مجلة الرسالة/العدد 24/الحركة القومية الارلندية منذ نشأتها إلى اليوم

مجلة الرسالة/العدد 24/الحركة القومية الارلندية منذ نشأتها إلى اليوم

مجلة الرسالة - العدد 24
الحركة القومية الارلندية منذ نشأتها إلى اليوم
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 12 - 1933



للأستاذ محمد عبد الله عنان.

- 1 -

المسألة الارلندية من أخطر واعقد مشاكل الإمبراطورية البريطانية. وخطورتها اليوم تبدو بنوع خاص، حيث تتأهب ارلنده لتحقيق الغاية التي تعمل لها منذ أحقاب. وهي التحرر من كل فروض التبعية البريطانية وإعلان نفسها جمهورية حرة موحدة، وأيرلندة اليوم من الوجهة الدولية دولة مستقلة ذات سيادة، ونعتها الدولي هو: (دولة ارلنده الحرة) ولكنها ما زالت طبق نصوص المعاهدة التي أنشأتها دولة حرة، تدين ببعض فروض الولاء والتبعية لبريطانيا العظمى.

وإذا كانت ارلنده تعتبر من الوجهة الجغرافية إحدى الجزر البريطانية، وتجاور إنكلترا واسكتلنده مجاورة قوية، فهي مع ذلك وحدة جنسية وتاريخية مستقلة. فالشعب الارلندي لا يمت بنسب أو صلة للشعب الإنكليزي، بل يرجع إلى أصول جنسية أخرى، وله خواصه ومميزاته وتقاليده الخاصة. وله أيضاً لغته الخاصة الجايلقية أو الارلندية القديمة التي غدت لغة رسمية لدولة ارلنده الحرة، وعاطفة الاستقلال قديمة راسخة في الشعب الارلندي. فمنذ القرن الحادي عشر كانت ارلنده مملكة مستقلة قوية تهدد جيرانها بالغزو والسيادة ولكن إنكلترا أدركت منذ البداية خطر استقلال ارلنده وقوتها على استقلالها وكيانها، وعملت الملكية الإنكليزية منذ أواخر القرن الثاني عشر على فتح هذه الجزيرة القوية واستعمارها، فغزاها هنري الثاني وافتتحها (1172م) وبدأ الإنكليز باستعمارها؛ وتوالت حملات ملوك إنكلترا على الجزيرة الثائرة لاستقلالها. ولكن ارلنده لم تهدأ لها من ذلك الحين ثائرة. وتاريخ ارلنده حافل منذ القرن السادس عشر بأخبار هذه الثورات القومية العديدة التي كان الشعب الارلندي يضرم لظاها من آن لآخر طلباً لحريته واستقلاله، والتي كانت إنكلترا تسحقها دائماً بمنتهى الشدة والقسوة. وكانت إنكلترا تحكم ارلنده طوال هذه القرون بيد من حديد، ولكن لم تفلح قط في كسب محبة الشعب الارلندي أو التأثير في عواطفه الوطنية وصرفه عن طلب استقلاله.

ولما رأت السياسة الإنكليزية بعد عدة قرون أن وسائل الشدة فشلت نهائياً ف الشعب العريق في وطنيته واستقلاله جنحت إلى نوع من اللين والمودة. وفي سنة 1800، أصدرت الحكومة البريطانية قانون الاتحاد الارلندي، وبمقتضاه اعتبرت ارلنده جزءاً من (المملكة المتحدة) (بريطانيا العظمى) تمثل في البرلمان البريطاني بثمانية وعشرين عيناً وأربعة أساقفة، ومائة عضو في مجلس العموم. وتدفع ارلنده للخزينة البريطانية مبلغاً معيناً. ولها حرية التجارة، وحرية الاحتفاظ بنظمها القضائية والتنفيذية الخاصة. وكان لهذه الخطوة أثرها في تهدئة الشعب الارلندي. ولكن الحركة الاستقلالية لبثت قوية تتحين فرص العمل. ولم يصف قط كدر العلائق بين بريطانيا وارلنده. على أن حركة قومية جديدة معتدلة ظهرت: قوامها المطالبة بالحكم الذاتي أو الحكم الداخلي لارلنده وقويت هذه الحركة في أواخر القرن التاسع عشر بقيادة الزعيم الوطني بارنل، وغلب هذا الاتجاه في الحركة الوطنية الارلندية حيناً. وحاول حزب الأحرار أن ينتهز هذه الفرصة المعتدلة لتحقيق الأماني الارلندية وكسب صداقة الشعب الارلندي، فقدم غلادستون رئيس الحكومة يومئذ إلى البرلمان مشروع الحكم الذاتي الارلندي، ولكنه رفض مرتين (سنة 1886 و 93)، وعاد الأحرار لاستئناف السعي قبيل الحرب، فقدم مستر اسكويث رئيس الوزارة مشروع الحكم الذاتي الارلندي وصودق عليه سنة 1914. ولكن نشوب الحرب الكبرى حال دون تنفيذه. وهنا تبدأ مرحلة جديدة في حركة الاستقلال الارلندية.

