مجلة الرسالة/العدد 240/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 240/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 02 - 1938



إلى حياة روحية

2 - في منزل الوحي

بقلم الدكتور محمد حسين هيكل بك

للأديب محمد فهمي عبد اللطيف

إلى حياة روحية تسمو بالنفس، وتضيء القلب، وتهذب العواطف، وتحد من النزعات والأهواء، وتصل أسبابنا بالسماء. . هذا هو ما يدعو إليه هيكل ويحبذه، بعد أن شهد ما شهد من مظاهر الحياة الروحية من آثار النبي العربي، ورأى كيف يفعل الإيمان الأعاجيب في مواطن لولاه ما كان للإنسان بها طاقة؛ ويعجب هيكل من الذين ينكرون الحياة الروحية ويتنكبون طريقها، ويسأل في تعجب واستنكار فيقول: (فما بال قوم في عصور وبلاد مختلفة جحدوا الحياة الروحية وكفروا بفضل الإيمان؟!) ثم يمضي هيكل ينعى على الماديين هذا الجحود لتلك الحياة، ويرده إلى خطأهم في فهم الحياة الروحية على حقيقتها، وتصويرهم لها تصويراً بعيداً عن الفهم والواقع، فهم يحسبونها خارجة على نطاق العقل، لا تخضع لقوانين العلم في تعليل الظواهر والمظاهر، مع أن سبيل الحياة الروحية الصميمة إنما هو الإحاطة بالعلم في أحدث ما وصل إليه، واتخاذه وسيلة للنظر في آيات الله وهي لا تنكر العقل إلا إذا قيد النظر وقُيد العقل معه، ومن ثم كان الجمود عدواً للحياة الروحية، ثم يلمع هيكل إلى الغاية من الحياة الروحية وصلتها بالنفوس فيقول: (والناس يستجيبون بطبيعتهم إلى الدعوة الروحية لأنهم يبغون الحق بفطرتهم، ولولا ما يمد لهم فيه دعاة المادة من أسباب الضلال إذ يغزونهم بمتع الحياة ولذاتها لانهارت فوراق كثيرة ليس يبقيها إلا هذا الضلال ولتقاربت الأمم بدل أن تتباعد، ولأخلصت القصد في سعيها إلى السلام بدل أن تجعل من نذر الحرب هياكل عبادتها، ولكانت خطا الإنسانية في سبيل التقدم ناحية الكمال أسرع وأهدى سبيلاً، ولو أن الناس لم يتنكبوا طريق الهدى لنعموا اليوم بما يلتمسونه من سعادة، ولعلهم تنكبوا هذا الطريق لأنهم بعد في جهالتهم، ولأن ما بلغوا من العلم لا يزال قاصراً دون هداهم والعلم الناقص داعية الضلال!) وهيكل إذ يقول: (إن الناس يستجيبون بطبيعتهم إلى الحياة الروحية لأنهم يبتغون الحق بفطرتهم) يقرر حقيقة قد قررها لدين، وجاء بها الإسلام، ففي القرآن الكريم (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها) وفي الحديث الشريف (كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه)، وهيكل إذ يرى أنه لولا ما يمده دعاة المادة من أسباب الضلال، لانهارت فوارق كثيرة ولتقاربت الأمم بدل أن تتباعد. إنما يرى حقيقة لا تنكر، بل إنها حقيقة يقررها كثير من أهل الفكر والثقافة، ويرونها الملجأ الذي سيلجأ إليه العالم بعد أن يضنيه وينهكه ذلك النضال المادي العنيف، ولقد كان من حسن التوافق أن أقرأ هذا الكلام لهيكل وقد وافتني جريدة الأهرام وفيها نبأ من لندن يقول: إن اجتماعاً عقد في (هيكل) العاصمة تحت رعاية جمعية الأديان المتعددة، وقد أوضحت السيدة الناطقة باسم هذه الجمعية أن غرضها إيجاد وحدة عالمية بواسطة التفاهم الروحي

وقد تكلم إمام جامع ووكنج فقال: (إن الوقت قد حان لجميع الأديان كي تدفن أحقادها، وتتحد على مقاومة موجة الكفر المتعالية، والتمسك بالأمور المادية في العالم وإهمال الأمور الروحية، وقال: إن جميع الأديان تأمر بالمعروف، وتنهي عن المنكر، فهي تشترك في وحدة أساسية، وهي تتفق على الإيمان بوجود الله وعلى تجلى الله للإنسانية، فيجب علينا إذن أن نتفاهم

