحريم) مضطر إلى الاعتراف بان التجربة النبيلة قد فشلت فشلاً محزناً.

وهكذا أخذ الرأي العام يتحول حتى استطاع المستر فرانكلين روزفلت أن يستميل الأمة إلى صفه، حينما أعلن في شجاعة وصراحة أن من مبادئه إلغاء التحريم. ومنذ انتخب للرآسة في أوائل هذا العام وهو يسير بالبلاد نحو الإلغاء حتى تم له في أول هذا الشهر ما أراد، بأن حصل على موافقة ست وثلاثين ولاية على إلغاء التعديل الثامن عشر.

والأن وقد انتهى التحريم، فما عسى أن يكون المستقبل؟

إن الذين نادوا بإلغاء التحريم، لم يفعلوا ذلك برغبتهم في شرب الخمر وحبهم لها؛ بل أن أكثرهم قد فعل ذلك أملاً في أن الإباحة تقضي على تلك الشرور التي ولدها التحريم. فتنتهي بانتهائه. ولكن من الصعب أن يتنبأ المرء بشيء. فأن بضع عشرة سنة تقضيها عصابات الأجرام في نشر الأجرام والفساد في جميع أنحاء البلاد، لا يتصور أن تنتهي آثارها في عشية أو ضحاها. ومما لاشك فيه أن البلاد اليوم في حال انتقال شديد الخطورة فقد تفيق بسرعة من تأثير هذه السنين العصيبة، وقد تبقى تحت ظلها القاتم زمناً طويلاً، خصوصاً إذا ذكرنا أن عدد الذين يشربون الخمر قد ازداد ولم ينقص أثناء التحريم. وأن الإباحة الجديدة لابد ان تؤدي زمنا ما إلى الإسراف في أمر محبوب كان ممنوعا فاصبح مباحا. ومن غير شك أن الحكومة تعزي نفسها بانها ستجني من الإباحة ضرائب تقدر بنحو خمس مائة مليون دولار. (أي نحو مائة مليون جنيه).

على كل حال لا يستطيع المرء أن يملك نفسه من الأسف الشديد على فشل هذه التجربة الشريفة التي لم تكن ترمي إلا إلى اشرف المقاصد واسماها وهو إعلاء شأن الإنسان وإسعاده.

م. ع. م