- 2 -

وفي بداية الحرب بذل الزعماء الارلنديون وعلى رأسهم (جون ردموند) كل جهد لمعاونة بريطانيا العظمى، وتطوع كثير من الارلنديين في الجيش البريطاني. ولكن الأحقاد القومية القديمة ما لبثت أن اضطرمت، ووثبت الحركة الاستقلالية مرة أخرى، وقامت ثورة أيرلندية جديدة في سنة 1916 كان مدبرها حزب (السين فين) الجمهوري الذي أسس قبل ذلك بقليل ليعمل على استقلال ارلنده، فأخمدها الإنكليز بشدة، وفي نهاية الحرب توفي جون ردموند، فزادت علائق البلدين سوءاً واضطراباً، وقامت الجمعيات السرية الاستقلالية في جميع أنحاء ارلنده، وبرز حزب السين فين في الطليعة.

وهنا نقف قليلاً للتعريف بحزب السين فين هذا الذي غدا روح الحركة القومية الأرلندية، وكتب لنفسه في سير الجهاد الوطني صحفاً خالدة. ففي سنة 1915 أسس فريق من الزعماء الارلنديين حزباً أو هيئة وطنية جمهورية باسم (السين فين) ومعناها (نحن فقط)؛ وغايتها تحرير ارلنده تحريراً مطلقاً، وفصلها عن بريطانيا العظمى فصلاً تاما. وكان شعار هذه الحركة منذ البداية الجرأة، والتضحية. فأعلن (السين فين) انهم (الحكومة المؤقتة للجمهورية الارلندية) وانشئوا قوة وطنية أطلق عليها (المتطوعة الارلنديون) ونظموا ثورة سنة 1916. ولبث (السين فين) أثناء الحرب يناصبون بريطانيا العداء. ولكن إنكلترا استمرت أثناء الحرب تحكم ارلنده بمنتهى الشدة، وتطارد الحركة القومية بمنتهى العنف. ولكن دعوة (السين فين) ما زالت تزداد قوة وانتشاراً حتى عمت سواد الشعب الارلندي. وظهرت قوة الحركة في انتخابات سنة 1918 إذ سقط معظم الزعماء القدماء أنصار فكرة التوفيق والحكم الذاتي؛ وفاز السين فين فوزاً باهراً. ورأت السياسة البريطانية نفسها في مأزق حرج لأن السين فين رفضوا مشروع الحكم الذاتي بقوة وتمسكوا بالاستقلال التام، وانشئوا (حكومة الجمهورية الارلندية) والبرلمان الارلندي الوطني.

وهنا تدخل المسألة الارلندية في طور جديد، وتضطر السياسة الإنكليزية مرة اخرى للبحث عن سبيل لإرضاء ارلنده، أو بعبارة أخرى لتخدير حركتها القومية. وكان الحكم يومئذ ما يزال في يد الأحرار، وهم الذين سعوا إلى حل المسألة الارلندية بمنح الحكم الذاتي لارلنده. ففي سنة 1920 اتخذت الحكومة البريطانية برآسة لويد جورج في المسألة الارلندية خطوتها الجديدة فأصدرت (قانون الحكومة الارلندية) بمنح الاستقلال الذاتي لارلنده الجنوبية واستثنيت ألصتر أو ارلنده الشمالية لاختيارها البقاء مع بريطانيا العظمى.