وليطمئن هيكل وليطمئن إمام جامع ووكنج. فإن ذلك الحلم اللذيذ لابد أن يتحقق، لا أقول سيحققه فرد من الأفراد أو جماعة من الجماعة، وإنما أقول سيحققه الزمن بسنته وطبيعته وأفاعيله، وغداً سنرى وإن كنت لا أعلم متى يكون ذلك الغد أفي القريب أم في البعيد، ولكني لست مع الدكتور هيكل إذ يعلل جحود الماديين للحياة الروحية بالجهل ونقص العلم، فإن في الماديين الجاحدين أساطين العلم، ومن هم في الذروة التي لا نطاول عقلاً وثقافة، وإنما يرجع هذا الجمود على ما نرى إلى اعتقاد يقوم في أذهان أولئك الناس، وهو أن العقل كل شيء في الحياة، لا قول إلا قوله، ولا منطق إلا منطقه، فمن الواجب أن نُخضع لمنطقه كل ما نرى من المظاهر والظواهر، حتى ما يتصل بميولنا وعواطفنا، وفاتهم أن هناك القلب، يجب أن نجعل له اعتباراً كبيراً في شؤون الحياة، إلى جانب العقل، ويجب أن نعتقد بأن له منطقاً كمنطق العقل إن لم يكن أجل وأدق، وهو وحده الذي يشعرنا في رحلة الحياة الشاقة ببرد الراحة، ويقع من نفوسنا اللاغبة موقع الماء العذب من نفس الصادي في اليهماء القاحلة، ولا شك أننا لو طاوعنا هؤلاء الناس وجعلنا العقل كل شيء لصارت الحياة جحيما لا تطاق، ولفررنا من شقائها كما يفر الناس في هذه الأيام بالموت والأنتحار، بل ولتمردنا على كثير من النظم والأوضاع والشرائع الطيبة الصالحة التي تكفل السعادة للمجتمع، والتي لا يمكن أن يجحدها الماديون أنفسهم، وأنت أبقاك الله تأمل في نفسك ساعة وانظر فيما يحف بك من النظم الاجتماعية والقيود الثقيلة التي تربطك بالمجتمع الذي تعيش فيه، والسلاسل والأغلال التي تثقل جيدك وتنقض ظهرك من واجبات نحو الأسرة والأب والأم والزوجة والوطن والدين والتقاليد وفكرات الشرف والعرض وما إلى ذلك، واستسلم إلى العقل وحده وانزل على حكمه في تلك الأمور عامتها تجده يجيبك عليها جواباً لا يرضاه العقل نفسه، لأن الطبيعة قد خصت الإنسان بشيء يمتلك ناصية عقله ويتحكم فيه التحكم كله، شيء آت من الناحية الروحية القلبية التي هي مصدر العواطف والمشاعر والتي هي مسيطر عليها، وإذن فالعقل ليس كل شيء في الحياة كما يزعم الماديون، وعبثاً حاول بعض الفلاسفة أن يجعلوا العقل حد الدين، وأن يشرعوا للناس المذاهب الفلسفية النفعية، فنشروا كتباً (في دين الطبيعة) لتأييد مذهبهم، وموهوا على الناس إذ زعموا أن العلم ينافي الدين، فوقع الإنسان في مأزق من مآزق البعد عن الشريعة الأدبية كاد يتداعى معه أساس المدنية، حاول هؤلاء أن يجدوا في عقل الإنسان وحده هادياً ومرشداً أميناً بصفته فرداً صالحاً من مجموع إنساني، يختط له خطة من السلوك والأخلاق جديرة بأن تحفظ نظام الهيئة البشرية التي يجب أن تقوم على أساس من الإحساس الأدبي، أخفقوا سعياً وضلوا سبيلاً، لأن الطبيعة لم تحبُ الإنسان بشيء من هذا. رجع الناس بعد ذلك مؤمنين بأن وازع ما بعد العقلية، أول عنصر من عناصر المعتقد الديني بل نواته، وأنه الضابط الذي يضبط علاقة الفرد بالجماعة في كل حالة من الحالات

ولكن أي لون من ألوان هذه الحياة الروحية يجب أن يختار الشرق حتى يفوز بالغاية؟!

يرى بعض المفكرين في مصر أن لون الحياة الغربية هو اللون الصالح، فراحوا ينقلون للشرق آثار الغرب في ذلك ما وسعهم النقل؛ وقد كان هيكل على هذا الرأي من قبل، ولكنه خرج عليه إذ لمس فيه الخطأ الواضح، وهو يتحدث عن ذلك فيقول: (لقد خيل إلي زمناً - كما لا يزال يخيل إلى أصحابي - أن نقل حياة الغرب العقلية والروحية سبيلنا إلى النهوض، وما أزال أشارك أصحابي في أنا ما نزال في حاجة إلى أن ننقل من حياة الغرب العقلية كل ما نستطيع نقله، لكني أصبحت أخالفهم في أمر الحياة الروحية، وأرى أن ما في الغرب منها غير صالح لأن ننقله، لأن تاريخنا الروحي غير تاريخ الغرب، وثقافتنا الروحية غير ثقافته) وبعد أن يكشف عن وجه الفرق في ذلك يدل على اللون الصالح للشرق من الحياة الروحية، وهو في كلامه يتحدث عن خبرة وتجربة فيقول: وقد حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية والروحية لنتخذهما هدى ونبراساً، لكنني أدركت بعد لأي أنني أضع البذر في غير منبته، ورأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة تحرك النفوس وتجعلها تهتز وتربو، ولأبناء الشرق في هذا الجيل نفوس قوية خصبة تنمو فيها الفكرة الصالحة لتؤتي ثمرها بعد حين

وهذا كلام أصاب فيه هيكل شاكلة الصواب، وشرحه شرحاً وافياً كافياً في منزل الوحي، فجاء كتابه صفحة روحية مشرقة، وفكرة صالحة يجب أن يطالعها أبناء الشرق لتنمو في نفوسهم، فتؤتى ثمرها الطيب

محمد فهمي عبد اللطيف