ولكن السين فين رفضوا هذا القانون ورفضه البرلمان الارلندي الوطني (الديل ايران) بقوة واضطرمت ارلنده بثورة جديدة، وشهر السين فين على إنكلترا حرباً عنيفة، ونظموا العصابات المسلحة في أنحاء ارلنده، وتوالت حوادث الفتك والاغتيال على كبار الإنكليز والموالين لهم في ارلنده، وأبدى رجال السين فين بسالة وتضحية نادرتين. وقابل الإنكليز الاعتداء بمثله وارتكبت حوادث قسوة عديدة، وهلك من الفريقين في تلك الحوادث عدد من الزعماء والرجال البارزين. ولم تبد الحركة الارلندية قط بمثل هذا العنف، ورأت الحكومة البريطانية رجالها وجندها يسقطون تباعاً في ارلنده، ورأى فريق من الزعماء الارلنديين ان العنف صائر بالبلاد إلى الخراب والدمار، فاتفق الفريقان بعد نحو عام من تلك الحرب المضطرمة على عقد هدنة يحاولان خلالها التفاهم والمفاوضة، فهدأت البلاد حيناً، وعقدت عدة مؤتمرات للمفاوضة بين ممثلي السين فين وممثلي إنكلترا، وانتهت في ديسمبر سنة 1921 بعقد معاهدة عرفت بمعاهدة لندن؛ وبمقتضاها اعترفت إنكلترا باستقلال ارلنده الجنوبية ومنحها نظام الدومنيون (الأملاك المستقلة) مع احتفاظ بريطانيا ببعض رسوم السيادة على ارلنده: كفرض يمين الطاعة للعرش، وجعل استئناف الأحكام النهائي امام مجلس الملك الخاص، وتعيين حاكم يمثل التاج. ووافق البرلمان الارلندي (الديل) على المعاهدة في يناير سنة 1922، ولكنها لم تصادف قبولاً من الجناح الجمهوري المتطرف الذي يقوده الزعيم دي فاليرا، فرفض المعاهدة واستقال دي فاليرا من رآسة البرلمان احتجاجاً عليها، فخلفه آرثر جريفث في رآسة البرلمان وأتم مع زميله ميخائيل كولنس المفاوضات مع إنكلترا. وعلى اثر عقد المعاهدة انسحبت القوات البريطانية من ارلنده الجنوبية، وأقيمت حكومة مؤقتة برآسة ميخائيل كولنس، وقامت دولة ارلنده الحرة طبقاً لنصوص المعاهدة. وأجريت في يونيه انتخابات جاءت بأغلبية في صف المعاهدة، ولكن الجناح الجمهوري المتطرف لبث على موقفه يعارض المعاهدة بكل شدة، ودب الخلاف في صفوف (السين فين)، واخذ كل فريق يرمي الأخر بالمروق والخيانة، واستعملت الحكومة الجديدة العنف في قمع خصومها، فرد هؤلاء بالعنف والعدوان، واغتيل كولنس في أغسطس وتوفي جريفيث قبله بأيام، فتولى الزعيم كوزجريف رآسة الجمهورية، وشدد على الجمهوريين ووضع الدستور الارلندي الجديد في دائرة معاهدة لندن، ونص على أن الشعب الارلندي هو مصدر جميع السلطات، وعلى أن البرلمان قوامه الملك ومجلسان هما (الديل) ومجلس الشيوخ، وعلى أن اللغة الارلندية (الجايلقية) هي لغة الدولة. وأنشئ جيش ايرلندي وطني. وعين الزعيم الارلندي هيلي حاكماً عاماً (ثم خلفه الزعيم ماكنيل) ليمثل حقوق التاج.

- 3 -

استطاعت السياسة البريطانية ان تجعل من المعاهدة الارلندية أداة لتمزيق الحركة القومية الارلندية، وشطر السين فين إلى فريقين خصيمين وفق ما قدمنا، ولبث فريق الأغلبية وهو الجناح الذي قبل المعاهدة وعمل لتنفيذها قابضاً على ناصية الحكم بزعامة مستر كوزجريف رئيس الحكومة الارلندية مدى أعوام، ولبث فريق الأقلية بزعامة مستر دي فاليرا موضع الاضطهاد والمطاردة، وسارت دولة ارلنده الحرة في الطريق الذي رسمته معاهدة لندن، والتحقت بعصبة الأمم منذ عام 1923. ولكن حزب السين فين الجمهوري لم يفتر عزمه ولم يتحول عن سياسته، وكان الاضطهاد الذي يلاقيه من عوامل تقويته وازدياد أنصاره، وجاءت الانتخابات سنة 1927 مؤيدة لقوته ونفوذه، فنالت الحكومة فيها أقلية، ونال الجمهوريون أغلبية، ولكن الرئيس كوزجريف استطاع ببعض التدابير السياسية والبرلمانية أن يحتفظ بالحكم أعواما أخر. وفي فبراير سنة 1932 حصل الجمهوريون على أغلبية جديدة، فانسحب كوزجريف، واستولى الجمهوريون بزعامة دي فاليرا على الحكم؛ وبدأ عهد جديد من النضال الرسمي بين إنكلترا وارلنده هو الذي نشهده اليوم.

ويجب أن نذكر كلمة عن دي فاليرا زعيم ارلنده الحالي. فقد ولد ايمون دي فاليرا سنة 1882 في نيويورك من أب إسباني وأم أيرلندية، ودرس في معاهد ارلنده، وتخصص في العلوم الرياضية ونال عدة إجازات جامعية، وتولى التدريس حيناً، ثم انتظم في الحركة الوطنية وخاض غمار السياسة، وانضم إلى حزب السين فين، وظهر في زعامته بسرعة، وكان من زعماء ثورة سنة 1916، فأسر وقضي عليه بالإعدام وخفف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. ثم أفرج عنه عند صدور العفو العام في سنة 1917 وعاد فتزعم حركة السين فين وأصبح قائدها ورأسها المدبر، وانتخب رئيساً (لجمهورية ارلنده) فاعتقل ثانية، ثم فر في سنة 1919 إلى أمريكا وعاد بعد عامين إلى ارلنده، واشترك في مفاوضات معاهدة لندن، ولكنه لم يقبل النتائج التي انتهت اليها؛ وشهر الخصومة على المعاهدة منذ عقدها؛ وأعلن الثورة على دولة ارلنده، فقبض عليه في أغسطس سنة 1923، وافرج عنه بعد عام، فعاد إلى النضال السياسي، ودخل البرلمان سنة 1927 على رأس كتلة جمهورية قوية، وتولى رياسة الحكومة الارلندية منذ أوائل سنة 1932.

وأبدى دي فاليرا مذ قبض على ناصية الحكم عزمه على تنفيذ البرنامج القومي الجمهوري، وخلاصته العمل على تحقيق الاستقلال التام لارلنده الموحدة في ظل النظام الجمهوري؛ وإلغاء كل ما فرض عليها من رسوم التبعية البريطانية. ذلك لأن معاهدة لندن شطرت ارلنده إلى شطرين: ارلنده الشمالية أو ألصتر وأعمالها، وقد بقيت في حوزة بريطانيا العظمى؛ ويبلغ سكانها مليون وربع نسمة؛ وتشمل أغنى بقاع ارلنده وبها أهم المراكز الصناعية وهي بروتستانتية المذهب. وارلنده الجنوبية وهي التي تناولتها المعاهدة وجعلتها دولة حرة؛ ويبلغ سكانها ثلاثة ملايين؛ وهي بلد زراعي؛ وتسودها الكثلكة. فمعاهدة لندن تمزق الوحدة الارلندية في الواقع. ولكن يرد على ذلك أن ارلنده الشمالية قد استعمرها الإنكليز منذ بعيد وهي تود البقاء كجزء من المملكة المتحدة، وهذا ما لا يسلم به الشعب الارلندي.

واما فروض التبعية البريطانية التي يراد إلغاؤها فهي: (1) يمين الولاء والطاعة للتاج البريطاني (وقد ألغي، بالفعل بقانون أصدرته حكومة دي فاليرا) و (2) استئناف أحكام المحكمة الارلندية العليا إلى مجلس الملك الخاص و (3) حق الحاكم العام في تحديد الأبواب التي تنفق فيها الأموال العامة، وحق التصديق على القوانين. وأخيراً يراد إلغاء الديون الزراعية التي تلزم ارلنده بأدائها لإنكلترا، وتراها ارلنده ظالمة مرهقة ولا يحق أداؤها لأن الأراضي التي تؤدى عنها ملك للشعب الارلندي.

وقد شهدنا الفصل الأول من هذا النضال الذي تشهره اليوم ارلنده على بريطانيا العظمى حينما قدم دي فاليرا قانون إلغاء يمين الطاعة إلى البرلمان الأرلندي، وامتنع عن أداء الأقساط الزراعية وقام بين البلدين من جراء ذلك جدل سياسي عنيف، واتخذت بريطانيا اجراءات اقتصادية شديدة ضد ارلنده؛ وعمد دي فاليرا إلى المثل. واليوم نشهد فصلاً آخر؛ فان دي فاليرا يريد إعلان الجمهورية في ارلنده؛ وقد وجه بالفعل مذكرة رسمية بذلك إلى الحكومة البريطانية يطلب فيها إيضاح موقفها فيما لو تم هذا الأجراء، فردت عليه الحكومة البريطانية بأنها لا ترى إبداء الرأي في احتمالات لم تقع وتستبعد وقوعها لأنها تكون خرقا للمعاهدة المعهودة.

ولكن دي فاليرا ماض في طريقه، مصر على سياسته، وإن كان يجد معارضة لهذه السياسة من فريق كوزجريف، وفريق الجنرال (أو دوفي) (القمصان الزرقاء) اذ يخشيان عواقب هذا العنف على مصير ارلنده ومصالحها الأقتصادية، وهذه المصالح أشد ما تكون ارتباطاً ببريطانيا العظمى وتوقفاً عليها.

فهل ينجح دي فاليرا في تحقيق برنامجه القومي المتطرف، وإنشاء ارلنده الجديدة مطلقة الاستقلال والحرية في ظل النظام الجمهوري؟

هذا ما سيكشف المستقبل القريب عنه.